الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين

            ذكر قدوم الأفشين ببابك  

            في هذه السنة قدم الأفشين إلى سامرا ، ومعه بابك الخرمي وأخوه عبد الله ، في صفر سنة ثلاث وعشرين ومائتين ، وكان المعتصم يوجه إلى الأفشين في كل يوم ، من حين سار من برزند إلى أن وافى سامرا ، خلعة وفرسا فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون الواثق بن المعتصم ، وأهل بيت المعتصم ، وأنزل الأفشين بابك عنده في قصره بالمطيرة ، فأتاه أحمد بن أبي دؤاد متنكرا ، فنظر إلى بابك وكلمه ، ورجع إلى المعتصم فوصفه له ، فأتاه المعتصم أيضا متنكرا فرآه .

            فلما كان الغد قعد المعتصم ، واصطف الناس من باب العامة إلى المطيرة ، فشهره المعتصم ، وأمر أن يركب على الفيل ، فركب عليه ، واستشرفه الناس إلى باب العامة ، فقال محمد بن عبد الملك الزيات :

            قد خضب الفيل كعادته يحمل شيطان خراسان والفيل لا تخصب أعضاؤه إلا لذي شأن من الشان ثم أدخل دار المعتصم ، فأمر بإحضار سياف بابك ، فحضر ، فأمره المعتصم أن يقطع يديه ورجليه ، فقطعها ، فسقط ، فأمره بذبحه ، ففعل ، ( وشق بطنه ) ، وأنفذ رأسه إلى خراسان ، وصلب بدنه بسامرا ، وأمر بحمل أخيه عبد الله إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداذ ، وأمره أن يفعل به ما فعل بأخيه بابك ، فعمل به ذلك ، وضرب عنقه ، وصلبه في الجانب الشرقي بين الجسرين .

            قيل : فكان الذي أخرج الأفشين من المال مدة مقامه بإزاء بابك ، سوى الأرزاق والأنزال والمعارف ، في كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم وفي [ كل ] يوم لا يركب فيه خمسة آلاف ، فكان جميع من قتل بابك في عشرين سنة مائتي ألف وخمسة وخمسين ألفا وخمس مائة إنسان ، وغلب من القواد يحيى بن معاذ ، وعيسى بن محمد بن أبي خالد ، وأحمد بن الجنيد فأسره ، وزريق بن علي بن صدقة ، ومحمد بن حميد الطوسي ، وإبراهيم بن الليث .

            وكان الذين أسروا مع بابك ثلاثة آلاف وثلاثمائة وتسعة أناسي ، واستنقذ ممن كان في يده من المسلمات وأولادهن سبعة آلاف وستمائة إنسان ، وصار في يد الأفشين من بني بابك سبعة عشر رجلا ، ومن البنات والنساء ثلاث وعشرون امرأة .

            ولما وصل الأفشين توجه المعتصم وألبسه بالجوهر ، ووصله بعشرين ألف ألف درهم وعشرة آلاف يفرقها في عسكره ، وعقد له على السند ، وأدخل عليه الشعراء يمدحونه . ذكر خروج الروم إلى زبطرة  

            وفي هذه السنة خرج توفيل بن ميخائيل ملك الروم إلى بلاد الإسلام ، وأوقع بأهل زبطرة وغيرها .

            وكان سبب ذلك أن بابك لما ضيق الأفشين عليه ، وأشرف على الهلاك ، كتب إلى ملك الروم توفيل يعلمه أن المعتصم قد وجه عساكره ومقاتلته إليه ، حتى وجه خياطه ، يعني جعفر بن دينار الخياط ، وطباخه ، يعني إيتاخ ، ولم يبق على بابه أحدا ! فإن أردت الخروج إليه فليس في وجهك أحد يمنعك .

            وظن بابك أن ملك الروم إن تحرك سيكشف عنه بعض ما هو فيه بإنفاذ العساكر إلى مقاتلة الروم ، فخرج توفيل في مائة ألف ، وقيل : أكثرهم من الجند نيف وسبعون ألفا ، وبقيتهم أتباع ، ( ومعهم من المحمرة ) الذين كانوا خرجوا بالجبال فلحقوا بالروم حين قاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب جماعة ، فبلغ زبطرة ، فقتل من بها من الرجال ، وسبى الذرية والنساء ، وأغار على أهل ملطية وغيرها من حصون المسلمين ، وسبى المسلمات ، ومثل بمن صار في يده من المسلمين وسمل أعينهم ، وقطع أنوفهم وآذانهم ، فخرج إليهم أهل الثغور من الشام والجزيرة ، إلا من لم يكن له دابة ولا سلاح . ذكر فتح عمورية  

            لما خرج ملك الروم ، وفعل في بلاد الإسلام ما فعل ، بلغ الخبر إلى المعتصم ، فلما بلغه ذلك استعظمه ، وكبر لديه ، وبلغه أن امرأة هاشمية صاحت ، وهي أسيرة في أيدي الروم : وامعتصماه ! فأجابها وهو جالس على سريره : لبيك لبيك ! ونهض من ساعته ، وصاح في قصره : النفير النفير ، ثم ركب دابته ، وسمط خلفه شكالا ، وسكة حديد ، وحقيبة فيها زاده ، فلم يمكنه المسير إلا بعد التعبئة وجمع العساكر ، فجلس في دار العامة ، وأحضر قاضي بغداد ، وهو عبد الرحمن بن إسحاق ، وشعبة بن سهل ، ومعهما ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلا من أهل العدالة ، فأشهدهم على ما وقف من الضياع ، فجعل ثلثا لولده ، وثلثا لله تعالى ، وثلثا لمواليه .

            ثم سار فعسكر بغربي دجلة لليلتين خلتا من جمادى الأولى ، ووجه عجيف بن عنبسة ، وعمر الفرغاني ، ومحمد كوتاه ، وجماعة من القواد إلى زبطرة معونة لأهلها ، فوجدوا ملك الروم قد انصرف عنها إلى بلاده ، بعدما فعل ما ذكرناه ، فوقفوا حتى تراجع الناس إلى قراهم ( واطمأنوا .

            فلما ظفر المعتصم ببابك قال : أي بلاد الروم أمنع وأحصن ؟ فقيل : عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام ، وهي عين النصرانية ، وهي أشرف عندهم ) من القسطنطينية . فسار المعتصم بسر من رأى .

            وقيل كان مسيره سنة اثنتين وعشرين .

            وقيل سنة أربع وعشرين .

            وتجهز جهازا لم يتجهزه خليفة قبله قط من السلاح ، والعدد ، والآلة ، وحياض الأدم ، والروايا ، والقرب ، وغير ذلك ، وجعل على مقدمته أشناس ، ويتلوه محمد بن إبراهيم بن مصعب ، وعلى ميمنته إيتاخ ، وعلى ميسرته جعفر بن دينار بن عبد الله الخياط ، وعلى القلب عجيف بن عنبسة ، فلما دخل بلاد الروم نزل على نهر السن ، وهو على سلوقية ، قريبا من البحر ، بينه وبين طرسوس مسيرة يوم ، وعليه يكون الفداء .

            وأمضى المعتصم الأفشين إلى سروج ، وأمره بالدخول من درب الحدث ، وسمى له يوما يكون دخوله فيه ، ويوما يكون اجتماعهم فيه ، وسير أشناس من درب طرسوس ، وأمره بانتظاره بالصفصاف ، فكان مسير أشناس لثمان بقين من رجب ، وقدم المعتصم وصيفا في أثر أشناس ، ( ورحل المعتصم لست بقين من رجب .

            فلما صار " أشناس " ) بمرج أسقف ، ورد عليه كتاب المعتصم ، ( من المطامير يعلمه أن ملك الروم بين يديه ، وأنه يريد [ أن ] يكسبهم ، ويأمر بالمقام إلى أن يصل إليه ، فأقام ثلاثة أيام فورد عليه كتاب المعتصم ) يأمره أن يوجه قائدا من قواده [ في ] سرية يلتمسون رجلا من الروم يسألونه عن خبر الملك ، فوجه أشناس عمر الفرغاني في مائتي فارس ، فدخل حتى بلغ أنقرة ، وفرق أصحابه في طلب رجل رومي ، فأتوه بجماعة بعضهم من ( عسكر الملك ، وبعضهم من ) السواد ، فأحضرهم عند أشناس ، فسألهم عن الخبر ، فأخبروه أن الملك مقيم أكثر من ثلاثين يوما ينتظر مقدمة المعتصم ليواقعهم فأتاه الخبر بأن عسكرا عظيما قد دخل بلادهم من ناحية الأرمنياق ، يعني عسكر الأفشين ، قالوا : فلما أخبر استخلف ابن خاله على عسكره ، وسار يريد ناحية الأفشين ، فوجه أشناس بهم إلى المعتصم ، فأخبروه الخبر ، فكتب المعتصم كتابا إلى الأفشين يعلمه أن ملك الروم قد توجه إليه ، ويأمره أن يقيم مكانه ، خوفا عليه من الروم ، إلى أن يرد عليه كتابه ، وضمن لمن يوصل كتابه إلى الأفشين عشرة آلاف درهم .

            فسارت الرسل بالكتاب إلى الأفشين ، فلم يروه لأنه أوغل في بلاد الروم وكتب المعتصم إلى أشناس يأمره بالتقدم ، فتقدم والمعتصم من ورائه ، فلما رحل أشناس نزل المعتصم مكانه ، حتى صار بينه وبين أنقرة ثلاث مراحل ، فضاق عسكر المعتصم ضيقا شديدا من الماء والعلف .

            وكان أشناس قد أسر في طريقه عدة أسرى ، فضرب أعناقهم حتى بقي منهم شيخ كبير ، فقال له : ما تنتفع بقتلي ، وأنت وعسكرك في ضيق ، وهاهنا قوم قد هربوا من أنقرة خوفا منكم ، وهم بالقرب منا ، معهم الطعام والشعير وغيرهما ، فوجه معي قوما لأسلمهم إليهم ، وخل سبيلي ! فسير معه خمسمائة فارس ، ودفع الشيخ إلى مالك بن كيدر ، وقال له : متى أراك هذا الشيخ سبيا كثيرا ، أو غنيمة كبيرة ، فخل سبيله .

            فسار بهم الشيخ ، فأوردهم على واد وحشيش ، فأمرجوا دوابهم ، وشربوا وأكلوا ، وساروا حتى خرجوا من الغيضة ، وسار بهم الشيخ حتى أتى جبلا ، فنزله ليلا ، فلما أصبحوا قال الشيخ : وجهوا رجلين يصعدان هذا الجبل ، فينظرا ما فوق ، فيأخذان من أدركا ! فصعد أربعة ، فأخذوا رجلا وامرأة ، فسألهما الشيخ عن أهل أنقرة ، فدلاه عليهم ، فسار بالناس حتى أشرف على أهل أنقرة ، وهم في طرف ملاحة ، فلما رأوا العسكر أدخلوا النساء والصبيان الملاحة ، وقاتلوهم على طرفها ، وغنم المسلمون منهم وأخذوا من الروم عدة أسرى ، وفيهم من فيه جراحات عتق ( متقدمة ) فسألوهم عن تلك الجراحات ، فقالوا : كنا في وقعة الملك مع الأفشين ، وذلك أن الملك لما كان معسكرا أتاه الخبر بوصول الأفشين في عسكر ضخم ناحية الأرمنياق ، واستخلف على عسكره بعض أقربائه ، وسار إليهم ، فواقعناهم صلاة الغداة ، فهزمناهم ، وقتلنا رجالتهم كلهم ، وتقطعت عساكرنا في طلبهم ، فلما كان الظهر رجع فرسانهم ، فقاتلونا قتالا شديدا حتى خرقوا عسكرنا ، واختلطوا بنا ، فلم ندر أين الملك ، وانهزمنا منهم ، ورجعنا إلى معسكر الملك الذي خلفه ، فوجدنا العسكر قد انتقض ، وانصرفوا عن قرابة الملك .

            فلما كان الغد جاء الملك في جماعة يسيرة ، فرأى عسكره قد اختل ، وأخذ الذي كان استخلفه عليهم ، فضرب عنقه ، وكتب إلى المدن والحصون أن لا يأخذوا أحدا انصرف من العسكر إلا ضربوه بالسياط ، وردوه إلى مكان سماه لهم الملك ، ليجتمع إليه الناس ، ويلقى المسلمين ، وأن الملك وجه خصيا له إلى أنقرة ; ليحفظ أهلها ، فرآهم قد أجلوا عنها ، فكتب إلى الملك بذلك ، فأمره بالمسير إلى عمورية ، فرجع مالك بن كيدر بما معهم من الغنيمة والأسرى إلى عسكر أشناس ، وغنموا في طريقهم ، بقرا ، وغنما كثيرا ، فلما بلغ مالك بن كيدر عسكر أشناس أخبره بما سمع ، فأعلم المعتصم بذلك ، فسر به .

            فلما كان بعد ثلاثة أيام جاء البشير من ناحية الأفشين بخبر السلامة ، وكانت الوقعة لخمس بقين من شعبان ، فلما كان الغد قدم الأفشين على المعتصم وهو بأنقرة ، فأقاموا ثلاثة أيام .

            ثم جعل المعتصم العسكر ثلاثة عساكر : عسكر فيه أشناس في الميسرة ، والمعتصم في القلب ، وعسكر الأفشين في الميمنة ، وبين كل عسكر وعسكر فرسخان ، وأمر كل عسكر أن يكون له ميمنة وميسرة ، وأمرهم أن يحرقوا القرى ، ويخربوها ، ويأخذوا من لحقوا فيها ، ثم ترجع كل طائفة إلى صاحبها ، يفعلون ذلك في ما بين أنقرة وعمورية ، وبينهما سبع مراحل ، ففعلوا ذلك حتى وافوا عمورية .

            وكان أول من وردها أشناس ، ثم المعتصم ، ثم الأفشين ، فداروا حولها ، وقسمها بين القواد ، وجعل لكل واحد منهم أبراجا منها على قدر أصحابه .

            وكان رجل من المسلمين قد أسره الروم بعمورية ، فتنصر ، فلما رأى المسلمين خرج إليهم ، فأخبر المعتصم أن موضعا من المدينة وقع سوره من سيل أتاه ، فكتب الملك إلى عامل عمورية ليعمره ، فتوانى ، فلما خرج الملك من القسطنطينية خاف العامل أن يرى السور خرابا ، فبنى وجهه حجرا حجرا ، وعمل الشرف على ( جسر ) خشب ، فرأى المعتصم ذلك المكان ، فأمر بضرب خيمته هناك ، ونصب المجانيق على ذلك الموضع ، فانفرج السور من ذلك الموضع .

            فلما رأى الروم ذلك جعلوا عليه خشبا كبارا كل عود يلزق الآخر ، وكان المنجنيق يكسر الخشب ، فجعلوا عليه براذع ، فلما ألحت المجانيق على ذلك الموضع تصدع السور ، وكتب الخصي ، وبطريق عمورية - واسمه ناطس - كتابا إلى ملك الروم يعلمه أمر السور ، وسيره مع رجلين ، فأخذهما المسلمون ، وسألهما المعتصم ، وفتشهما ، فرأى الكتاب ، وفيه أن العسكر قد أحاط بالمدينة ، وقد كان دخوله إليها خطأ ، وأن ناطس عازم على أن يركب في خاصته ليلا ، ويحمل على العسكر كائنا ما كان ، حتى يخلص ويسير إلى الملك ، فلما قرأ المعتصم الكتاب أمر لهما ببدرة ، وهي عشرة آلاف درهم ، وخلع ، فأسلما ، فأمر بهما ، فطافا حول عمورية ، وأن يقفا مقابل البرج الذي فيه ناطس ، ( فوقفا وعليهما الخلع ، والأموال بين أيديهما ، فعرفهما ناطس ) ومن معه من الروم ، فشتموهما .

            وأمر المعتصم بالاحتياط في الحراسة ليلا ونهارا ، فلم يزالوا كذلك حتى انهدم السور ما بين برجين من ذلك الموضع ، وكان المعتصم أمر أن يطم خندق عمورية بجلود الغنم المملوءة ترابا ، فطموه ، وعمل دبابات كبارا تسع كل دبابة عشرة رجال ليدحرجوها على الجلود إلى السور ، فدحرجوا واحدة منها ، فلما صارت في نصف الخندق تعلقت بتلك الجلود ، فما تخلص من فيها إلا بعد شدة وجهد ، وعمل سلاليم ومنجنيقات .

            فلما كان الغد من يوم انهدم السور قاتلهم على الثلمة ، فكان أول من بدأ بالحرب أشناس وأصحابه ، وكان الموضع ضيقا ، فلم يمكنهم الحرب فيه ، فأمدهم المعتصم بالمنجنيقات التي حول السور ، فجمع بعضها إلى بعض حول الثلمة وأمر أن يرمى ذلك الموضع .

            وكانت الحرب في اليوم الثاني عشر على الأفشين وأصحابه ، وأجادوا الحرب ، وتقدموا ، والمعتصم على دابته بإزاء الثلمة ، وأشناس والأفشين وخواص القواد معه ، فقال المعتصم : ما أحسن ما كان الحرب اليوم ! وقال عمر الفرغاني : الحرب اليوم أجود منها الأمس ، فأمسك أشناس .

            فلما انتصف النهار ، وانصرف المعتصم والناس ، وقرب أشناس من مضربه ، ترجل له القواد ، كما كانوا يفعلون ، وفيهم الفرغاني ، وأحمد بن الخليل بن هشام ، فقال لهم أشناس : يا أولاد الزنا ! إيش تمشون بين يدي ، كان ينبغي أن تقاتلوا أمس ؛ حيث تقفون بين يدي أمير المؤمنين ، فتقولون الحرب اليوم أجود منها أمس ، كان يقاتل أمس غيركم ، انصرفوا إلى مضاربكم ، فلما انصرف الفرغاني ، وأحمد بن الخليل ، قال أحدهما للآخر : ألا ترى إلى هذا العبد ابن الفاعلة ، يعني أشناس ، ما صنع اليوم ؟ أليس الدخول إلى الروم أهون من هذا ؟

            فقال الفرغاني لأحمد ، وكان عنده علم من العباس بن المأمون : سيكفيك الله أمره عن قريب ، فألح أحمد عليه ، فأخبره ، فأشار عليه أن يأتي العباس فيكون في أصحابه ، فقال أحمد : هذا أمر أظنه لا يتم ، قال الفرغاني : قد تم ، وأرشده إلى الحارث السمرقندي فأتاه ، فرفع الحارث خبره إلى العباس ، فكره العباس أن يعلم بشيء من أمره ، فأمسكوا عنه .

            فلما كان اليوم الثالث كانت الحرب على أصحاب المعتصم ، ومعهم المغاربة والأتراك ، وكان القيم بذلك إيتاخ ، فقاتلوا ، وأحسنوا ، واتسع لهم هدم السور ، فلم تزل الحرب كذلك حتى كثرت الجراحات في الروم .

            وكان بطارقة الروم قد اقتسموا أبراج السور ، وكان البطريق الموكل بهذه الناحية " وندوا " وتفسيره : ثور ، فقاتل ذلك اليوم قتالا شديدا ، وفي الأيام قبله ، ولم يمده ناطس ، ولا غيره بأحد ، فلما كان الليل مشى " وندوا " إلى الروم فقال : إن الحرب علي وعلى أصحابي ، ولم يبق معي أحد إلا جرح ، فصيروا أصحابكم على الثلمة يرمون قليلا ، وإلا ذهبت المدينة ، فلم يمدوه بأحد ، وقالوا : لا نمدك ولا تمدنا ، فعزم هو وأصحابه على الخروج إلى المعتصم يسألونه الأمان على الذرية ، ويسلمون إليه الحصن بما فيه .

            فلما أصبح وكل أصحابه بجانبي الثلمة وأمرهم أن لا يحاربوا ، وقال : أريد الخروج إلى المعتصم ، فخرج إليه فصار بين يديه ، والناس يتقدمون إلى الثلمة ، وقد أمسك الروم عن القتال ، حتى وصلوا إلى السور ، والروم يقولون : لا تخشوا ، وهم يتقدمون ، و " وندوا " جالس عند المعتصم ، فأركبه فرسا ، وتقدم الناس حتى صاروا في الثلمة ، وعبد الوهاب بن علي بين يدي المعتصم يومئ إلى المسلمين بالدخول ، فدخل الناس المدينة ، فالتفت " وندوا " وضرب بيده على لحيته ، فقال له المعتصم : ما لك ؟ قال : جئت أسمع كلامك ، فغدرت بي ، قال المعتصم : كل شيء تريده فهو لك ، ولست أخالفك ، قال : إيش تخالفني ، وقد دخل الناس المدينة .

            وصار طائفة كبيرة من الروم إلى كنيسة كبيرة لهم ، فأحرقها المسلمون عليهم ، فهلكوا كلهم ، وكان ناطس في برجه ، حوله أصحابه ، فركب المعتصم ، ووقف مقابل ناطس ، فقيل له : يا ناطس ! هذا أمير المؤمنين ، وظهر من البرج وعليه سيف ، فنحاه عنه ، ونزل حتى وقف بين يديه ، فضربه سوطا ، وسار المعتصم إلى مضربه ، وقال : هاتوه ! فمشى قليلا ، فأمر المعتصم بحمله ، وأخذ السيف الروم ، وأقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه ، فأمر المعتصم أن يعزل منهم أهل الشرف ، ونقل من سواهم ، وأمر ببيع المغانم في عدة مواضع ، فبيع منها أكثر من خمسة أيام ، وأمر بالباقي فأحرق .

            وكان لا ينادي على شيء أكثر من ثلاثة أصوات ، ثم يوجب بيعه ، طلبا للسرعة ، وكان ينادي على الرقيق خمسة خمسة [ و ] عشرة عشرة ، طلبا للسرعة .

            ولما كان في بعض الأيام بيع المغانم ، وهو الذي كان عجيف وعد الناس أن يثور فيه بالمعتصم على ما نذكره ، وثب الناس على المغانم ، فركب المعتصم ، والسيف في يده ، وسار ركضا نحوهم ، فتنحوا عنها ، وكفوا عن النهب ، فرجع إلى مضربه ، وأمر بعمورية فهدمت وأحرقت ، وكان نزوله عليها لست خلون من شهر رمضان ، وأقام عليها خمسة وخمسين يوما ، وفرق الأسرى على القواد ، وسار نحو طرسوس . ذكر حبس العباس بن المأمون ومقتله  

            في هذه السنة حبس المعتصم العباس بن المأمون ، وأمر بلعنه .

            وكان سبب ذلك أن عجيف بن عنبسة لما وجهه المعتصم إلى بلاد الروم لما كان ملك الروم بزبطرة ، مع عمر الفرغاني ومحمد كوتاه ، لم يطلق يد عجيف في النفقات ، كما أطلقت يد الأفشين ، واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله ، وظهر ذلك لعجيف ، فوبخ العباس بن المأمون على ما تقدم من فعله عند وفاة المأمون ، حتى بايع المعتصم ، وشجعه على أن يتلافى ما كان منه .

            فقبل العباس قوله ، ودس رجلا يقال له الحارث السمرقندي ، قرابة عبيد الله بن الوضاح ، ( وكان العباس يأنس به ) ، وكان الحارث أديبا له عقل ومداراة ، فجعله العباس رسوله ، وسفيره إلى القواد ، وكان يدور في العسكر ، حتى استمال له جماعة من القواد ، وبايعوه وجماعة من خواص المعتصم ، وقال لكل من بايعه : إذا أظهرنا أمرنا فليثب كل منكم بالقائد الذي هو معه ، فوكل من بايعه من خواص المعتصم بقتله ، ومن بايعه من خاصة الأفشين بقتله ، ومن بايعه من خاصة أشناس بقتله ، وكذلك غيرهم فضمنوا له ذلك .

            فلما دخل الدرب ، وهم يريدون أنقرة وعمورية ، دخل الأفشين من ناحية ملطية ، فأشار عجيف على العباس أن يثب بالمعتصم في الدرب ، وهو في قلة من الناس ، فيقتله ويرجع إلى بغداذ ، ( فإن الناس يفرحون بانصرافهم إلى بغداذ ) من الغزو ، فأبى العباس ذلك ، وقال : لا أفسد هذه الغزوة ، حتى دخلوا بلاد الروم ، وافتتحوا عمورية ، فقال عجيف للعباس : يا نائم ! قد فتحت عمورية ، والرجل ممكن ، تضع قوما ينهبون بعض الغنائم ، فإذا بلغه ذلك ركب في سرعة ، فتأمر بقتله هناك ، فأبى عليه ، وقال : انتظر حتى يصير إلى الدروب ، ويخلو كما كان أول مرة ، وهو أمكن منه هاهنا .

            وكان عجيف قد أمر من ينهب المتاع ، ففعلوا ، وركب المعتصم ، وجاء ركضا ، وسكن الناس ، ولم يطلق العباس أحدا من أولئك الذين واعدهم وكرهوا قتله بغير أمر العباس .

            وكان الفرغاني قد بلغه الخبر ذلك اليوم ، وله قرابة غلام أمرد في خاصة المعتصم ، فجاء الغلام إلى ولد عمر الفرغاني ، وشرب عندهم تلك الليلة ، فأخبرهم خبر ركوب المعتصم ، وأنه كان معه ، وأمره أن يسل سيفه ويضرب كل من لقيه ، فسمع عمر ذلك من الغلام ، فأشفق عليه من أن يصاب فقال : يا بني ! أقلل من المقام عند أمير المؤمنين ، والزم خيمتك ، وإن سمعت صيحة وشغبا فلا تبرح ، فإنك غلام غر ، ولا تعرف العساكر ، فعرف مقالة عمر .

            وارتحل المعتصم إلى الثغور ، ووجه الأفشين ابن الأقطع ، وأمره أن يغير على بعض المواضع ، ويوافيه في الطريق ، فمضى وأغار ، وعاد إلى العسكر في بعض المنازل ومعه الغنائم ، فنزل بعسكر الأفشين ، وكان كل عسكر على حدة ، فتوجه عمر الفرغاني ، وأحمد بن الخليل من عسكر أشناس إلى عسكر الأفشين ليشتريا من السبي شيئا ، فلقيهما الأفشين فترجلا ، وسلما عليه ، وتوجها إلى الغنيمة ، فرآهما صاحب أشناس ، فأعلمه بهما ، فأرسل أشناس إليهما بعض أصحابه; لينظر ما يصنعان ، فجاء فرآهما وهما ينتظران بيع السبي ، فرجع ، فأخبر أشناس الخبر ، فقال أشناس لحاجبه : قل لهما يلزما العسكر ، وهو خير لهما ، فقال لهما ، فاغتما لذلك ، واتفقا على أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر ، فيستعفياه من أشناس ، فأتياه وقالا : نحن عبيد أمير المؤمنين ، فضمنا إلى من تشاء ، فإن هذا الرجل يستخف بنا ، قد شتمنا ، وتوعدنا ، ونحن نخاف أن يقدم علينا ، فليضمنا أمير المؤمنين إلى من أراد .

            ‌‌فأنهى ذلك إلى المعتصم ، واتفق على الرحيل‌‌‌‌‌ ، وسار أشناس والأفشين مع المعتصم ، فقال لأشناس : أحسن أدب عمر وأحمد ، فإنهما قد حمقا أنفسهما ! فجاء أشناس إلى عسكره ، فأخذهما ، وحبسهما ، وحملهما على بغل ، حتى صار بالصفصاف ، فجاء ذلك الغلام ، وحكى للمعتصم ما سمع من عمر الفرغاني في تلك الليلة ، فأنفذ المعتصم بغا ، وأخذ عمر من عند أشناس ، وسأله عن الذي قاله للغلام ، فأنكر ذلك ، وقال : إنه كان سكران ، ولم يعلم ما قلت ، فدفعه إلى إيتاخ ، وسار المعتصم ، فأنفذ أحمد بن الخليل إلى أشناس يقول له : إن عندي نصيحة لأمير المؤمنين ، فبعث إليه يسأله عنها ، فقال : لا أخبر بها إلا أمير المؤمنين ، فحلف أشناس : إن هو لم يخبرني بهذه النصيحة لأضربنه بالسياط حتى يموت .

            فلما سمع ذلك أحمد حضر عند أشناس ، وأخبره خبر العباس بن المأمون ، والقواد ، والحارث السمرقندي ، فأنفذ أشناس ، وأخذ الحارث وقيده وسيره إلى المعتصم ، وكان قد تقدم ، فلما دخل على المعتصم أخبره بالحال جميعه ، وبجميع من بايعهم من القواد وغيرهم ، فأطلقه المعتصم ، وخلع عليه ، ولم يصدق على أولئك القواد لكثرتهم .

            وأحضر المعتصم العباس بن المأمون وسقاه حتى سكر ، وحلفه أن لا يكتمه من أمره شيئا ، فشرح له أمره كله مثل ما شرح الحارث ، فأخذه وقيده وسلمه إلى الأفشين ، فحبسه عنده .

            وتتبع المعتصم أولئك القواد ، وكانوا يحملون في الطريق على بغال بأكف بلا وطاء ، وأخذ أيضا الشاه بن سهل ، وهو من أهل خراسان ، فقال له المعتصم : يا ابن الزانية ! أحسنت إليك فلم تشكر ، فقال : ابن الزانية هذا ، وأومأ إلى العباس ، وكان حاضرا ، لو تركني ما كنت الساعة تقدر أن تجلس هذا المجلس ، وتقول هذا الكلام ! فأمر به فضربت عنقه ، وهو أول من قتل منهم ، ودفع العباس إلى الأفشين .

            فلما نزل منبج طلب العباس بن المأمون الطعام ، فقدم إليه طعام كثير ، فأكل ، ومنع الماء ، وأدرج في مسح ، فمات بمنبج ، وصلى عليه بعض إخوته .

            وأما عمر الفرغاني فلما وصل المعتصم إلى نصيبين حفر له بئرا ، وألقاه فيها وطمها عليه .

            وأما عجيف فمات بباعيناثا من بلد الموصل ، وقيل بل أطعم طعاما كثيرا ، ومنع الماء ، حتى مات بباعيناثا .

            وتتبع جميعهم ، فلم يمض عليهم إلا أيام قلائل حتى ماتوا جميعا .

            ووصل المعتصم إلى سامرا سالما ، فسمى العباس يومئذ اللعين ، وأخذ أولاد المأمون من سندس ، فحبسهم في داره حتى ماتوا بعد .

            ومن أحسن ما يذكر أن محمد بن علي الإسكافي كان يتولى إقطاع عجيف ، فرفع أهله عليه إلى عجيف ، فأخذه ، وأراد قتله ، فبال في ثيابه خوفا من عجيف ، ثم شفع فيه ، فقيده وحبسه ، ثم سار إلى الروم ، وأخذه المعتصم ، كما ذكرنا ، وأطلق من كان في حبسه ، ( وكانوا جماعة ) منهم الإسكافي ، ثم استعمل على نواح بالجزيرة ، ومن جملتها باعيناثا ، قال : فخرجت يوما إلى تل باعيناثا ، فاحتجت إلى الوضوء ، فجئت إلى تل فبلت عليه ، ثم توضأت ونزلت ، وشيخ باعيناثا ينتظرني ، فقال لي : في هذا التل قبر عجيف ، وأرانيه ، فإذا [ أنا ] قد بلت عليه ، وكان بين الأمرين سنة لا تزيد يوما ولا تنقص يوما . ذكر وفاة زيادة الله بن الأغلب  

            وابتداء ولاية أخيه الأغلب

            في هذه السنة في الرابع عشر من رجب توفي زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب ، أمير إفريقية ، وكان عمره إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية أيام ، وكانت إمارته إحدى وعشرين سنة وسبعة أشهر ، وولي بعده أخوه أبو عفان الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب ، فأحسن إلى الجند ، وأزال مظالم كثيرة ، وزاد العمال في أرزاقهم ، وكف أيديهم عن الرعية ، وقطع النبيذ والخمر عن القيروان ، وسير سرية سنة أربع وعشرين ومائتين إلى صقلية فغنمت وسلمت .

            وفي سنة خمس وعشرين ومائتين استأمن عدة حصون من جزيرة صقلية إلى المسلمين ، منها : حصن البلوط ، وابلاطنو ، وقرلون ، ومريا .

            وسار أسطول المسلمين إلى قلورية ، ففتحها ، ولقوا أسطول صاحب القسطنطينية ، فهزموه بعد قتال ، فعاد الأسطول إلى القسطنطينية مهزوما ، فكان فتحا عظيما .

            وفي سنة ست وعشرين ومائتين سارت سرية للمسلمين بصقلية إلى قصريانة ، فغنمت ، وأحرقت ، وسبت ، فلم يخرج إليها أحد ، فسارت إلى حصن الغيران ، وهو أربعون غارا ، فغنمت جميعها .

            وتوفي الأمير أبو عفان فيها على ما نذكره إن شاء الله تعالى . ذكر عدة حوادث

            ( وجرح في هذه السنة ، في شوال ، إسحاق بن إبراهيم ، جرحه خادم له .

            وحج بالناس هذه السنة محمد بن داود .

            ( وفي هذه السنة [ سير ] عبد الرحمن بن الحكم صاحب الأندلس جيشا إلى ألبة  ، والقلاع ، فنزلوا حصن الغرات ، وحصروه ، وغنموا ما فيه ، وقتلوا أهله ، وسبوا النساء والذرية وعادوا ) . [حصول جارية محمود الوراق في يد المعتصم بعد موت سيدها]  

            ومن الحوادث: حصول جارية محمود الوراق في يد المعتصم بعد موت سيدها محمود الوراق .

            عن الجاحظ قال: طلب المعتصم جارية كانت لمحمود الوراق ، وكان نخاسا ، بسبعة آلاف دينار [فامتنع محمود من بيعها ، فلما مات محمود اشتريت للمعتصم من ميراثه بسبعمائة دينار] ، فلما دخلت عليه ، قال [لها] : كيف رأيت تركتك [حتى اشتريتك] من سبعة آلاف دينار بسبعمائة؟ قالت: أجل ، إذا كان الخليفة ينتظر بشهواته المواريث ، فإن سبعين دينارا كثيرة في ثمني فضلا عن سبعمائة . فأخجلته .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية