الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر بعض سيرة الأمين  

            لما ملك الأمين وكاتبه المأمون ، وأعطاه بيعته - طلب الخصيان وأتباعهم وغالى فيهم ، فصيرهم لخلوته ليله ونهاره ، وقوام طعامه وشرابه ، وأمره ونهيه ، وفرض لهم فرضا سماهم الجرادية ، وفرضا من الحبشان سماهم الغرابية ، ورفض النساء الحرائر والإماء ، حتى رمي بهن ، وقيل فيه الأشعار ، فمما قيل فيه :

            ألا يا أيها الثاوي بطوس عزيبا ما يفادى بالنفوس     لقد أبقيت للخصيان هقلا
            تحمل منهم شؤم البسوس     فأما نوفل فالشأن فيه
            وفي بدر ، فيالك من جليس     وما للمعصمي شيء لديه إذا
            ذكروا بذي سهم خسيس     وما حسن الصغير أخس حا
            لا لديه عند مخترق الكئوس     لهم من عمره شطر وشط
            ر يعاقر فيه شرب الخندريس     وما للغانيات لديه حظ
            سوى التقطيب بالوجه العبوس     إذا كان الرئيس كذا سقيما
            فكيف صلاحنا بعد الرئيس     فلو علم المقيم بدار طوس
            لعز على المقيم بدار طوس

            ثم وجه إلى جميع البلدان في طلب الملهين ، وضمهم إليه ، وأجرى عليهم الأرزاق ، واحتجب عن أخويه وأهل بيته ، واستخف بهم وبقواده ، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجواهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه ، وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته ، ومواضع خلواته ولهوه ولعبه ، وعمل خمس حراقات في دجلة على صورة الأسد ، والفيل ، والعقاب ، والحية ، والفرس ، وأنفق في عملها مالا عظيما ، فقال أبو نواس في ذلك :

            سخر الله للأمين مطايا     لم تسخر لصاحب المحراب
            فإذا ما ركابه سرن برا سار في     الماء راكبا ليث غاب
            عجب الناس إذ رأوك على     صورة ليث تمر مر السحاب
            سبحوا إذ رأوك سرت عليه     كيف لو أبصروك فوق العقاب
            ذات زور ومنسر وجناحي     ن تشق العباب بعد العباب
            تسبق الطير في السماء إذا     ما استعجلوها بجيئة وذهاب



            قال الكوثر : أمر الأمين أن يفرش له على دكان في الخلد يوما ، ففرش عليها بساط زرعي ، ونمارق ، وفرش مثله ، وهيئ من آنية الذهب والفضة والجواهر أمر عظيم ، وأمر قيمة جواريه أن تهيئ له مائة جارية صانعة ، فتصعد إليه عشرا عشرا بأيديهن العيدان ، يغنين بصوت واحد ، فأصعدت إليه عشرا ، فاندفعن يغنين بصوت واحد :

            هم قتلوه كي يكونوا مكانه     كما غدرت يوما بكسرى مرازبه


            فسبهن وطردهن ، ثم أمرها فأصعدت عشرا غيرهن فغنينه :

            من كان مسرورا بمقتل مالك     فليأت نسوتنا بوجه نهار


            ففعل ما فعله ، وأطرق طويلا ، ثم قال : أصعدي عشرا . فأصعدتهن فغنين :

            كليب لعمري كان أكثر ناصرا     وأيسر جرما منك ضرج بالدم


            فقام من مجلسه ، وأمر بهدم الدكان ، تطيرا مما كان .

            قيل : وذكر محمد الأمين عند الفضل بن سهل بخراسان ، فقال : كيف لا يستحل قتل محمد وشاعره يقول في مجلسه :

            ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر     ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر



            فبلغت القصة الأمين ، فحبس أبا نواس .

            ولم نجد في سيرته ما يستحسن ذكره من حلم ، أو معدلة ، أو تجربة ، حتى نذكرها ، وهذا القدر كاف . [من شعر الأمين   ]

            ومن شعر الأمين يخاطب أخاه المأمون ويعيره بأمه ، لما بلغه عنه أنه يعدد مثالبه ، ويفضل نفسه عليه ، أنشده الصولي :


            لا تفخرن عليك بعد بقية     والفخر يكمل للفتى المتكامل
            وإذا تطاولت الرجال بفضلها     فاربع; فإنك لست بالمتطاول
            أعطاك ربك ما هويت وإنما     تلقى خلاف هواك عند مراجل
            تعلو المنابر كل يوم آملا     ما لست من بعدي إليه بواصل
            فتعيب من يعلو عليك بفضله     وتعيد في حقي مقال الباطل

            قلت : هذا نظم عال ، فإن كان له . . . فهو أحسن من نظم أخيه وأبيه .

            قال الصولي : ومما رواه جماعة له في خادمه كوثر ، وقد سقاه وهو على بساط نرجس والبدر قد طلع ، وقد رواه بعضهم للحسين بن الضحاك الخليع ، وكان نديمه لا يفارقه :


            وصف البدر حسن وجهك حتى     خلت أني أراك وما أراكا
            وإذا ما تنفس النرجس الغـ     ـض توهمته نسيم ثناكا
            خدع للمنى تعللني في     ك بإشراق ذا ونكهة ذاكا
            لأقيمن ما حييت على الشك     ر لهذا وذاك؛ إذا حكياكا

            وله في خادمه أيضا :


            ما يريد الناس من صـ     ـب بمن يهوى كئيب
            كوثر ديني ودنيا     ي وسقمي وطبيبي
            أعجز الناس الذي يلـ     ـحى محبا في حبيب

            وله لما يئس من الملك وعلا عليه طاهر :


            يا نفس قد حق الحذر     أين المفر من القدر ؟
            كل امرئ مما يخا     ف ويرتجيه على خطر
            من يرتشف صفو الزما     ن يغص يوما بالكدر

            [رسالة الأمين إلى طاهر بن الحسين   ]

            وأسند الصولي : أن الأمين قال لكاتبه : (اكتب : من عبد الله محمد أمير المؤمنين إلى طاهر بن الحسين ، سلام عليك ، أما بعد : فإن الأمر قد خرج بيني وبين أخي إلى هتك الستور وكشف الحرم ، ولست آمن أن يطمع في هذا الأمر السحيق البعيد; لشتات ألفتنا ، واختلاف كلمتنا ، وقد رضيت أن تكتب إلي أمانا; لأخرج إلى أخي ، فإن تفضل علي . . . فأهل ذلك ، وإن قتلني . . . فمروءة كسرت مروءة ، وصمصامة قطعت صمصامة ، ولأن يفترسني السبع أحب إلي من أن ينبحني الكلب ! ! فأبى طاهر عليه ) .

            وأسند عن إسماعيل بن أبي محمد اليزيدي قال : (كان أبي يكلم الأمين والمأمون بكلام يتفصحان به ويقول : كان أولاد الخلفاء من بني أمية يخرج بهم إلى البدو حتى يتفصحوا ، وأنتم أولى بالفصاحة منهم ) . [حديث واحد من رواية الأمين   ]

            قال الصولي : ولا نعرف للأمين رواية في الحديث إلا هذا الحديث الواحد : حدثنا المغيرة بن محمد المهلبي قال : رأيت عند الحسين بن الضحاك جماعة من بني هاشم فيهم بعض أولاد المتوكل ، فسألوه عن الأمين وأدبه  ، فوصف الحسين أدبا كثيرا ، قيل : فالفقه ؟ قال : كان المأمون أفقه منه ، قيل : فالحديث ؟ قال : ما سمعت منه حديثا إلا مرة; فإنه نعي إليه غلام له مات بمكة ، فقال بسنده عن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : «من مات محرما . . . حشر ملبيا» .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية