الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر  الحسن بن الجنيد بن أبي جعفر البلخي

            الحسن بن الجنيد [بن ] أبي جعفر ، [البلخي ]   .

            بلخي الأصل ، حدث عن وكيع وغيره ، روى عنه ابن أبي الدنيا .

            أبو عبد الرحمن الأذرمي

            وتوفي في هذه السنة .

            عبد الله بن محمد بن إسحاق ، أبو عبد الرحمن الأذرمي   .

            سمع سفيان بن عيينة ، وغندرا ، وهشيم بن بشير ، و [إسماعيل ] بن علية وغيرهم ، روى عنه : أبو حاتم الرازي ، وقال : كان ثقة ، وأبو داود السجستاني وابنه ، وابن صاعد وغيرهم .

            وقد كان الواثق استحضر رجلا من أهل أدنة للمحنة ، فناظر ابن أبي دؤاد بحضرته ، فظهر على ابن أبي دؤاد ، فيقال : إنه هذا الرجل .



            وقال أحمد بن سندي الحداد : قرئ على أحمد بن الممتنع وأنا أسمع ، قيل له : أخبركم صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور الهاشمي قال : حضرت المهتدي بالله أمير المؤمنين ، وقد جلس للنظر في أمور المتظلمين في دار العامة ، فنظرت في بعض قصص الناس تقرأ عليه من أولها إلى آخرها ، فيأمر بالتوقيع فيها ، وينشأ الكتاب عليها ، ويحرر [ويختم ] وتدفع إلى صاحبها بين يديه ، فسرني ذلك واستحسنت ما رأيت ، فجعلت أنظر [إليه ] ففطن ونظر إلي ، فغضضت عنه حتى كان ذلك مني ومنه مرارا ثلاثة ، إذا نظر إلي غضضت ، وإذا شغل نظرت ، فقال لي : يا صالح قلت : لبيك يا أمير المؤمنين ، وقمت قائما . فقال : في نفسك [مني ] شيء تريد أن تقوله ؟ قلت :

            نعم يا سيدي ، فقال لي : عد إلى موضعك ، [فعدت ] وعاد إلى النظر حتى إذا قام قال للحاجب : لا يبرح صالح ، وانصرف الناس ، ثم أذن لي ، وأهمتني نفسي ، فدخلت فدعوت له ، فقال : اجلس فجلست فقال لي : يا صالح تقول لي ما دار في نفسك وأقول أنا ، ما دار في نفسي [قلت : ] يا أمير المؤمنين ، ما تعزم عليه ، وتأمر به ، فقال أقول أنا إنه دار في نفسي أنك استحسنت ما رأيت منا ، فقلت :

            أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول إن القرآن مخلوق فورد على [قلبي ] أمر عظيم ، ثم قلت : يا نفس ، هل تموتين قبل أجلك ، وهل تموتين إلا مرة ، وهل يجوز الكذب في جد أو هزل ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين ، ما دار في نفسي إلا ما قلت . فأطرق مليا ، ثم قال : ويحك ، اسمع مني ما أقول ؟ فو الله لتسمعن الحق ، فسري عني . ثم قلت : يا سيدي ، ومن أولى بقول الحق منك وأنت خليفة رب العالمين ، وابن عم سيد المرسلين ؟ فقال : ما زلت أقول إن القرآن مخلوق صدرا من أيام الواثق ، حتى أقدم أحمد بن أبي دؤاد علينا شيخا من أهل الشام من أهل أدنة ، فأدخل الشيخ على الواثق مقيدا ، وهو جميل الوجه ، تام القامة ، حسن الشيبة ، فرأيت الواثق قد استحيى منه ، ورق له ، فما زال يدنيه ويقربه حتى قرب منه ، فسلم الشيخ فأحسن ، ودعا فأبلغ وأوجز ، فقال له الواثق : اجلس . فجلس ، فقال [له ] : ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه .

            فقال له الشيخ : يا أمير المؤمنين ، ابن أبي دؤاد يصبو ويضعف عن المناظرة . فغضب الواثق وعاد إلى مكان الرقة له غضبا عليه وقال : أبو عبد الله بن أبي دؤاد يصبو ويضعف عن مناظرتك أنت ! ؟ فقال الشيخ : هون عليك يا أمير المؤمنين ما بك ، وأذن في مناظرته . فقال الواثق : ما دعوتك إلا للمناظرة . فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ، إن رأيت أن تحفظ علي وعليه ما نقول [قال : أفعل ] قال الشيخ : يا أحمد ، أخبرني عن مقالتك هذه هي مقالة واجبة داخلة في عقد الدين ، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه بما قلت . قال : نعم . قال الشيخ : يا أحمد ، أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله إلى عباده ، هل ستر [رسول الله ] شيئا مما أمره الله به في أمر دينهم ؟ فقال : لا . قال الشيخ : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم [الأمة ] إلى مقالتك هذه ؟ فسكت أحمد بن أبي دؤاد . فقال الشيخ : تكلم . فسكت ، فالتفت الشيخ إلى الواثق فقال : يا أمير المؤمنين واحدة ، فقال الواثق : واحدة . فقال الشيخ : يا أحمد ، أخبرني عن الله تعالى حين أنزل القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا هل كان الله الصادق في إكمال دينه ، وأنت الصادق في نقصانه حتى يقال فيه بمقالتك ، فيتم ؟ فسكت ابن أبي دؤاد . فقال



            الشيخ : أجب يا أحمد . فلم يجب ، فقال للشيخ : يا أمير المؤمنين ، اثنتان . فقال الواثق : نعم اثنتان . فقال الشيخ : يا أحمد ، أخبرني عن مقالتك هذه ، علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها ؟ قال ابن أبي دؤاد : علمها . قال : فدعا الناس إليها ؟ فسكت . قال الشيخ : يا أمير المؤمنين ، ثلاث . فقال الواثق : ثلاث . قال الشيخ : يا أحمد ، فاتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن علمها وسكت عنها كما زعمت ، ولم يطالب أمته بها ؟ قال :

            نعم . قال الشيخ : أو اتسع لأبي بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان ، وعلي رضي الله عنهم ؟ قال ابن أبي دؤاد : نعم . فأعرض الشيخ عنه ، وأقبل على الواثق فقال :

            يا أمير المؤمنين ، قد قدمت القول بأن أحمد يصبو ويضعف عن المناظرة ، يا أمير المؤمنين إن لم يتسع لنا الإمساك عن هذه المقالة كما زعم هذا أنه اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، فلا وسع الله على من لم يتسع له ما اتسع . فقال الواثق : نعم ، إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، فلا وسع الله علينا ، اقطعوا قيد الشيخ . فلما قطع القيد ضرب الشيخ بيده إلى القيد حتى يأخذه ، فجاذبه الحداد عليه ، فقال الواثق : دع الشيخ يأخذه . فأخذه فوضعه في كمه . فقال له الواثق : يا شيخ ، لم جاذبت الحداد عليه ؟ قال : لأني نويت أن أتقدم إلى من أوصي إليه إذا أنا مت أن يجعله بيني وبين كفني حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله يوم القيامة ، وأقول : يا رب ، سل عبدك هذا لم قيدني ! وروع أهلي وولدي وإخواني [من غير شيء ] أوجب ذلك علي ؟ وبكى الشيخ ، وبكى الواثق ، وبكينا ، ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما ناله ، فقال له الشيخ : والله يا أمير المؤمنين لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ كنت رجلا من أهله . فقال الواثق : لي إليك حاجة . فقال الشيخ : إن كانت ممكنة فعلت ، فقال : تقيم قبلنا ، فننتفع بك وينتفع [بك فتياننا ] فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ، إن ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني عنه هذا الظالم أنفع لك من مقامي [عندك ] ، وأخبرك بما في ذلك : أصير إلى أهلي وولدي ، وأكف دعاءهم عليك ، فقد خلفتهم على ذلك . فقال له الواثق : فتقبل منا صلة تستعين بها على رجوعك ودهرك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، لا تحل لي ، أنا عنها غني ، وذو مرة سوي . فقال : سل حاجة . قال : أو تقضيها ؟ قال : نعم . قال : فأذن لي أن يخلى سبيلي الساعة إلى الثغر . قال : إني قد أذنت لك . فسلم وانصرف . قال [صالح بن علي قال ] المهتدي : فرجعت عن هذه المقالة ، وأظن أن الواثق قد كان رجع عنها [منذ ذلك الوقت ] .

            وقال عبد الله بن علي بن حمويه : سمعت أبا بكر أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي الحافظ يحدث الشيخ الأدنى ومناظرته مع ابن أبي دؤاد بحضرة الواثق ، فقال : الشيخ هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن إسحاق الأدرمي .

            أبو الفضل الأسدي الرقي

            عبد السلام بن عبد الرحمن بن صخر بن عبد الرحمن بن وابصة بن معبد ، أبو الفضل الأسدي الرقي   .

            سمع أباه ، روى عنه أبو عروبة الحراني ، وكان قاضي الرقة ، ولي القضاء ببغداد في أيام المتوكل ، وكان عفيفا ، فصرفه يحيى بن أكثم ، فبعث المتوكل عهدا إلى بغداد ، ولم يسم القاضي ، وقال : إن رضوا به فليدفع العهد إليه . فرضوا به . فظاهر هذا أنه ولي قضاء بغداد مرتين .

            وسئل الإمام أحمد عن الوابصي فأحسن القول فيه ، وقال : ما بلغني عنه إلا خير .

            توفي في هذه السنة بالرقة ، وقيل : في سنة تسع ، والله أعلم .

            وأبو عثمان المازني النحوي   .

            واسمه : بكر بن محمد بن عثمان البصري ، شيخ النحاة في زمانه . أخذ عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري وغيرهم ، وأخذ عنه أبو العباس المبرد وأكثر عنه ، وللمازني مصنفات كثيرة في هذا الشأن ، وكان شبيها بالفقهاء ، ورعا زاهدا ثقة مأمونا .

            روى عنه المبرد أن رجلا من أهل الذمة طلب منه أن يقرأ عليه كتاب سيبويه ويعطيه مائة دينار ، فامتنع من ذلك ، فلامه بعض الناس في ذلك ، فقال : إنما تركت هذا لما فيه من آيات الله تعالى . فاتفق بعد هذا أن جارية غنت بحضرة الواثق :


            أظلوم إن مصابكم رجلا رد السلام تحية ظلم

            فاختلف من بحضرة الواثق في إعراب هذا البيت ، وهل يكون " رجلا " مرفوعا أو منصوبا ، وبم نصب ؟ أهو اسم أو ماذا ؟ وأصرت الجارية على أن المازني حفظها هذا هكذا . قال : فأرسل الخليفة إليه ، فلما مثل بين يديه قال له : أنت المازني ؟ قال : نعم . قال : من مازن تميم ، أم من مازن ربيعة ، أم من مازن قيس ؟ فقلت : من مازن ربيعة . فأخذ يكلمني بلغتي ، فقال : باسمك ؟ وهم يقلبون الباء ميما والميم باء ، فكرهت أن أقول : مكر . فقلت : بكر . فأعجبه إعراضي عن المكر إلى البكر ، وعرف ما أردت . فقال : علام تنصب رجلا ؟ فقلت : لأنه معمول المصدر ; " مصابكم " . فأخذ اليزيدي يعارضه فعلاه المازني بالحجة ، فأطلق له الخليفة ألف دينار ، ورده إلى أهله مكرما . فعوضه الله عن المائة دينار لما تركها لله سبحانه ، ولم يمكن الذمي من قراءة الكتاب ; لأجل ما فيه من القرآن ألف دينار ; عشرة أمثالها .

            وروى المبرد عنه قال : أقرأت رجلا كتاب سيبويه إلى آخره ، فلما انتهى قال لي : أما أنت أيها الشيخ ، فجزاك الله خيرا ، وأما أنا ، فوالله ما فهمت منه حرفا .

            توفي المازني في هذه السنة ، وقيل : في سنة ثمان وأربعين ومائتين ، وأغرب من قال : سنة ست وثلاثين . فالله أعلم بالصواب . وممن توفي فيها من الأعيان   :

            إبراهيم بن سعيد الجوهري .

            وسفيان بن وكيع بن الجراح .

            وسلمة بن شبيب .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية