الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            ثم دخلت سنة ثلاثين ومائتين

            ذكر مسير بغا إلى الأعراب بالمدينة  

            وفي هذه السنة وجه الواثق بغا الكبير إلى الأعراب الذين أغاروا بنواحي المدينة .

            وكان سبب ذلك أن بني سليم كانت تفسد حول المدينة بالشر ، ويأخذون مهما أرادوا من الأسواق بالحجاز بأي سعر أرادوا ، وزاد الأمر بهم إلى أن وقعوا بناس من بني كنانة وباهلة ، فأصابوهم ، وقتلوا بعضهم في جمادى الآخرة من سنة ثلاثين ومائتين ، فوجه محمد بن صالح عامل المدينة إليهم حماد بن جرير الطبري ، وكان مسلحة لأهل المدينة ، في مائتي فارس ، وأضاف إليهم جندا غيرهم ، وتبعهم متطوعة ، فسار إليهم حماد ، فلقيهم بالرويثة ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزمت سودان المدينة بالناس ، وثبت حماد وأصحابه ، وقريش والأنصار ، وأخذ بنو سليم الكراع ، والسلاح ، والثياب ، فطمعوا ، ونهبوا القرى والمناهل ما بين مكة والمدينة ، وانقطع الطريق .

            فوجه إليهم الواثق بغا الكبير أبا موسى في جمع من الجند ، فقدم المدينة في شعبان ، فلقيهم ببعض مياه الحرة من وراء السوارقية قريتهم التي يأوون إليها ، وبها حصون ، فقتل بغا منهم نحوا من خمسين رجلا ، وأسر مثلهم ، وانهزم الباقون ، أقام بغا بالسوارقية ، ودعاهم إلى الأمان على حكم الواثق ، فأتوه متفرقين ، فجمعهم ، وترك من يعرف بالفساد ، وهم زهاء ألف رجل ، وخلى سبيل الباقين ، وعاد بالأسرى إلى المدينة في ذي القعدة سنة ثلاثين ، فحبسهم ، ثم سار إلى مكة .

            فلما قضى حجه سار إلى ذات عرق بعد انقضاء الموسم ، عرض على بني هلال مثل الذي عرض على بني سليم ، فأقبلوا ، وأخذ من المفسدين نحوا من ثلاثمائة رجل ، وأطلق الباقين ، ورجع إلى المدينة ، فحبسهم . ظهر في هذه السنة في بعض قرى خوارزم عجب من امرأة رأت مناما ، فكانت لا تأكل ولا تشرب ، وقد ذكر قصتها أبو عبد الله الحاكم في "تاريخ نيسابور" .

            يقول أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري :

            سمعت أبا العباس عيسى بن محمد المروزي يقول : وردت في سنة ثمان وثلاثين مدينة من مدائن خوارزم تدعى هزارسف ، فأخبرت أن بها امرأة من نساء الشهداء رأت رؤيا : كأنها أطعمت في منامها شيئا ، فهي لا تأكل ولا تشرب منذ عهد عبد الله بن طاهر والي خراسان ، وكان [قد ] توفي قبل ذلك بثماني سنين ، فمررت بها وحدثتني حديثها ، فلم أستعص عليها لحداثة سني ، ثم إني عدت إلى خوارزم في آخر سنة اثنين وخمسين ومائتين ، فرأيتها باقية ، ووجدت حديثها شائعا مستفيضا ، فطلبتها فوجدتها غائبة على عدة فراسخ ، فمضيت في أثرها ، فأدركتها بين قريتين تمشي مشية [قوية ] وإذا هي امرأة نصف جيدة القامة ، حسنة البنية ، ظاهرة الدم ، متوردة الخدين ، فسايرتني وأنا راكب ، وعرضت عليها الركوب فلم تركب ، وحضر مجلسي أقوام ، فسألتهم عنها ، فأحسنوا القول فيها وقالوا : أمرها عندنا ظاهر ، فليس فينا من يختلف فيها ، وذكر لي بعضهم أنهم لم يعثروا منها على كذب ولا حيلة في التلبيس ، وأنه قد كان من يلي خوارزم من العمال يحضرونها ويوكلون بها من يراعيها ، فلا يرونها تأكل شيئا ولا تشرب ، ولا يجدون لها أثر غائط ولا بول ، فيبرونها ويكسونها ، فلما تواطأ أهل الناحية على تصديقها ، سألتها عن اسمها ، فقالت : رحمة بنت إبراهيم ، وذكرت أنه كان لها زوج نجار فقير يأتيه رزقه يوما بيوم ، وأنها ولدت منه عدة أولاد ، وأن ملك الترك عبر على النهر [إليهم ] وقتل من المسلمين خلقا كثيرا ، قالت : ووضع زوجي بين يدي قتيلا ، فأدركني الجزع ، وجاء الجيران يسعدونني على البكاء ، وجاء الأطفال يطلبون الخبز وليس عندي شيء ، فصليت وتضرعت إلى الله تعالى [أسأله الصبر ، و ] أن يجبر بهم ، فذهب بي النوم في سجودي ، فرأيت في منامي كأني في أرض خشناء ذات حجارة وشوك ، وأنا أهيم فيها وألزم خبري أطلب زوجي ، فناداني رجل : إلى أين أيتها الحرة ؟ قلت : أطلب زوجي ، قال : خذي ذات اليمين ، فأخذت ذات اليمين ، فوقفت على أرض سهلة طيبة الثرى ، ظاهرة العشب ، فإذا قصور وأبنية لا أحسن أصفها ، وإذا أنهار تجري على وجه الأرض من غير أخاديد ، وانتهيت إلى قوم جلوس حلقا حلقا ، عليهم ثياب خضر ، قد علاهم النور ، فإذا هم القوم الذين قتلوا في المعركة يأكلون على موائد بين أيديهم ، فجعلت أتخللهم وأتصفح وجوههم أبغي زوجي ، لكنه بصرني فناداني : يا رحمة يا رحمة ، فتحققت الصوت ، فإذا أنا به في مثل حالة من رأيت من الشهداء ، وجهه مثل القمر ليلة البدر ، وهو يأكل مع رفقة له قتلوا يومئذ معه ، فقال لأصحابه : إن هذه البائسة جائعة منذ اليوم ، أفتأذنون [لي ] أن أناولها شيئا تأكله ؟ فأذنوا له ، فناولني كسرة خبز ، وأنا أعلم حينئذ أنه خبز ، ولكن لا أدري كأي خبز هو ؟ ! أشد بياضا من الثلج واللبن ، وأحلى من العسل والسكر ، وألين من الزبد والسمن ، فأكلته فلما استقر في معدتي قال : اذهبي ، فقد كفاك الله مئونة الطعام والشراب ما بقيت في الدنيا ، فانتبهت من نومي وأنا شبعى ريا ، لا أحتاج إلى طعام وشراب وما ذقته منذ ذلك اليوم إلى يومي هذا [ولا شيئا مما يأكله الناس . قال أبو العباس : وكنا نأكل فتتنحى وتأخذ على أنفها ، تزعم أنها تتأذى برائحة الطعام ] ، فسألتها : هل تتغذى بشيء غير الخبز أو تشرب شيئا غير الماء ؟ فقالت : لا ، فسألتها هل يخرج منها ريح ؟ قالت : لا ، أو أذى ؟ قالت : لا ، قلت : فالحيض ؟ أظنها قالت : انقطع بانقطاع الطعم ، قلت : فهل تحتاجين حاجة النساء إلى الرجال ؟ قالت : لا ، قلت : فتنامين ؟ قالت : نعم أطيب نوم ، قلت : فما ترين في منامك ؟ قالت : ما ترون ، قلت : فهل يدركك اللغوب والإعياء إذا مشيت ؟

            قالت : نعم . وذكرت لي أن بطنها لاصقة بظهرها ، فأمرت امرأة من نسائنا فنظرت ، فإذا بطنها لاصقة بظهرها ، وإذا هي قد اتخذت كيسا فضمنته قطنا وشدته على بطنها ليستقيم ظهرها إذا مشيت ، فأجرينا ذكرها لأبي العباس أحمد بن محمد بن طلحة بن طاهر والي خوارزم ، فأنكر ، وأشخصها [إليه ] ، ووكل أمه بها ، فبقيت عنده نحوا من شهرين في بيت ، فلم يروها تأكل ولا تشرب ، ولا رأوا لها أثر من يأكل ويشرب ، فكثر تعجبه وقال : لا تنكر لله قدرة ، وبرها وصرفها ، فلم يأت عليها إلا القليل حتى ماتت رحمها الله .

            . ذكر خروج المشركين إلى بلاد المسلمين بالأندلس  

            في هذه السنة خرج المجوس من أقاصي بلاد الأندلس في البحر إلى بلاد المسلمين ، وكان ظهورهم في ذي الحجة سنة تسع وعشرين ، عند أشبونة ، فأقاموا ثلاثة عشر يوما ، بينهم وبين المسلمين بها وقائع ، ثم ساروا إلى قادس ، ثم إلى شدونة ، فكان بينهم وبين المسلمين بها وقائع .

            ثم ساروا إلى إشبيلية ثامن المحرم ، فنزلوا على اثني عشر فرسخا منها ، فخرج إليهم كثير من المسلمين ، فالتقوا ، فانهزم المسلمون ثاني عشر المحرم ، وقتل كثير منهم .

            ثم نزلوا على ميلين من إشبيلية ، فخرج أهلها إليهم ، وقاتلوهم ، فانهزم المسلمون رابع عشر المحرم ، وكثر القتل والأسر فيهم ، ولم ترفع المجوس السيف عن أحد ، ولا عن دابة ، ودخلوا حاجز إشبيلية وأقاموا به يوما وليلة ، وعادوا إلى مراكبهم .

            وأقام عسكر عبد الرحمن ، صاحب البلاد ، مع عدة من القواد ، فتبادر إليهم المجوس ، فثبت المسلمون ، وقاتلوهم ، فقتل من المشركين سبعون رجلا وانهزموا ، حتى دخلوا مراكبهم ، وأحجم المسلمون عنهم ، فسمع عبد الرحمن ، فسير جيشا آخر غيرهم ، فقاتلوا المجوس قتالا شديدا ، فرجع المجوس عنهم ، فتبعهم العسكر ثاني ربيع الأول ، وقاتلوهم ، وأتاهم المدد من كل ناحية ، ونهضوا لقتال المجوس من كل جانب ، فخرج إليهم المجوس وقاتلوهم ، فكاد المسلمون ينهزمون ، ثم ثبتوا ، فترجل كثير منهم ، فانهزم المجوس ، وقتل نحو خمس مائة رجل ، وأخذوا منهم أربعة مراكب ، فأخذوا ما فيها ، وأحرقوها ، وبقوا أياما لا يصلون إلى المجوس ، لأنهم في مراكبهم .

            ثم خرج المجوس إلى لبلة ، فأصابوا سبيا ، ثم نزل المجوس إلى جزيرة قريب قوريس ، فنزلوها ، وقسموا ما كان معهم من الغنيمة ، فحمي المسلمون ، ودخلوا إليهم في النهر ، فقتلوا من المجوس رجلين ، ثم رحل المجوس فطرقوا شدونة فغنموا طعمة وسبيا ، وأقاموا يومين .

            ثم وصلت مراكب لعبد الرحمن ، صاحب الأندلس ، إلى إشبيلية ، فلما أحس بها المجوس لحقوا بلبلة ، فأغاروا ، وسبوا ، ثم لحقوا بأكشونية ، ثم مضوا إلى باجة ، ثم انتقلوا إلى مدينة أشبونة ، ثم ساروا ، فانقطع خبرهم عن البلاد ، فسكن الناس .

            وقد ذكر بعض مؤرخي العرب سنة ست وأربعين خروج المجوس إلى إشبيلية أيضا ، وهي شبيهة بهذه ، ثم فلا أعلمه أهي هذه ، وقد اختلفوا في وقتها ، أم هي غيرها ، وما أقرب أن تكون هي إياها ، وقد ذكرتها هناك لأن في كل واحدة منهما شيئا في الأخرى . [ من الحوادث ]

            وحج هذه السنة إسحاق بن مصعب ، وإليه أحداث المواسم .

            وحج بالناس هذه السنة محمد بن داود .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية