وفي سنة ثمان وأربعين ومائتين بويع أحمد بن محمد بن المعتصم بالخلافة ، ويكنى: أبا العباس ، وقيل: أبا عبد الله ، وكان ينزل سر من رأى ، ثم ورد بغداد فأقام بها إلى أن خلع ، وأمه أم ولد اسمها مخارق ، وكان أبيض حسن الوجه ، ظاهر الدم ، بوجهه أثر جدري ، وسبب بيعته أن المنتصر لما توفي اجتمع الموالي على الهارونية من الغد ، وفيها بغا الكبير ، وبغا الصغير ، وأتامش ، وغيرهم ، فاستحلفوا قواد الأتراك ، والمغاربة ، والأشروسنية على أن يرضوا بمن رضي به بغا الكبير ، وبغا الصغير ، وأتامش ، وذلك بتدبير أحمد بن الخصيب ، فحلفوا ، وتشاوروا ، وكرهوا أن يتولى الخلافة أحد من ولد المتوكل لئلا يغتالهم ، وأجمعوا على أحمد بن محمد بن المعتصم ، فدعوه ليبايع له بالخلافة ، فقال: فسمي المستعين ، فبايعوه بعد عشاء الآخرة من ليلة الاثنين لست خلون من ربيع الآخر ، فاستكتب أحمد بن الخصيب ، واستوزر أوتامش . أستعين بالله وأفعل .
فلما كان يوم الاثنين سار المستعين إلى دار العامة في زي الخلافة ، وحمل إبراهيم بن إسحاق بين يديه الحربة ، وصف واجن الأشروسني أصحابه صفين ، وقام هو وعدة من وجوه أصحابه ، وحضر الدار أصحاب المراتب من العباسيين والطالبيين وغيرهم .
فبينا هم كذلك إذ جاءت صيحة من ناحية الشارع والسوق ، وإذا نحوا من خمسين فارسا ذكروا أنهم من أصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر ، ومعهم غيرهم من أخلاط الناس والغوغاء والسوقة ، فشهروا السلاح ، وصاحوا : نفير ، يا منصور ! وشدوا على أصحاب الأشروسني فتضعضعوا ، وانضم بعضهم إلى بعض ، وتحرك من على باب العامة من المبيضة والشاكرية ، وكثروا ، فحمل عليهم المغاربة ، وبعض الأشروسنية ، فهزموهم حتى أدخلوهم درب زرافة ، ثم نشبت الحرب بينهم ، فقتل جماعة ، وانصرف الأتراك بعد ثلاث ساعات ، وقد بايعوا المستعين هم ومن حضر من الهاشميين وغيرهم .
ودخل الغوغاء والمنتهبة دار العامة ، فانتهبوا الخزانة التي فيها السلاح ، والدروع ، والجواشن ، والسيوف ، والترس ، وغير ذلك ، وكان الذين نهبوا ذلك الغوغاء ، وأصحاب الحمامات ، وغلمان أصحاب الباقلي ، وأصحاب الفقاع ، فأتاهم بغا الكبير ، في جماعة ، فأجلوهم عن الخزانة ، وقتلوا منهم عدة ، وكثر القتل من الفريقين ، وتحرك أهل السجن بسامرا ، وهرب منهم جماعة ، ثم وضع العطاء على البيعة ، وبعث بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر ، فبايع له هو والناس ببغداذ .
ذكر ابن مسكويه في كتاب " تجارب الأمم " أن المستعين أخو المتوكل لأبيه ، وليس هو كذلك ، إنما هو ولد أخيه محمد بن المعتصم ، والله أعلم . ولما توفي المنتصر كان في بيت المال تسعون ألف ألف درهم فأمر المستعين للجند برزق خمسة أشهر وكان ألفي ألف دينار ، وللعابد: ألف واثنين وتسعين دينارا . وعن عبد الله] بن محمد بن داود المعروف بأترجة قال: دخلت على المستعين بالله فأنشدته:
غدوت بسعد غدوة لك باكرة فلا زالت الدنيا بملكك عامره ونال مواليك الغنى بك ما بقوا
وعزوا وعزت دولة لك ناصره بعثت علينا غيث جود ورحمة
فنلنا بدنيا منك فضلا وآخره فلا خائف إلا بسطت أمانه
ولا معدم إلا سددت مفاقره تيقن بفضل المستعين بفضله
على غيره نعماء في الناس ظاهره