الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            البيعة للمعتز بالله  واسمه: محمد بن المتوكل ، وقيل اسمه: الزبير ويكنى: أبا عبد الله ، وكان طويلا ، أبيض ، أسود الشعر كثيفه ، حسن الوجه والعينين والجسم ، ضيق الجبهة ، أحمر الوجنتين ، ولد بسامراء وبقي منذ بويع أربع سنين وبعض أخرى ففي سنة إحدى وخمسين ومائتين وقعت فتنة شنعاء بين جند بغداد وجند سامرا ،  ودعا أهل سامرا إلى بيعة المعتز ، واستقر أمر أهل بغداد على المستعين ، وقيل كان سبب البيعة له أنه لما استقر المستعين ببغداذ أتاه جماعة من قواد الأتراك المشغبين ، فدخلوا عليه ، وألقوا أنفسهم بين يديه ، وجعلوا مناطقهم في أعناقهم تذللا وخضوعا ، وسألوه الصفح عنهم والرضا .

            قال لهم : أنتم أهل بغي وفساد ، واستقلال للنعم ، ألم ترفعوا إلي في أولادكم فألحقهم بكم ، وهم نحوا من ألفي غلام ، وفي بناتكم ، فأمرت بتصييرهن في عداد المتزوجات ، وهن نحوا من أربعة آلاف ، وغير ذلك كله أجبتكم إليه ، وأدررت عليكم الأرزاق ، فعملتم آنية الذهب والفضة ، ومنعت نفسي لذتها وشهوتها إرادة لصلاحكم ورضاكم ، وأنتم تزدادون بغيا وفسادا ، فعادوا وتضرعوا ، وسألوه العفو ، فقال المستعين : قد عفوت عنكم ورضيت .

            فقال له أحدهم ، واسمه بابي بك : فإن كنت قد رضيت فقم فاركب معنا إلى سامرا ، فإن الأتراك ينتظرونك ، فأمر محمد بن عبد الله بعض أصحابه فقام إليه فضربه ، وقال محمد : هكذا يقال لأمير المؤمنين قم فاركب معنا ! فضحك المستعين وقال : هؤلاء قوم عجم لا يعرفون حدود الكلام .

            وقال لهم المستعين : ترجعون إلى سامرا ، فإن أرزاقكم دارة عليكم ، وأنظر أنا في أمري ، فانصرفوا آيسين منه ، وأغضبهم ما كان من محمد بن عبد الله إلى بابي بك ، وأخبروا من وراءهم خبرهم ، وزادوا ، وحرفوا تحريضا لهم على خلعه ، فاجتمع رأيهم على إخراج المعتز ، ( وكان هو والمؤيد في حبس الجوسق ، وعليهما من يحفظهما وأخرج المعتز وأخوه المؤيد من السجن فبايع أهل سامرا المعتز ، واستحوذ على حواصل بيت المال بها ; فإذا بها خمسمائة ألف دينار ، وفي خزانة أم المستعين ألف ألف دينار ، وفي حواصل العباس ابن المستعين ستمائة ألف دينار . وكان فيمن أحضر للبيعة أبو أحمد بن الرشيد وبه نقرس ، في محفة محمولا ، فأمر بالبيعة فامتنع ، وقال للمعتز : خرجت إلينا طائعا ، فخلعتها وزعمت أنك لا تقوم بها ، فقال المعتز : أكرهت على ذلك ، وخفت السيف . فقال أبو أحمد : ما علمنا أنك أكرهت ، وقد بايعنا هذا الرجل ، فنريد أن تطلق نساءنا ، وتخرج عن أموالنا ، ولا ندري ما يكون إن تركتني على أمري حتى يجتمع الناس ، وإلا فهذا السيف . فتركه المعتز .

            وكان ممن بايع إبراهيم الديرج ، وعتاب بن عتاب ، فأما عتاب فهرب إلى بغداد ، وأما الديرج فأقر على الشرط ، واستعمل على الدواوين ، وبيت المال ، والكتابة وغير ذلك . واستفحل أمر المعتز بسامرا ، وأمر المستعين لمحمد بن عبد الله بن طاهر أن يحصن بغداد ويعمل في السورين والخندق ، وغرم على ذلك ثلاثمائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار ، ووكل بكل باب أميرا يحفظه ، ونصب على السور خمسة مجانيق ، منها واحد كبير جدا يقال له : الغضبان . وست عرادات ، وأعدوا آلات الحرب والحصار والعدد وقطعت القناطر من كل ناحية ; لئلا يصل الجيش إليهم .

            وكتب المعتز إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يدعوه إلى الدخول معه في أمره ، ويذكره ما كان أخذه عليهم أبوه المتوكل من العهود والمواثيق أن تكون الخلافة بعد المنتصر له ، فلم يلتفت إليه بل رد عليه ، واحتج بحجج يطول ذكرها .

            وكتب كل واحد من المستعين والمعتز إلى موسى بن بغا الكبير وهو مقيم بأطراف الشام لحرب أهل حمص يدعوه إلى نفسه ، وبعث إليه بألوية يعقدها لمن اختار من أصحابه ، وكتب إليه المستعين يأمره بالمسير إليه إلى بغداد ويأمره أن يستنيب في عمله ، فركب مسرعا فسار إلى سامرا فكان مع المعتز على المستعين ، وكذلك هرب عبد الله بن بغا الصغير من عند أبيه ، من بغداد إلى سامرا ، وكذلك غيره من الأمراء والأتراك .

            حصار المستعين ببغداذ  

            ثم إن المعتز عقد لأخيه أبي أحمد بن المتوكل ، وهو الموفق ، لسبع بقين من المحرم ، على حرب المستعين ، ومحمد بن عبد الله ، وولاه ذلك ، وضم إليه الجيش ، وجعل إليه الأمور كلها ، وجعل التدبير إلى كلباتكين التركي ، فسار في خمسين ألفا من الأتراك والفراغنة ، وألفين من المغاربة ، فلما بلغ عكبرا صلى بها ، وخطب للمعتز ، وكتب بذلك إلى المعتز ، فذكر أهل عكبرا أنهم كانوا على خوف شديد من مسير محمد بن عبد الله إليهم ، ومحاربتهم ، فانتهبوا القرى ما بين عكبرا وبغداد ، فخربت الضياع ، وأخذ الناس في الطريق .

            ولما وصل أبو أحمد إلى عكبرا هرب إليه جماعة كبيرة من أصحاب بغا الصغير ، ووصل أبو أحمد وعسكره باب الشماسية لسبع خلون من صفر ، فقال بعض البصريين ، يعرف بباذنجانة :


            يا بني طاهر أتتكم جنود الله والموت بينها مشهور وجيوش إمامهم أبو أحمد نعم المولى ونعم النصير

            ولما نزل أبو أحمد بباب الشماسية ولى المستعين باب الشماسية الحسين بن إسماعيل ، وجعل من هناك من القواد تحت يده ، فلم يزل هناك مدة الحرب إلى أن ساروا إلى الأنبار ، فلما كان عاشر صفر وافت طلائع الأتراك إلى باب الشماسية ، فوقفوا بالقرب منه ، فوجه محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل ، والشاه بن ميكال ، وبندار الطبري ، فيمن معهم ، وعزم على الركوب لقتالهم ، فأتاه الشاه فأعلمه أن الأتراك لما عاينوا الأعلام والرايات قد أقبلت نحوهم رجعوا إلى معسكرهم ، فترك محمد الركوب .

            فلما كان الغد عزم محمد على توجيه الجيوش إلى القفص ليعرضهم هناك ، وليرهب الأتراك ، وركب ومعه وصيف وبغا في الدروع ، ومضى معه الفقهاء والقضاة ، وبعث إليهم يدعوهم إلى الرجوع عما هم عليه من الطغيان والعصيان ، ويبذل لهم الأمان على أن يكون المعتز ولي العهد بعد المستعين ، فلم يجيبوا ، ومضى نحو باب قطربل ، فنزل على شاطئ دجلة هو ووصيف وبغا ، ولم يمكنه التقدم لكثرة الناس فانصرف .

            فلما كان من الغد أتاه رسل وجه الفلس ، وغيره من القواد ، يعلمونه أن الترك قد دنوا ، وضربوا مضاربهم برقة الشماسية ، وأرسل إليهم : لا تبدأوهم بقتال ، وإن قاتلوكم فلا تقاتلوهم ، وادفعوا اليوم ، فوافى باب الشماسية منهم اثنا عشر فارسا فرموا بالسهام ، ولم يقاتلهم أحد ، فلما طال مقامهم رماهم المنجنيقي بحجر ، فقتل منهم رجلا ، فأخذوه ، ورجعوا .

            وقدم عبيد الله بن سليمان خليفة وصيف التركي من مكة في ثلاثمائة رجل ، فخلع عليه محمد بن عبد الله ، ووافى الأتراك في هذا اليوم باب الشماسية ، فخرج الحسين بن إسماعيل ومن معه من القواد لمحاربتهم ، فاقتتلوا وقتل من الفريقين ، وجرح ، وكانوا في القتلى والجرحى على السواء ، وانهزم أهل بغداد ، وثبت أصحاب البواري ثم انصرفوا ، وأحضر الأتراك منجنيقا ، فغلبهم عليه العامة ، فأخذوه .

            ثم سار جماعة من الأتراك إلى ناحية النهروان ، فوجه محمد بن عبد الله قائدين من أصحابه في جماعة ، وأمرهما بالمقام بتلك الناحية ، وحفظها من الأتراك ، فقاتلوهم ، فانهزم أصحاب محمد إلى بغداد ، وأخذت دوابهم ، فدخلوا بغداد منهزمين ، ووجه الأتراك برؤوس القتلى إلى سامرا ، واستولوا على طريق خراسان ، وانقطع الطريق عن بغداد .

            ووجه المعتز عسكرا في الجانب الغربي فساروا إلى بغداد ، وجاوزوا قطربل ، فضربوا عسكرهم هناك ، وذلك لاثنتي عشرة خلت من صفر ، فلما كان من الغد وجه محمد بن عبد الله عسكرا إليهم ، فلقيهم الشاه بن ميكال ، فتحاربوا ، فانهزم أصحاب المعتز ، وخرج عليهم كمين لمحمد بن عبد الله ، فانهزموا ووضع أصحاب محمد فيهم السيف ، فقتلوهم أكثر قتل ، ولم يفلت منهم إلا القليل ، ونهب عسكرهم جميعه ، ومن سلم من القتل ألقى نفسه في دجلة ليعبر إلى عسكر أبي أحمد ، فأخذه أصحاب السفن ، وحملوا الأسرى والرؤوس في الزواريق ، فنصب بعضها ببغداذ .

            وأمر محمد لمن أبلى في هذا اليوم بالأسورة ، والخلع ، والأموال ، وطلبت المنهزمة ، فبلغ بعضهم أوانا ، وبعضهم بلغ سامرا ، وكان عسكر المعتز أربعة آلاف فقتل منهم ألفان ، وغرق منهم جماعة ، وأسر جماعة ، فخلع محمد على جميع القواد ، على كل قائد أربع خلع ، وطوقا وسوارا ، من ذهب .

            وكان عود أهل بغداد عنهم مع المغرب ، وكان أكثر العمل في هذا اليوم للعيارين .

            وركب محمد بن عبد الله بن طاهر لاثنتي عشرة بقيت من صفر إلى الشماسية ، فأمر بهدم ما وراء سورها من الدور ، والحوانيت ، والبساتين ، من باب الشماسية إلى ثلاثة أبواب ، ليتسع على من يحارب .

            وقدم مال من فارس والأهواز مع منكجور الأشروسني ، فوجه أبو أحمد الأتراك لأخذه ، فوجه محمد بن عبد الله جماعة لحفظ المال ، فعدلوا به عن الأتراك ، فقدموا به بغداد ، فلما علم الأتراك بذلك عدلوا نحو النهروان ، فقتلوا وأحرقوا سفن الجسر ، وهي عشرون سفينة ، ورجعوا إلى سامرا .

