: وتوفي فيها من الأعيان
الإمام أحمد بن حنبل ، وجبارة بن المغلس الحماني ، وأبو توبة الحلبي ، والحسن بن حماد ، سجادة ، ويعقوب بن حميد بن كاسب .
ولنذكر شيئا من على سبيل الاختصار أخبار الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وفضائله ومناقبه ومآثره
فنقول وبالله المستعان : هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن حمل بن النبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل ، عليهما السلام ، أبو عبد الله الشيباني ، ثم المروزي ، ثم البغدادي هكذا ساق نسبه الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي رحمه الله في الكتاب الذي جمعه في مناقب الإمام أحمد ، عن شيخه الحافظ أبي عبد الله الحاكم صاحب " المستدرك " .
وروي عن صالح ابن الإمام أحمد ، قال : رأى أبي هذا النسب في كتاب لي ، فقال : وما تصنع بهذا ؟ ولم ينكر النسب . قالوا : وقدم به أبوه من مرو وهو حمل ، فوضعته أمه في ببغداد في ربيع الأول من سنة أربع وستين ومائة ، وتوفي أبوه وهو ابن ثلاثين سنة ، فكفلته أمه . قال صالح ، عن أبيه : فثقبت أذني وجعلت فيهما لؤلؤتين فلما كبرت دفعتهما إلي فبعتهما بثلاثين درهما .
وتوفي يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين ، وله من العمر سبع وسبعون سنة ، رحمه الله . أبو عبد الله أحمد بن حنبل
وقد كان في حداثته يختلف إلى مجلس القاضي أبي يوسف ، ثم ترك ذلك وأقبل على سماع الحديث ، فكان أول طلبه للحديث وأول سماعه من مشايخه في سنة تسع وسبعين ومائة ، وله من العمر ست عشرة سنة ، وأول حجة حجها في سنة سبع وثمانين ومائة ، ثم في سنة إحدى وتسعين . وفيها حج الوليد بن مسلم ، ثم في سنة ست وتسعين ، وجاور إلى سنة سبع وتسعين ، ثم حج في سنة ثمان وتسعين ، وجاور إلى سنة تسع وتسعين ، سافر إلى عند عبد الرزاق باليمن ، فكتب عنه هو ويحيى بن معين ، وإسحاق بن راهويه .
قال الإمام أحمد : حججت خمس حجج ; منها ثلاث راجلا ، أنفقت في إحدى هذه الحجج ثلاثين درهما . قال : وقد ضللت في بعض هذه الحجج ، عن الطريق وأنا ماش ، فجعلت أقول : يا عباد الله دلوني على الطريق ، فلم أزل أقول ذلك حتى وقفت على الطريق . قال : وخرجت إلى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة ، ولو كان عندي خمسون درهما ; كنت رحلت إلى جرير بن عبد الحميد إلى الري وخرج بعض أصحابنا ولم يمكني الخروج ; لأنه لم يكن عندي شيء .
وقال ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن حرملة : سمعت الشافعي يقول : وعدني أحمد بن حنبل أن يقدم علي مصر فلم يقدم . قال ابن أبي حاتم : يشبه أن تكون خفة ذات اليد حالت بينه وبين الوفاء بالعدة .
وقد طاف أحمد بن حنبل في البلاد والآفاق ، وسمع من مشايخ العصر ، وكانوا يجلونه ويحترمونه في حال سماعه منهم .
وقد سرد شيخنا في " تهذيبه " وكذلك الرواة عنه . أسماء شيوخه مرتبين على حروف المعجم ،
قال الحافظ أبو بكر البيهقي ، بعد أن ذكر جماعة من شيوخ الإمام أحمد : وقد أكثر أحمد بن حنبل في " المسند " وغيره الرواية عن الشافعي ، وأخذ عنه جملة من كلامه في أنساب قريش ، وأخذ عنه من الفقه ما هو مشهور . وحين توفي أحمد وجدوا في تركته رسالتي الشافعي ; القديمة والجديدة .
قلت : قد أفرد ما رواه الإمام أحمد عن أبي عبد الله الشافعي ، وهي أحاديث لا تبلغ عشرين حديثا ; ومن أحسن ما رويناه عن الإمام أحمد ، عن الإمام الشافعي ، عن الإمام مالك بن أنس عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه
وقد قال الشافعي لأحمد لما اجتمع به في الرحلة الثانية إلى بغداد بعد سنة تسعين ومائة ، وعمر أحمد إذ ذاك نيف وثلاثون سنة ، قال له : يا أبا عبد الله ، إذا صح عندكم الحديث فأعلمني به ; أذهب إليه حجازيا كان أو شاميا أو عراقيا أو يمنيا . يعني أنه لا يقول بقول فقهاء الحجاز الذين لا يقبلون إلا رواية الحجازيين وينزلون أحاديث من سواهم منزلة أحاديث أهل الكتاب . وقول الشافعي له هذه المقالة تعظيم لأحمد وإجلال له ، وإنه عنده بهذه المثابة إذا صحح أو ضعف يرجع إليه في ذلك ، وقد كان الإمام أحمد بهذه المثابة عند الأئمة والعلماء ، كما سيأتي ثناء الأئمة عليه واعترافهم له بعلو المكانة وارتفاع المنزلة في العلم والحديث ، رحمهم الله ، وقد بعد صيته في زمانه واشتهر اسمه في شبيبته في الآفاق .
ثم حكى البيهقي كلام أحمد في الإيمان ، وأنه قول وعمل يزيد وينقص ، وكلامه في أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وإنكاره على من يقول : إن لفظه بالقرآن مخلوق يريد به القرآن . قال : وفيما حكى أبو عمارة وأبو جعفر ، وعن أحمد بن حنبل أنه قال : اللفظ محدث . واستدل بقوله ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ ق : 18 ] قال : فاللفظ كلام الآدميين . وروى غيرهما عن أحمد أنه قال : القرآن كيف ما تصرف فيه غير مخلوق ، وأما أفعالنا فهي مخلوقة .
قلت : وقد قرر البخاري هذا المعنى في أفعال العباد ، وذكره أيضا في " الصحيح " ، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال غير واحد من الأئمة : الكلام كلام البارئ ، والصوت صوت القارئ ، وقد قرر البيهقي ذلك أيضا . زينوا القرآن بأصواتكم
وروى البيهقي من طريق إسماعيل بن محمد السلمي ، عن أحمد أنه قال : من قال : القرآن محدث . فهو كافر . ومن طريق أبي الحسن الميموني ، عن أحمد أنه أجاب الجهمية حين احتجوا عليه بقوله تعالى ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون [ الأنبياء : 2 ] قال : يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو المحدث ، لا الذكر نفسه هو المحدث .
وعن حنبل ، عن أحمد أنه قال : يحتمل أن يكون ذكرا آخر غير القرآن ، وهو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو وعظه إياهم .
كلام الإمام أحمد في إثبات رؤية الله في الدار الآخرة
ثم ذكر البيهقي كلام الإمام أحمد في إثبات رؤية الله في الدار الآخرة ، واحتج بحديث صهيب في الرؤية ، وهي الزيادة ، وكلامه في نفي التشبيه وترك الخوض في الكلام والتمسك بما ورد في الكتاب والسنة من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وروى البيهقي ، عن الحاكم ، عن أبي عمرو بن السماك ، عن حنبل ، أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى وجاء ربك [ الفجر : 22 ] أنه جاء ثوابه . ثم قال البيهقي : وهذا إسناد لا غبار عليه .
وقال الإمام أحمد : عن عبد الله هو ابن مسعود قال : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رأوه سيئا فهو عند الله سيئ . وقد رأى الصحابة جميعا أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه ، إسناد صحيح . قلت : وهذا الأثر فيه حكاية إجماع عن الصحابة في تقديم الصديق ، رضي الله عنه ، والأمر كما قاله ابن مسعود ، رضي الله عنه ، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة . وقد قال الإمام أحمد بن حنبل حين اجتاز بحمص ، وقد حمل إلى المأمون في زمن المحنة ، ودخل عليه عمرو بن عثمان الحمصي ، فقال له : ما تقول في الخلافة ؟ فقال الإمام أحمد : أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، ومن قدم عليا على عثمان فقد أزرى بأصحاب الشورى ; لأنهم قدموا عثمان ، رضي الله تعالى عنهم أجمعين .
فصل في ورعه وتقشفه وزهده ، رحمه الله ورضي عنه
روى البيهقي من طريق المزني ، عن الشافعي أنه قال للرشيد : إن اليمن تحتاج إلى قاض ، فقال له : اختر رجلا نوله إياها ، فقال الشافعي لأحمد بن حنبل ، وهو يتردد إليه في جملة من يأخذ عنه : ألا تقبل قضاء اليمن . فامتنع من ذلك امتناعا شديدا ، وقال : إني إنما أختلف إليك لأجل العلم المزهد في الدنيا ، أفتأمرني أن ألي القضاء ؟ ولولا العلم لما أكلمك بعد اليوم . فاستحيى الشافعي منه .
وروي أنه كان لا يصلي خلف عمه إسحاق بن حنبل ولا خلف بنيه ، ولا يكلمهم أيضا ; لأنهم أخذوا جائزة السلطان .
ومكث مرة ثلاثة أيام لا يجد ما يأكله حتى بعث إلى بعض أصحابه فاستقرض منه دقيقا ، فعرف أهله حاجته إلى الطعام فعجلوا وعجنوا وخبزوا له سريعا ، فقال : ما هذه العجلة ! كيف خبزتم سريعا ؟ فقالوا : وجدنا تنور بيت صالح مسجورا فخبزنا لك فيه . فقال : ارفعوا . ولم يأكل ، وأمر بسد بابه إلى دار صالح . قال البيهقي : لأن صالحا أخذ جائزة المتوكل على الله .
وقال عبد الله : مكث أبي بالعسكر عند الخليفة ستة عشر يوما لم يأكل فيها إلا ربع مد سويقا ، يفطر بعد كل ثلاث ليال على سفة منه حتى رجع إلى بيته ، ولم ترجع إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر . وقد رأيت موقيه دخلتا في حدقتيه .
قال البيهقي : وقد كان الخليفة يبعث لمائدته شيئا كثيرا ، وكان أحمد لا يتناول من طعامه شيئا .
وبعث الخليفة المأمون مرة ذهبا ; ليقسم على أصحاب الحديث ، فما بقي منهم أحد إلا أخذ ، إلا أحمد بن حنبل فإنه أبى .
وقال سليمان الشاذكوني : حضرت أحمد وقد رهن سطلا له عند فامي باليمن ، فلما جاءه بفكاكه أخرج إليه سطلين فقال : خذ متاعك . فاشتبه عليه أيهما الذي له ، فقال له : أنت في حل منه ومن الفكاك ، وتركه .
وحكى عبد الله قال : كنا في زمن الواثق في ضيق شديد ، فكتب رجل إلى أبي : إن عندي أربعة آلاف درهم ورثتها من أبي وليست صدقة ولا زكاة فإن رأيت أن تقبلها مني . فامتنع من ذلك ، وكرر عليه فأبى ، فلما كان بعد حين ذكرنا ذلك فقال : لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت .
وعرض عليه بعض التجار عشرة آلاف درهم ربحا من بضاعة جعلها باسمه فأبى أن يقبلها ، وقال : نحن في كفاية ، وجزاك الله عن قصدك خيرا ، وعرض عليه تاجر آخر ثلاثة آلاف دينار فامتنع من قبولها وقام وتركه .
ونفدت نفقة أحمد وهو في اليمن ، فعرض عليه شيخه عبد الرزاق ملء كفه دنانير ، فقال : نحن في كفاية ولم يقبلها . وسرقت ثيابه وهو باليمن فجلس في بيته ورد عليه الباب ، فافتقده أصحابه فجاءوا إليه فسألوه فأخبرهم ، فعرضوا عليه ذهبا فلم يقبله ولم يأخذ منهم إلا دينارا واحدا ; ليكتب لهم به فكتب لهم بالأجر ، رحمه الله .
وقال أبو داود : كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة ، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا ، وما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط .
وروى البيهقي أن أحمد سئل عن التوكل فقال : هو قطع الاستشراف باليأس من الناس . فقيل له : هل من حجة على هذا ؟ قال : نعم ، إن إبراهيم لما رمي به في النار في المنجنيق عرض له جبريل فقال : هل لك من حاجة ؟ قال : أما إليك فلا . قال : فسل من لك إليه حاجة . فقال : أحب الأمرين إلي أحبهما إليه .
وعن أبي جعفر محمد بن يعقوب الصفار قال : كنا مع أحمد بن حنبل بسر من رأى ، فقلنا : ادع الله لنا ، فقال : اللهم إنك تعلم أنا نعلم أنك لنا على أكثر مما نحب فاجعلنا على ما تحب . ثم سكت . فقلنا : زدنا . فقال : اللهم إنا نسألك بالقدرة التي قلت للسماوات والأرض : ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين [ فصلت : 11 ] اللهم وفقنا لمرضاتك ، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ونعوذ بك من الذل إلا لك ، اللهم لا تكثر لنا فنطغى ، ولا تقل علينا فننسى ، وهب لنا من رحمتك وسعة رزقك ما يكون بلاغا لنا في دنيانا ، وغنى من فضلك .
دعاء الإمام أحمد في السجود
قال البيهقي : وفي حكاية أبي الفضل التميمي عن أحمد : وكان دعاؤه في السجود : اللهم من كان من هذه الأمة على غير الحق وهو يظن أنه على الحق فرده إلى الحق ليكون من أهل الحق . وكان يقول : اللهم إن قبلت من عصاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فداء فاجعلني فداء لهم . وقال صالح بن أحمد : كان أبي لا يدع أحدا يستقي له الماء للوضوء ، بل كان يلي ذلك بنفسه ، فإذا خرج الدلو ملآن قال : الحمد لله . فقلت : يا أبه ، ما الفائدة في ذلك ؟ فقال : يا بني ، أما سمعت قول الله عز وجل قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين [ الملك : 30 ] والأخبار عنه في هذا الباب كثيرة جدا .
زهد الإمام أحمد وورعه
وقد ولم يلحقه أحد فيه . والمظنون بل المقطوع به أنه كان يأخذ بما أمكنه من ذلك ، رحمه الله ، وأكرم مثواه ، وجعل جنة الفردوس منقلبه ومأواه . صنف في الزهد كتابا حافلا عظيما لم يسبق إلى مثله ،
وقال إسماعيل بن إسحاق السراج : قال لي أحمد بن حنبل : هل تستطيع أن تريني الحارث المحاسبي إذا جاء منزلك ؟ فقلت : نعم ، وفرحت بذلك ، ثم ذهبت إلى الحارث فقلت : إني أحب أن تحضر الليلة أنت وأصحابك ، فقال : إنهم كثير فأحضر لهم التمر والكسب . فلما كان بين العشاءين جاءوا ، وكان الإمام أحمد قد سبقهم فجلس في غرفة بحيث يراهم ويسمع كلامهم ، ولا يرونه فلما صلوا العشاء لم يصلوا بعدها شيئا ، حتى جاءوا فجلسوا بين يدي الحارث سكوتا كأنما على رءوسهم الطير ، حتى كان قريبا من نصف الليل ، ثم سأله رجل عن مسألة ، فشرع الحارث يتكلم فيما يتعلق بالزهد والوعظ فجعل هذا يبكي ، وهذا يئن ، وهذا يزعق ، قال : فصعدت إلى الغرفة ، فإذا بالإمام أحمد بن حنبل يبكي حتى كاد يغشى عليه ، ثم لم يزالوا كذلك حتى الصباح ، فلما أرادوا الانصراف قلت : كيف رأيت هؤلاء يا أبا عبد الله ؟ فقال : ما رأيت أحدا يتكلم في الزهد مثل هذا الرجل ، وما رأيت مثل هؤلاء ، ومع هذا فلا أرى لك أن تجتمع بهم .
قال البيهقي : يحتمل أنه كره له صحبتهم ; لأن الحارث بن أسد وإن كان زاهدا لكنه كان عنده شيء من علم الكلام ، وكان أحمد يكره ذلك ، أو كره له صحبتهم ، من أجل أنه لا يطيق سلوك طريقتهم وما هم عليه من الزهد والورع . قلت : بل إنما كره ذلك ; لأن في كلام بعض هؤلاء من التقشف الذي لم يرد به الشرع ، والتدقيق والتنقير والمحاسبة البليغة ما لم يأت به أمر ; ولهذا لما وقف أبو زرعة الرازي على كتاب الحارث بن أسد المسمى " بالرعاية " قال : هذا بدعة ، ثم قال للرجل الذي جاءه به : عليك بما كان عليه مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، ودع هذا فإنه بدعة .
وقال إبراهيم الحربي : سمعت أحمد بن حنبل يقول : إن أحببت أن يدوم الله لك على ما تحب فدم له على ما يحب . وكان يقول : الصبر على الفقر مرتبة لا ينالها إلا الأكابر . وكان يقول : الفقر أشرف من الغنى ، فإن الصبر عليه أعظم مرارة ، وانزعاجه أعظم حالا من الشكر . وقال : لا أعدل بفضل الفقر شيئا . وكان يقول : على العبد أن يقبل الرزق بعد اليأس ، ولا يقبله إذا تقدمه طمع أو استشراف . وكان يحب التقلل طلبا لخفة الحساب .
وقال إبراهيم : قال رجل لأحمد : هذا العلم تعلمته لله ؟ فقال : هذا شرط شديد ، ولكن حبب إلي شيء فجمعته .
وروى البيهقي أن رجلا جاء إلى الإمام أحمد فقال : إن أمي زمنة مقعدة منذ عشرين سنة ، وقد بعثتني إليك لتدعو الله لها ، فكأنه غضب من ذلك ، وقال : نحن أحوج أن تدعو هي لنا . ثم دعا الله عز وجل لها . فرجع الرجل إلى أمه فدق الباب فخرجت إليه على رجليها ، وقالت قد وهبني الله العافية .
وروي أن سائلا سأل فأعطاه الإمام أحمد قطعة ، فقام رجل إلى السائل فقال : هبني هذه القطعة حتى أعطيك عوضها ، ما يساوي درهما فأبى فرقاه إلى خمسين وهو يأبى ، فقال : إني أرجو من بركتها ما ترجوه أنت من بركتها .
باب ذكر ما جاء في محنة أبي عبد الله أحمد بن حنبل ، رضي الله عنه
في أيام المأمون ثم المعتصم ، ثم الواثق بسبب القرآن ، وما أصابه من الحبس الطويل والضرب الشديد ، والتهديد بالقتل بسوء العذاب وأليم العقاب وقلة مبالاته بما كان منهم من ذلك إليه ، وصبره عليه ، وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم .
وكان أحمد عالما بما ورد بمثل حاله من الآيات المتلوة والآثار المأثورة ، وبلغه ما أوصي به في المنام واليقظة ، فرضي وسلم إيمانا واحتسابا ، وفاز بخير الدنيا ونعيم الآخرة ، وهيأه الله بما آتاه من ذلك لبلوغ أعلى منازل أهل البلاء في الله من أولياء الله ، وألحق به محبيه فيما نال من كرامة الله تعالى ، إن شاء الله من غير بلية ، وبالله التوفيق والعصمة .
قال الله تعالى : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين [ العنكبوت : 1 - 3 ] وقال الله تعالى في وصية لقمان لابنه : يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور [ لقمان : 17 ] في آي سواها في معنى ما كتبنا .
وقد روى الإمام أحمد الممتحن في مسنده قائلا فيه : عن عاصم بن بهدلة ، سمعت مصعب بن سعد ، يحدث عن سعد قال : وقد روى مسلم في صحيحه قال : عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أشد بلاء ؟ فقال : الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، ثم يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان رقيق الدين ابتلي على حسب ذلك ، وإن كان صلب الدين ابتلي على حسب ذلك ، وما يزال البلاء بالرجل حتى يمشي في الأرض وما عليه خطيئة وأخرجاه في الصحيحين . ثلاثة من كن فيه فقد وجد حلاوة الإيمان ; من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه
وقال عاصم بن حميد ، قال : سمعت معاذ بن جبل يقول : إنكم لم تروا إلا بلاء وفتنة ، ولن يزداد الأمر إلا شدة ، ولا الأنفس إلا شحا . وبه ، قال معاذ : " لن تروا من الأئمة إلا غلظة ولن تروا أمرا يهولكم ويشتد عليكم إلا حضر بعده ما هو أشد منه " . قال البغوي : سمعت أحمد يقول : اللهم رضينا . يمد بها صوته .
وروى البيهقي ، عن الربيع قال : بعثني الشافعي بكتاب من مصر إلى أحمد بن حنبل ، فأتيته وقد انفتل من صلاة الفجر ، فدفعت إليه الكتاب فقال : أقرأته ؟ فقلت : لا . فأخذه فقرأه فدمعت عيناه ، فقلت : يا أبا عبد الله ، وما فيه ؟ فقال : يذكر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقال له : " اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل ، واقرأ عليه مني السلام ، وقل له : إنك ستمتحن ، وتدعى إلى القول بخلق القرآن فلا تجبهم ، يرفع الله لك علما إلى يوم القيامة . قال الربيع : فقلت : حلاوة البشارة . فخلع قميصة الذي يلي جلده فأعطانيه ، فلما رجعت إلى الشافعي أخبرته فقال : إني لست أفجعك فيه ، ولكن بله بالماء وأعطنيه حتى أتبرك به .
ذكر ملخص الفتنة والمحنة مجموعا من كلام أئمة السنة ، رحمهم الله وأثابهم الجنة
قد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد اجتمع به واستحوذ عليه جماعة من المعتزلة ، فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل ، وزينوا له القول بخلق القرآن ، ونفي الصفات عن الله عز وجل .
قال الحافظ البيهقي : ولم يكن في الخلفاء قبله لا من بني أمية ولا من بني العباس خليفة إلا على منهج السلف ، حتى ولي هو الخلافة ، فاجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك . قالوا : واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو بلاد الروم فعن له أن يكتب إلى نائب بغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن ، واتفق ذلك في آخر عمره قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين .
فلما وصل الكتاب كما ذكرنا استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا ، فتهددهم بالضرب ، وقطع الأرزاق ، فأجاب أكثرهم مكرهين ، واستمر على الامتناع في ذلك الإمام أحمد بن حنبل ، ومحمد بن نوح الجنديسابوري ، فحملا على بعير ، وسيرهما إلى الخليفة عن أمره بذلك ، وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد ، فلما كانوا ببلاد الرحبة جاء رجل من الأعراب من عبادهم يقال له : جابر بن عامر . فسلم على الإمام أحمد ، وقال له : يا هذا ، إنك وافد الناس ، فلا تكن مشئوما عليهم ، وإنك رأس الناس اليوم ، فإياك أن تجيب فيجيبوا ، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه فإن ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل ، وإنك إن لم تقتل تمت ، وإن عشت عشت حميدا . قال الإمام أحمد : فكان ذلك ما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك . فلما اقتربوا من جيش المأمون ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم ، وهو يمسح دموعه بطرف ثيابه وهو يقول : يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك ، وبسط نطعا لم يبسطه قبل ذلك ، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف . قال : فجثا الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء ثم قال : سيدي غر حلمك هذا الفاجر حتى يتجبر على أوليائك بالضرب والقتل ، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته . قال : فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل .
قال أحمد : ففرحت بذلك ، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة ، وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد ، وأن الأمر شديد ، فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى ، ونالني معهم أذى كثير ، وكان في رجليه القيود ، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق وصلى عليه أحمد ، فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها وهو مريض وذلك في رمضان ، فأودع السجن نحوا من ثمانية وعشرين شهرا . وقيل : نيفا وثلاثين شهرا . ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى وبه الثقة . وقد كان الإمام أحمد هو الذي يصلي بأهل السجن وعليه قيود في رجليه .
ذكر ضربه رضي الله عنه ، بين يدي المعتصم
لما أحضره المعتصم من السجن زيد في قيوده ، قال أحمد : فلم أستطع أن أمشي بها فربطتها في التكة وحملتها بيدي ، ثم جاءوني بدابة فحملت عليها فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود ، وليس معي أحد يمسكني ، فسلم الله حتى جئنا دار الخلافة فأدخلت في بيت ، وأغلق علي ، وليس عندي سراج فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه ، ثم قمت أصلي ، ولا أعرف القبلة فلما أصبحت إذا أنا على القبلة ، ولله الحمد .
قال : ثم دعيت فأدخلت على المعتصم ، فلما نظر إلي ، وعنده ابن أبي دؤاد قال : أليس قد زعمتم أنه حدث السن ، وهذا شيخ مكتهل ؟ فلما دنوت منه وسلمت قال لي : ادنه . فلم يزل يدنيني حتى قربت منه ، ثم قال : اجلس . فجلست وقد أثقلني الحديد ، فمكثت ساعة ، ثم قلت : يا أمير المؤمنين ، إلام دعا إليه ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله . قلت : فإني أشهد أن لا إله إلا الله . قال : ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبد القيس ، ثم قلت : فهذا الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه ، وذلك لأني لم أتفقه كلامه ، ثم قال المعتصم : لولا أنك كنت في يد من كان قبلي لم أتعرض إليك ، ثم قال : يا عبد الرحمن ، ألم آمرك أن ترفع المحنة ؟ قال أحمد : فقلت : الله أكبر ، هذا فرج للمسلمين . ثم قال : ناظروه ، يا عبد الرحمن كلمه . فقال لي عبد الرحمن : ما تقول في القرآن ؟ فلم أجبه ، فقال المعتصم : أجبه . فقلت : ما تقول في العلم ؟ فسكت ، فقلت : القرآن من علم الله ، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله . فسكت ، فقالوا فيما بينهم : يا أمير المؤمنين ، كفرك وكفرنا . فلم يلتفت إلى ذلك ، فقال عبد الرحمن : كان الله ولا قرآن ؟ فقلت : كان الله ولا علم ؟ فسكت . فجعلوا يتكلمون من هاهنا وهاهنا ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، أعطوني شيئا من كتاب الله ، أو سنة رسول الله حتى أقول به ، فقال ابن أبي دؤاد : وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا ؟ فقلت : وهل يقوم الإسلام إلا بهما ؟
وجرت بينهما مناظرات طويلة ، واحتجوا عليه بقوله ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث [ الأنبياء : 2 ] وعنه في ذلك أجوبة بحدث إنزاله ، أو ذكر غير القرآن محدث كما تقدم ورشح هذا بقوله ص والقرآن ذي الذكر [ ص : 1 ] يعني به القرآن بخلاف الذكر فإنه غير القرآن . وبقوله الله خالق كل شيء [ الرعد : 16 ] وأجاب بما حاصله أنه عام مخصوص بقوله تدمر كل شيء بأمر ربها [ الأحقاف : 25 ] فقال ابن أبي دؤاد : هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع ، وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسلهم . فقال لهم : ما تقولون فيه : فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد ، ثم أحضروه في اليوم الثاني فناظروه أيضا ، ثم في اليوم الثالث فناظروه أيضا ، وفي ذلك كله يعلو صوته عليهم ، وتغلب حجته حججهم . قال : فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد ، وكان من أجهل الناس بالعلم والكلام ، وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة ، ولا علم لهم بالنقل ، فجعلوا ينكرون الآثار ، ويردون الاحتجاج بها .
وقال أحمد : سمعت منهم مقالات لم أكن أظن أن أحدا يقولها ، وقد تكلم معي برغوث بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره بما لا فائدة فيه ، فقلت : لا أدري ما تقول إلا أني أعلم أن الله أحد صمد ، ليس كمثله شيء ، فسكت عني .
وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة فحاولوا أن يضعفوا إسناده ، ويلفقوا عن بعض المحدثين كلاما يتسلقون به إلى الطعن فيه ، وهيهات وأنى لهم التناوش من مكان بعيد [ سبأ : 52 ] وفي غبون ذلك كله يتلطف به الخليفة ، ويقول : يا أحمد ، أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي ، وممن يطأ بساطي . فأقول : يا أمير المؤمنين ، يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبهم إليها .
واحتج أحمد عليهم حين أنكروا الاحتجاج بالآثار بقوله تعالى : حكاية عن إبراهيم يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا [ مريم : 42 ] وبقوله وكلم الله موسى تكليما [ النساء : 164 ] وبقوله : إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني [ طه : 14 ] ، وبقوله : ألا له الخلق والأمر [ الأعراف : 54 ] وبقوله إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [ النحل : 40 ] إلى غير ذلك من الآيات . فلما لم يقم لهم معه حجة عدلوا إلى استعمال جاه الخليفة في ذلك ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، هذا كافر ضال مضل . وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد : يا أمير المؤمنين ، ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين ، فعند ذلك حمي واشتد غضبه ، وكان ألينهم عريكة ، وهو يظن أنهم على شيء . قال أحمد : فعند ذلك قال لي : لعنك الله ، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني . ثم قال : خذوه واخلعوه واسحبوه .
قال أحمد : فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعقابين والسياط ، وأنا أنظر ، وكان معي شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مصرور في ثوبي فجردوني منه ، وصرت بين العقابين ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، الله الله ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وتلوت الحديث ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث . . فبم تستحل دمي ، ولم آت شيئا من هذا ، يا أمير المؤمنين اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك . فكأنه أمسك ، ثم لم يزالوا يقولون له : يا أمير المؤمنين ، إنه ضال مضل كافر . فأمر بي فأقمت بين العقابين ، وجيء بكرسي فأقمت عليه ، وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم ، فتخلعت يداي ، وجيء بالضرابين ، ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين ، ويقول له يعني المعتصم : شد ، قطع الله يدك ! ويجيء الآخر فيضربني سوطين ، ثم الآخر كذلك ، فضربوني أسواطا فأغمي علي ، وذهب عقلي مرارا ، فإذا سكن الضرب يعود إلي عقلي ، وقام المعتصم إلي يدعوني إلى قولهم فلم أجبه ، وجعلوا يقولون : ويحك ، الخليفة على رأسك . فلم أقبل ، فأعادوا الضرب ، ثم عاد إلي فلم أجبه ، فأعادوا الضرب ، ثم جاء إلي الثالثة ، فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب ، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب ، وأرعبه ذلك من أمري ، وأمر بي فأطلقت ، ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت وقد أطلقت الأقياد من رجلي ، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين ، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله ، وكان جملة ما ضرب نيفا وثلاثين سوطا ، وقيل : ثمانين سوطا لكن كان ضربا مبرحا شديدا جدا . أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم
وقد كان الإمام أحمد رجلا طوالا رقيقا أسمر اللون كثير التواضع ، رحمه الله ، ورضي عنه ، وأكرم مثواه .
ولما حمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم ، وهو صائم ، أتوه بسويق وماء ; ليفطر من الضعف فامتنع من ذلك ، وأتم صومه ، وحين حضرت صلاة الظهر صلى معهم ، فقال له ابن سماعة القاضي : صليت في دمك ؟ فقال له أحمد : قد صلى عمر وجرحه يثعب دما . فسكت .
ويروى أنه لما أقيم ليضرب انقطعت تكة سراويله فخشي أن يسقط سراويله فتكشف عورته ، فحرك شفتيه بدعاء فعاد سراويله كما كان . ويروى أنه قال : يا غياث المستغيثين يا إله العالمين ، إن كنت تعلم أني قائم لك بحق فلا تهتك لي عورة .
ولما رجع إلى منزله جاءه الجرايحي فقطع لحما ميتا من جسده ، وجعل يداويه ، والنائب يبعث كثيرا في كل وقت يسأل عنه ، وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد ندما كثيرا ، وجعل يسأل النائب عنه ، والنائب يستعلم خبره ، فلما عوفي فرح المعتصم والمسلمون بذلك ، ولما شفاه الله بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد ، وجعل كل من سعى في أمره في حل إلا أهل البدعة ، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم [ النور : 22 ] ويقول : ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم في سبيلك ؟ وقد قال الله تعالى : فمن عفا وأصلح فأجره على الله [ الشورى : 40 ] وينادى يوم القيامة : " ليقم من أجره على الله " فلا يقوم إلا من عفا . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . ثلاث أقسم عليهن : ما نقص مال من صدقة ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، ومن تواضع لله رفعه الله
وكان الذين ثبتوا على المحنة فلم يجيبوا بالكلية أربعة : أحمد بن حنبل ، وهو رئيسهم ، ومحمد بن نوح بن ميمون الجنديسابوري ، ومات في الطريق حين ذهب هو وأحمد إلى المأمون ونعيم بن حماد الخزاعي ، وقد مات في السجن ، وأبو يعقوب البويطي ، وقد مات في سجن الواثق على القول بخلق القرآن ، لم يجبهم إلى ذلك . وكان مثقلا بالحديد ، وأوصى أن يدفن فيها ، وأحمد بن نصر الخزاعي ، وقد ذكرنا كيفية قتله - رحمه الله - في أيام الواثق . ذكر المعظم المبجل ثناء الأئمة على الإمام أحمد بن حنبل
قال البخاري : لما ضرب أحمد بن حنبل كنا بالبصرة فسمعت أبا الوليد الطيالسي يقول : لو كان هذا في بني إسرائيل لكان أحدوثة .
وقال إسماعيل بن الخليل : لو كان أحمد بن حنبل في بني إسرائيل لكان عجبا .
وقال المزني : أحمد بن حنبل يوم المحنة ، وأبو بكر يوم الردة ، وعمر يوم السقيفة ، وعثمان يوم الدار ، وعلي يوم صفين .
وقال حرملة : سمعت الشافعي يقول : خرجت من العراق فما خلفت بها رجلا أفضل ولا أعلم ولا أورع ولا أتقى من أحمد بن حنبل .
وقال شيخه يحيى بن سعيد القطان : ما قدم علي من بغداد أحد أحب إلي من أحمد بن حنبل .
وقال قتيبة : مات سفيان الثوري ومات الورع ، ومات الشافعي وماتت السنن ، ويموت أحمد بن حنبل وتظهر البدع ، وفي رواية : قال قتيبة : إن أحمد بن حنبل قام في الأمة مقام النبوة . قال البيهقي : يعني في صبره على ما أصابه من الأذى في ذات الله ، عز وجل .
وقال أبو عمر ابن النحاس وذكر أحمد يوما فقال : رحمه الله في الدين ما كان أبصره ، وعن الدنيا ما كان أصبره ، وفي الزهد ما كان أخبره ، وبالصالحين ما كان ألحقه ، وبالماضين ما كان أشبهه ، عرضت له الدنيا فأباها ، والبدع فنفاها .
وقال بشر بن الحارث الحافي بعدما ضرب أحمد بن حنبل : أدخل أحمد الكير فخرج ذهبا أحمر .
وقال الميموني : قال لي علي بن المديني بعدما امتحن أحمد ، وقبل أن يمتحن : يا ميموني ، ما قام أحد في الإسلام ما قام أحمد بن حنبل . فعجبت من هذا عجبا شديدا ، وذهبت إلى أبي عبيد القاسم بن سلام ، فحكيت له مقالة علي بن المديني ، فقال : صدق ، إن أبا بكر الصديق وجد يوم الردة أنصارا وأعوانا وإن أحمد بن حنبل لم يكن له أنصار ولا أعوان . ثم أخذ أبو عبيد يطري أحمد ويقول : لست أعلم في الإسلام مثله .
وقال إسحاق بن راهويه : أحمد بن حنبل حجة بين الله وبين عبيده في أرضه .
وقال علي بن المديني : إذا ابتليت بشيء فأفتاني أحمد بن حنبل لم أبال إذا لقيت ربي كيف كان . وقال علي أيضا : إني اتخذت أحمد بن حنبل حجة فيما بيني وبين الله عز وجل ، ثم قال : ومن يقوى على ما يقوى عليه أبو عبد الله ؟
وقال يحيى بن معين أيضا : كان في أحمد بن حنبل خصال ما رأيتها في عالم قط ، كان محدثا ، وكان حافظا ، وكان عالما ، وكان ورعا ، وكان زاهدا ، وكان عاقلا .
وقال يحيى بن معين أيضا : أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل ، والله ما نقوى أن نكون مثل أحمد ، ولا نطيق سلوك طريقه .
وقال محمد بن يحيى الذهلي : اتخذت أحمد بن حنبل حجة فيما بيني وبين الله عز وجل . وقال هلال بن العلاء الرقي : من الله على هذه الأمة بأربعة : بالشافعي ، فهم الأحاديث وفسرها ، وبين المجمل من المفسر ، والخاص من العام ، والناسخ من المنسوخ ، وبأبي عبيد عرف الغريب وفسره ، وبيحيى بن معين نفى الكذب عن الأحاديث ، وبأحمد بن حنبل ثبت في المحنة ، لولا هؤلاء الأربعة لهلك الناس .
وقال أبو بكر ابن أبي داود : أحمد بن حنبل مقدم على كل من حمل بيده قلما ومحبرة ; يعني في عصره .
وقال أبو بكر محمد بن محمد بن رجاء : ما رأيت مثل أحمد بن حنبل ، ولا رأيت من رأى مثله .
وقال أبو زرعة الرازي : ما أعرف في أصحابنا أسود الرأس أفقه منه .
وعن يحيى بن محمد العنبري قال : أنشدنا أبو عبد الله البوشنجي في أحمد بن حنبل رحمه الله :
إن ابن حنبل إن سألت إمامنا وبه الأئمة في الأنام تمسكوا خلف النبي محمدا بعد الألى
كانوا الخلائف بعده واستهلكوا حذو الشراك على الشراك وإنما
يحذو المثال مثاله المتمسك
حين أخرج من دار الخلافة بعد الضرب صار إلى منزله فدووي حتى برئ ، ولله الحمد والمنة . ولزم منزله فلا يخرج منه إلى جماعة ولا جمعة ، وامتنع من التحديث ، وكانت غلته من ملك له ; في كل شهر سبعة عشر درهما ينفقها على عياله ، ويتقنع بذلك ، رحمه الله ، صابرا محتسبا ، ولم يزل كذلك مدة خلافة المعتصم ، وكذلك في أيام ابنه محمد الواثق .
فلما ولي المتوكل على الله جعفر ابن المعتصم استبشر الناس بولايته فإنه كان محبا للسنة وأهلها ، ورفع المحنة عن الناس ، وكتب إلى الآفاق أن لا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن ، ثم كتب إلى نائبه ببغداد وهو إسحاق بن إبراهيم أن يبعث بأحمد بن حنبل إليه ، فاستدعى إسحاق بالإمام أحمد إليه فأكرمه إسحاق وعظمه ; لما يعلم من إعظام الخليفة له وإجلاله إياه ، وسأله فيما بينه وبينه عن القرآن ، فقال له أحمد : سؤال تعنت أو استرشاد ؟ فقال : بل سؤال استرشاد . فقال : هو كلام الله منزل غير مخلوق . فسكن إلى قوله في ذلك ، ثم جهزه إلى الخليفة بسر من رأى ، ثم سبقه إليه .
وبلغه أن أحمد بن حنبل اجتاز بابنه محمد بن إسحاق فلم يأته ولم يسلم عليه ، فغضب إسحاق بن إبراهيم من ذلك وشكاه إلى الخليفة ، فقال المتوكل : يرد وإن كان قد وطئ بساطي . فرجع الإمام أحمد من الطريق إلى بغداد وقد كان الإمام أحمد متكرها لذلك ، ولكن لم يهن ذلك على كثير من الناس ، وإنما كان رجوعه عن قول إسحاق بن إبراهيم الذي كان هو السبب في ضربه .
ثم إن رجلا من المبتدعة يقال له ابن الثلجي وشى إلى الخليفة شيئا ، فقال : إن رجلا من العلويين قد ضوى إلى منزل أحمد بن حنبل ، وهو يبايع له الناس في الباطن . فأمر الخليفة نائب بغداد أن يكبس منزل الإمام أحمد من الليل . فلم يشعروا إلا والمشاعل قد أحاطت بالدار من كل جانب حتى من فوق الأسطحة فوجدوا الإمام أحمد جالسا في داره مع عياله ، فسألوه عما ذكر عنه ، فقال : ليس عندي من هذا علم ، وليس من هذا شيء ، ولا هذا من نيتي ، وإني لأرى طاعة أمير المؤمنين في السر والعلانية ، وفي عسري ويسري ، ومنشطي ومكرهي ، وأثرة علي ، وإني لأدعو الله له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار . في كلام كثير ، ففتشوا منزله حتى مكان الكتب وبيوت النساء والأسطحة وغيرها فلم يروا شيئا . فلما بلغ المتوكل ذلك ، وعلم براءته مما نسب إليه ، علم أنهم يكذبون عليه كثيرا ، فبعث إليه يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة وهو أحد الحجبة بعشرة آلاف درهم من الخليفة ، وقال : هو يقرأ عليك السلام ويقول لك : استنفق هذه . فامتنع من قبولها . فقال : يا أبا عبد الله إني أخشى من ردك إياها أن يقع وحشة بينك وبينه ، والمصلحة لك قبولها ، فوضعها عنده ثم ذهب ، فلما كان من آخر الليل استدعى الإمام أحمد أهله وبني عمه وعياله ، وقال : لم أنم هذه الليلة من هذا المال . فجلسوا معه ، وكتبوا أسماء جماعة من المحتاجين من أهل الحديث ، وغيرهم من أهل بغداد والبصرة ، ثم أصبح ففرقها في الناس ما بين الخمسين إلى المائة والمائتين ولم يبق منها درهما ، وأعطى منها لأبي كريب ، وأبي سعيد الأشج ، وتصدق بالكيس الذي كانت فيه ، ولم يعط منها لأهله شيئا ، وهم في غاية الفقر والحاجة ، وجاء بني ابنه فقال : أعطني درهما . فنظر أحمد إلى ابنه صالح ، فتناول صالح قطعة فأعطاها الصبي ، فسكت أحمد ، رحمه الله .
وبلغ الخليفة أنه قد تصدق بالجائزة كلها حتى لم يبق منها شيئا وأنه تصدق بكيسها ، فقال علي بن الجهم : يا أمير المؤمنين ، إنه قد قبلها منك وتصدق بها عنك ، وما يصنع أحمد بالمال ؟ إنما يكفيه رغيف . فقال : صدقت .
فلما مات إسحاق بن إبراهيم وابنه محمد ، ولم يكن بينهما إلا القريب ، وتولى نيابة بغداد عبد الله بن إسحاق ، كتب المتوكل إليه أن يحمل إليه الإمام أحمد ، فقال لأحمد في ذلك . فقال : إني شيخ كبير وضعيف ، فرد الجواب على الخليفة بذلك ، فأرسل يعزم عليه لتأتيني ، وكتب إلى أحمد يقول له : إني أحب أن آنس بقربك ، وبالنظر إليك ، ويحصل لي بركة دعائك . فسار إليه الإمام أحمد وهو عليل في بنيه وبعض أهله ، فلما قارب العسكر تلقاه وصيف الخادم في موكب عظيم ، فسلم وصيف على الإمام أحمد ، فرد السلام ، ثم قال له وصيف : قد أمكنك الله من عدوك ابن أبي دؤاد . فلم يرد عليه جوابا ، وجعل ابنه يدعو الله للخليفة ولوصيف فلما وصلوا إلى العسكر بسر من رأى ، أنزل أحمد في دار إيتاخ فلما علم بذلك ارتحل منها ، وأمر أن يستكرى له دار غيرها .
وكان رءوس الأمراء في كل يوم يحضرون عنده ، ويبلغونه عن الخليفة السلام ، ولا يدخلون عليه حتى يخلعوا ما عليهم من الزينة والسلاح ، وبعث إليه الخليفة بالمفارش الوطيئة وغيرها من الآلات التي تليق بتلك الدار العظيمة .
وأراد منه الخليفة أن يقيم هناك ليحدث الناس عوضا عما فاتهم منه في أيام المحنة وما بعدها من السنين الماضية المتطاولة وهو محجوب في داره لا يخرج إلى جماعة ولا جمعة أيضا ، فاعتذر إليهم بأنه عليل وأسنانه تتحرك وهو ضعيف . وكان الخليفة يبعث إليه في كل يوم مائدة فيها ألوان الأطعمة والفاكهة والثلج ، مما يقاوم مائة وعشرين درهما في كل يوم ، والخليفة يحسب أنه يأكل من ذلك ، ولم يكن أحمد يطعم شيئا من ذلك بالكلية ، بل كان صائما يطوي ، فمكث ثمانية أيام لم يستطعم بطعام ، ومع ذلك هو عليل ، ثم أقسم عليه ولده حتى شرب قليلا من السويق بعد ثمانية أيام . وجاء عبيد الله بن يحيى بن خاقان بمال جزيل من الخليفة ; جائزة له ، فامتنع من قبولها ، فألح عليه الأمير فلم يقبل ، فأخذها الأمير ففرقها على بنيه وأهله ، وقال : إنه لا يمكن أن ترد على الخليفة جائزته . وكتب الخليفة لأهله وأولاده في كل شهر بأربعة آلاف درهم ، فمانع أبو عبد الله في ذلك ، فقال الخليفة : لا بد من ذلك ، وما هذا إلا لولدك . فأمسك أبو عبد الله عن ممانعته ، ثم أخذ يلوم أهله وعمه وبني عمه ، وقال لهم : إنما بقي لنا أيام قلائل ، وكأننا وقد نزل بنا الموت فإما إلى جنة ، وإما إلى نار ، فنخرج من الدنيا وبطوننا قد أخذت من مال هؤلاء . في كلام طويل يعظهم به . فاحتجوا عليه بالحديث الصحيح وبأن ابن عمر وابن عباس قبلا جوائز السلطان . فقال : ما هذا وذاك سواء ، ولو أعلم أن هذا المال أخذ من حقه ، وليس فيه ظلم ولا جور لم أبال . ما جاءك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه
ولما استمر ضعف أبي عبد الله جعل المتوكل يبعث إليه بابن ماسويه المتطبب لينظر في مرضه ، فرجع إليه فقال : يا أمير المؤمنين ، إن أحمد بن حنبل ليس به علة في بدنه ، وإنما علته من قلة الطعام ، وكثرة الصيام والعبادة . فسكت المتوكل ، ثم سألت أم الخليفة منه أن ترى الإمام أحمد ، فبعث المتوكل إليه يسأله أن يجتمع بابنه المعتز ويدعو له ، ويكون في حجره فتمنع من ذلك ، ثم أجاب إليه ; رجاء أن يعجل برجوعه إلى أهله ببغداد ، وبعث الخليفة إليه بخلعة سنية ومركوب من مراكيبه ، فامتنع من ركوبه ; لأنه عليه ميثرة نمور فجيء ببغل لبعض التجار فركبه ، وجاء إلى مجلس المعتز ، وقد جلس الخليفة وأمه في ناحية في ذلك المجلس ، من وراء ستر رقيق . فلما جاء أحمد قال : السلام عليكم . وجلس ولم يسلم عليه بالإمرة ، فقالت أم الخليفة : الله الله يا بني في هذا الرجل ! ترده إلى أهله ، فإن هذا ليس ممن يريد ما أنتم فيه ، وحين رأى المتوكل أحمد قال لأمه : يا أمه ، قد أنارت الدار .
وجاء الخادم ومعه خلعة سنية مبطنة وثوب وقلنسوة وطيلسان ، فألبسها الإمام أحمد بيده ، وأحمد لا يتحرك بالكلية . قال الإمام أحمد : لما جلست إلى المعتز قال مؤدبه : أصلح الله الأمير ، هذا الذي أمر الخليفة أن يكون مؤدبك . فقال : إن علمني شيئا تعلمته . قال أحمد : فعجبت من ذكائه في صغره ; لأنه كان صغيرا جدا . ثم خرج أحمد عنهم وهو يستغفر الله ، ويستعيذ بالله من مقته ، وغضبه .
ثم بعد أيام أذن له الخليفة بالانصراف ، وهيأ له حراقة فلم يقبل أن ينحدر فيها بل ركب في زورق فدخل بغداد مختفيا ، وأمر أن تباع تلك الخلعة ، وأن يتصدق بثمنها على الفقراء والمساكين . وجعل أياما يتألم من اجتماعه بهم ويقول : سلمت منهم طول عمري ، ثم ابتليت بهم في آخره ، وكان قد جاع عندهم جوعا عظيما كثيرا حتى كاد يهلك من الجوع . وقد قال بعض الأمراء للمتوكل على الله الخليفة : يا أمير المؤمنين ، إن أحمد بن حنبل لا يأكل لك طعاما ، ولا يشرب لك شرابا ، ولا يجلس على فرشك ، ويحرم ما تشربه . فقال لهم : والله لو نشر المعتصم ، وكلمني في أحمد ما قبلت منه . وجعلت رسل الخليفة تفد إليه في كل يوم ; تستعلم أخباره وكيف حاله . وجعل يستفتيه في أموال ابن أبي دؤاد فلا يجيب بشيء ، ثم إن المتوكل أخرج ابن أبي دؤاد من سر من رأى إلى بغداد بعد أن أشهد عليه نفسه ببيع ضياعه وأملاكه وأخذ أمواله كلها .
قال عبد الله بن أحمد : وحين رجع أبي من سامرا إلى بغداد وجدنا عينيه قد دخلتا في موقيه ، وما رجعت إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر . وامتنع أن يدخل بيت قرابته أو يدخل بيتا هم فيه ، أو ينتفع بشيء مما هم فيه ; لأجل قبولهم أموال السلطان .
وكان مسير أحمد إلى المتوكل في سنة سبع وثلاثين ومائتين ، ثم مكث إلى سنة وفاته ، قل يوم إلا ورسالة المتوكل تفد إليه في أمور يشاوره فيها ، ويستشيره في أشياء تقع له .
ولما قدم المتوكل بغداد بعث إليه ابن خاقان ومعه ألف دينار ليفرقها على من يرى فامتنع من قبولها وتفرقتها ، وقال : إن أمير المؤمنين قد أعفاني مما أكره فردها .
وكتب رجل رقعة إلى المتوكل يقول فيها : يا أمير المؤمنين ، إن أحمد بن حنبل يشتم آباءك ويرميهم بالزندقة . فكتب فيها المتوكل : أما المأمون فإنه خلط فسلط الناس على نفسه ، وأما أبي المعتصم فإنه كان رجل حرب ، ولم يكن له بصر بالكلام ، وأما أخي الواثق فإنه استحق ما قيل فيه ، ثم أمر أن يضرب هذا الرجل الذي رفع إليه الرقعة مائتي سوط ، فأخذه عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم فضربه خمسمائة سوط ، فقال له الخليفة : لم ضربته خمسمائة سوط ؟ فقال : مائتين لطاعتك ، ومائتين لطاعة الله ورسوله ومائة لكونه قذف هذا الشيخ ; الرجل الصالح أحمد بن حنبل .
وقد كتب الخليفة إلى الإمام أحمد يسأله عن القول في القرآن ; سؤال استرشاد واستفادة لا سؤال تعنت ولا امتحان ولا عناد ، فكتب إليه أحمد رحمه الله رسالة حسنة ، فيها آثار عن الصحابة وغيرهم ، وأحاديث مرفوعة ، وقد أوردها ابنه صالح في المحنة التي ساقها ، وهي مروية عنه ، وقد نقلها غير واحد من الحفاظ . ذكر ما رئي من المنامات الصالحة التي رآها الإمام أحمد ورئيت له
وقد صح في الحديث . لم يبق من النبوة إلا المبشرات - وفي رواية : إلا الرؤيا الصالحة - يراها المؤمن أو ترى له
وروى البيهقي ، بسنده قال سلمة بن شبيب : كنا عند أحمد بن حنبل ، وجاءه شيخ ومعه عكازة فسلم عليه وجلس ، فقال : من منكم أحمد بن حنبل ؟ فقال أحمد : أنا ، ما حاجتك ؟ فقال : ضربت إليك من أربعمائة فرسخ ، أريت الخضر في المنام فقال لي : سر إلى أحمد بن حنبل وسل عنه ، وقل له : إن ساكن العرش والملائكة راضون عنك بما صبرت نفسك لله ، عز وجل . وعن أبي عبد الله محمد بن خزيمة الإسكندراني . قال : لما مات أحمد بن حنبل اغتممت غما شديدا ، فرأيته في المنام وهو يتبختر في مشيته فقلت له : يا أبا عبد الله أي مشية هذه ؟ فقال : مشية الخدام في دار السلام . فقلت : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي وتوجني وألبسني نعلين من ذهب ، وقال لي : يا أحمد ، هذا بقولك : القرآن كلامي . ثم قال لي : يا أحمد ، ادعني بتلك الدعوات التي بلغتك عن سفيان الثوري وكنت تدعو بهن في دار الدنيا . قال : قلت : يا رب كل شيء ، بقدرتك على كل شيء ، اغفر لي كل شيء ، حتى لا تسألني عن شيء . فقال لي : يا أحمد ، هذه الجنة قم فادخلها . فدخلت فإذا أنا بسفيان الثوري وله جناحان أخضران يطير بهما من نخلة إلى نخلة ، وهو يقول الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين [ الزمر : 74 ] قال : فقلت له : ما فعل بشر الحافي ؟ فقال : بخ بخ ، ومن مثل بشر ؟ تركته بين يدي الجليل وبين يديه مائدة من الطعام والجليل مقبل عليه وهو يقول : كل يا من لم يأكل ، واشرب يا من لم يشرب ، وانعم يا من لم ينعم . أو كما قال . وقال أبو محمد ابن أبي حاتم ، عن محمد بن مسلم بن وارة قال : لما مات أبو زرعة رأيته في المنام ، فقلت له : ما فعل الله بك ؟ فقال : قال لي الجبار : ألحقوه بأبي عبد الله ، وأبي عبد الله ، وأبي عبد الله ; مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل . وقال عثمان بن خرزاد الأنطاكي : رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت وقد برز الرب لفصل القضاء ، وكأن مناديا ينادي من تحت بطنان العرش : أدخلوا أبا عبد الله ، وأبا عبد الله ، وأبا عبد الله وأبا عبد الله الجنة . قال : فقلت لملك إلى جانبي : من هؤلاء ؟ فقال : مالك ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل . وقال أبو بكر بن أبي خيثمة ، عن يحيى بن أيوب المقدسي قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم ، وهو نائم وعليه ثوب مغطى ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين يذبان عنه . وتقدم في ترجمة أحمد بن أبي دؤاد عن يحيى الجلاء أنه رأى كأن أحمد بن حنبل في حلقة بالمسجد الجامع ، وأحمد بن أبي دؤاد في حلقة أخرى ، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بين الحلقتين ، وهو يتلو هذه الآية أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء ويشير إلى حلقة ابن أبي دؤاد وأصحابه فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ الأنعام : 89 ] ويشير إلى أحمد بن حنبل ، وأصحابه . ذكر رحمه الله وفاة الإمام أحمد بن حنبل ،
قال ابنه صالح : كان مرضه في أول شهر ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين ، ودخلت عليه يوم الأربعاء ثاني ربيع الأول ، وهو محموم يتنفس الصعداء وهو ضعيف ، فقلت : يا أبت ما كان غداؤك ؟ فقال : ماء الباقلا . ثم ذكر كثرة مجيء الناس من الأكابر وعموم الناس لعيادته ، وكثرة جزع الناس عليه ، وكان معه خريقة فيها قطيعات ينفق على نفسه منها ، وقد أمر ولده عبد الله أن يطالب سكان ملكه وأن يكفر عنه كفارة يمين فأخذ شيئا من الأجرة فاشترى تمرا وكفر عن أبيه ، وفضل من ذلك ثلاثة دراهم ، وكتب الإمام أحمد وصيته :
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به أحمد بن محمد بن حنبل ، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون . وأوصى من أطاعه من أهله وقرابته أن يعبدوا الله في العابدين ، وأن يحمدوه في الحامدين ، وأن ينصحوا لجماعة المسلمين ، وأوصي أني قد رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، وأوصي لعبد الله بن محمد المعروف بفوران علي نحوا من خمسين دينارا ، وهو مصدق فيما قال فيقضى ما له علي من غلة الدار ، إن شاء الله فإذا استوفي أعطي ولد صالح كل ذكر وأنثى عشرة دراهم .
ثم استدعى بالصبيان من ورثته فجعل يدعو لهم ، وكان قد ولد له صبي قبل موته بخمسين يوما فسماه سعيدا ، وكان له ولد آخر اسمه محمد قد مشى حين مرض الإمام أحمد ، فدعاه فالتزمه وقبله ، ثم قال : ما كنت أصنع بالولد على كبر السن ؟ فقيل له : ذرية تكون بعدك يدعون لك . قال : وذاك . وجعل يحمد الله عز وجل . وقد بلغه في مرضه عن طاوس أنه كان كره الأنين في المرض ، فترك الأنين فلم يئن حتى كانت الليلة التي توفي في صبيحتها ، وكانت ليلة الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من هذه السنة ، فأن حين اشتد عليه الوجع . وقد روي عن ابنه عبد الله ، ويروى عن صالح وقد يكون عن كل منهما أنه قال : لما احتضر أبي - رحمه الله - جعل يكثر أن يقول : لا بعد ، لا بعد ، فقلت : يا أبت ، ما هذه اللفظة التي لهجت بها في هذه الساعة ؟ فقال : يا بني ، إن إبليس واقف في زاوية البيت ، وهو عاض على أصبعه ، وهو يقول : فتني يا أحمد ؟ فأقول : لا بعد لا بعد . يعني أنه لا يفوته حتى تخرج روحه من جسده على التوحيد ، كما جاء في بعض الأحاديث ، قال إبليس : يا رب ، وعزتك وجلالك ما أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم . فقال : وعزتي وجلالي ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني .
وأحسن ما كان من أمره أنه أشار إلى أهله أن يوضئوه فجعلوا يوضئونه ، وهو يشير إليهم أن خللوا أصابعي ، وهو يذكر الله في جميع ذلك ، فلما أكملوا الوضوء توفي - رحمه الله - ورضي عنه .
وقد كانت وفاة الإمام أحمد - رضي الله تعالى عنه - صبيحة يوم الجمعة حين مضى نحو من ساعتين من النهار ، فاجتمع الناس في الشوارع ، وبعث محمد بن عبد الله بن طاهر حاجبه ومعه غلمان يحملون مناديل فيها أكفان ، وأرسل يقول : هذا نيابة عن الخليفة فإنه لو كان حاضرا لبعث بهذا . فأرسل أولاده يقولون : إن أمير المؤمنين كان قد أعفاه في حياته مما يكره ، وهذا مما يكره ، وأبوا أن يكفنوه في تلك الأثواب ، وأتوا بثوب كان قد غزلته جاريته ، فكفنوه فيه ، واشتروا معه عوز لفافة وحنوطا ، واشتروا له راوية ماء ، وامتنعوا أن يغسلوه بماء من بيوتهم ; لأنه كان قد هجر بيوتهم فلا يأكل منها ولا يستعير من أمتعتهم شيئا ، وكان لا يزال متغضبا عليهم ; لأنهم كانوا يتناولون ما رتب لهم على بيت المال ، وهو في كل شهر أربعة آلاف درهم ، وكانوا عالة فقراء ، وحضر غسله نحو من مائة من بيت الخلافة من بني هاشم ، فجعلوا يقبلون بين عينيه ، ويدعون له ، ويترحمون عليه . وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله من الرجال والنساء ما لا يعلم عددهم إلا الله ، ونائب البلد محمد بن عبد الله بن طاهر واقف في الناس ، فتقدم خطوات فعزى أولاد الإمام أحمد فيه ، وكان هو الذي أم الناس في الصلاة عليه ، وقد أعاد جماعة من الناس الصلاة على القبر بعد الدفن من أجل ذلك ، ولم يستقر في قبره ، رحمه الله إلا بعد صلاة العصر وذلك لكثرة الخلق .
وقد روى البيهقي وغير واحد أن الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر أمر بحزر الناس ، فوجدوا ألف ألف وثلاثمائة ألف ، وفي رواية : وسبعمائة ألف سوى من كان في السفن ، وأقل ما قيل : سبعمائة ألف .
وقال ابن أبي حاتم : سمعت أبا زرعة يقول : بلغني أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس عليه حيث صلي على أحمد بن حنبل ، فبلغ مقام ألفي ألف وخمسمائة ألف .
وقال عبد الوهاب الوراق : ما بلغنا أن جمعا في الجاهلية والإسلام كان أكثر من الجمع على جنازة أبي عبد الله .
وقال الوركاني جار أحمد بن حنبل قال : أسلم يوم مات أحمد عشرون ألفا من اليهود والنصارى والمجوس ، ووقع المأتم في المسلمين واليهود والنصارى والمجوس . وفي بعض النسخ : أسلم عشرة آلاف بدل عشرين ألفا . فالله أعلم .
وقال الدارقطني : سمعت أبا سهل بن زياد ، سمعت عبد الله بن أحمد يقول : سمعت أبي يقول : قولوا لأهل البدع ، بيننا وبينكم الجنائز . وقد صدق الله قوله في هذا فإنه رحمه الله كان إمام السنة في زمانه ، وعيون مخالفيه أحمد بن أبي دؤاد القاضي لم يحتفل أحد بموته ، ولا شيعه أحد من الناس إلا القليل ، وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه وتنقيره ومحاسبته نفسه في خطراته وحركاته لم يصل عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس ، فلله الأمر من قبل ومن بعد .
وقد روى البيهقي ، عن حجاج بن محمد الشاعر أنه قال : ما كنت أحب أن أقتل في سبيل الله ولم أصل على الإمام أحمد . وروي عن رجل من أهل العلم أنه قال يوم دفن أحمد : دفن اليوم سادس خمسة : وهم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعمر بن عبد العزيز ، رحمهم الله . وكان عمره - رحمه الله - يوم توفي سبعا وسبعين سنة وأياما أقل من شهر .