            وقدم محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد ، وكان المستعين قلده إمرة الثغور الجزرية ، كان بمدينة بلد ينتظر الجنود والمال ليسير إلى الثغور ، فلما كان من أمر المستعين والأتراك ما ذكرنا ، سار من بلد إلى بغداد على طريق الرقة في أصحابه وخاصته ، وهم زهاء أربع مائة ، فخلع عليه محمد بن عبد الله خمس خلع ، ثم وجهه في جيش كثيف لمحاربة أيوب بن أحمد ، فأخذ على طريق الفرات ، فحاربه في نفر يسير ، فهزم محمد وصار إلى ضيعته بالسواد ، فلما سمع محمد بهزيمته قال : لا يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره الله به .

            وكانت للأتراك وقعة بباب الشماسية ، فقاتلوا عليه قتالا شديدا ، حتى كشفوا من عليه ورموا ( به ) المنجنيق بالنار والنفط ، فلم يحرقه ، ثم كثر الجند على الباب ، فأزالهم عن موقفهم بعد قتلى وجرحى ، ووجه محمد العرادات في السفن فرموهم بها رميا شديدا ، فقتلوا منهم نحو مائة ، وكان بعض المغاربة قد صار إلى السور ، فرمى بكلاب ، فتعلق به ، فأخذه الموكلون بالسور ورفعوه فقتلوه ، وألقوا رأسه إلى الأتراك ، فرجعوا إلى معسكرهم .

            وأراد بعض الموكلين بالسور أن يصيح : يا مستعين ، يا منصور ، فصاح : يا معتز ، يا منصور ، فظنوه من المغاربة ، فقتلوه .

            وتقدم الأتراك ، في بعض الأيام ، إلى باب الشماسية ، فرمي الدرغمان ، مقدم المغاربة ، بحجر منجنيق فقتله ، وكان شجاعا ، وكان بعض المغاربة يجيء فيكشف إسته ، ويصيح ، ويضرط ، ثم يرجع ، فرماه بعض أصحاب محمد بسهم في دبره ، فجرح من خلفه ، فخر ميتا .

            واجتمعت العامة بسامرا ونهبوا سوقي الجوهريين والصيارفة وغيرهما ، فشكا التجار ذلك إلى إبراهيم المؤيد ، فقال لهم : كان ينبغي أن تحولوا متاعكم إلى منازلكم ، ولم يصنع شيئا ، ولا أنكر ذلك .

            وقدم لثمان بقين من صفر جماعة من أهل الثغور يشكون بلكاجور ، ويزعمون أن بيعة المعتز وردت عليه ، فدعا الناس إلى بيعته ، وأخذ الناس بذلك ، فمن امتنع ضربه وحبسه ، وأنهم امتنعوا وهربوا ، فقال وصيف : ما أظنه إلا ظن أن المستعين مات ، وقام المعتز ، فقالوا : ما فعله إلا عن عمد ، فورد كتاب بلكاجور لأربع بقين من صفر ، يذكر أنه كان بايع المعتز ، فلما ورد كتاب المستعين بصحة الأمر جدد له البيعة ، وأنه على السمع والطاعة ، فأراد موسى بن بغا أن يسير إلى المستعين ، فامتنع أصحابه الأتراك من موافقته على ذلك ، وحاربوه ، فقتل بينهم قتلى .

            وقدم من البصرة عشر سفائن بحرية ، في كل سفينة خمسة وأربعون رجلا ما بين نفاط وغيره ، فمرت إلى ناحية الشماسية ، فرمى من فيها بالنيران إلى عسكر أبي أحمد ، فانتقلوا إلى موضع لا ينالهم شيء من النار .

            ولليلة بقيت من صفر تقدم الأتراك إلى أبواب بغداد ، فقاتلوا عليها ، فقتل من الفريقين جماعة كثيرة ، ودام القتال إلى العصر .

            وفي ربيع الأول عمل محمد بن عبد الله كافركونات وفرقها على العيارين ، فخرجوا بها إلى أبواب بغداد ، وقتلوا من الأتراك نحوا من خمسين رجلا .

            ولأربع عشرة خلت من ربيع الأول قدم مزاحم بن خاقان من ناحية الرقة ، فتلقاه الناس ومعه زهاء ألف رجل ، فلما وصل خلع عليه سبع خلع ، وقلده سيفا .

            ووجه المعتز عسكرا يبلغون ثلاثة آلاف ، فعسكروا بإزاء عسكر أبي أحمد بباب قطربل ، وركب محمد بن عبد الله في عسكره ، وخرج من النظارة خلق كثير ، فحاذى عسكر أبي أحمد ، فكانت بينهم في الماء جولة ، وقتل من أصحاب أبي أحمد أكثر من خمسين رجلا ، ومضى النظارة فجازوا العسكر بنصف فرسخ ، فعبرت إليهم سفن لأبي أحمد ، فنالت منهم ، ورجع محمد بن عبد الله ، وأمر ابن أبي عون برد الناس ، فأمرهم بالعود ، فأغلظوا له ، فشتمهم وشتموه ، وضرب رجلا منهم فقتله ، فحملت عليه العامة ، فانكشف من بين أيديهم ، فأخذ أصحاب أبي أحمد أربع سفائن ، وأحرقوا سفينة فيها عرادة لأهل بغداد .

            وسار العامة إلى دار ابن أبي عون لينهبوها ، وقالوا مايل الأتراك ، فانهزم أصحابه ، وكلموا محمدا في صرفه ، فصرفه ، ومنعهم من أخذ ماله .

            ولإحدى عشرة خلت من ربيع الأول وصل عسكر المعتز الذي سيره إلى مقابل عسكر أخيه أبي أحمد عند عكبرا ، فأخرج إليهم ابن طاهر عسكرا ، فمضوا حتى بلغوا قطربل وبها كمين الأتراك ، فأوقع بهم ، ونشبت الحرب بينهم ، وقتل بينهم جماعة ، واندفع أصحاب محمد قليلا إلى باب قطربل ، والأتراك معهم ، فخرج الناس إليهم ، فدفعوا الأتراك حتى نحوهم ، ثم رجعوا إلى أهل بغداد فقتلوا منهم خلقا كثيرا ، وقتل من الأتراك أيضا خلق كثير ، ثم تقدم الأتراك إلى باب القطيعة ، فنقبوا السور ، فقتل أهل بغداد ( أول خارج منه ) ، وكان القتل ذلك اليوم أكثره في الأتراك ، والجراح بالسهام في أهل بغداد .

            وندب عبد الله بن عبد الله بن طاهر الناس ، فخرجوا معه ، وأمر الموكل بباب قطربل ألا يدع منهزما يدخله ، ونشبت الحرب ، فانهزم أصحاب عبد الله ، وثبت أسد بن داود حتى قتل ، وكان إغلاق الباب على المنهزمين أشد من الأتراك ، فأخذوا منهم الأسرى ، وقتلوا فأكثروا ، وحملوا الأسرى والرؤوس إلى سامرا ، فلما قاربوا منها غطوا رؤوس الأسرى ، فلما رآهم أهل سامرا بكوا وضجوا ، وارتفعت أصواتهم ، وأصوات نسائهم ، فبلغ ذلك المعتز فكره أن تغلظ قلوب الناس عليه ، فأمر لكل أسير بدينار ، وأمر بالرؤوس فدفنت .

            وقدم أبو الساج من طريق مكة لأربع بقين من ربيع الأول ، فخلع عليه .

            وفي سلخ ربيع الأول جاء نفر من الأتراك إلى باب الشماسية ، ومعهم كتاب من المعتز إلى محمد بن عبد الله ، فاستأذنه أصحابه في أخذه ، فأذن لهم ، فإذا فيه ( تذكير محمد بما ) يجب عليه من حفظ العهد القديم ( وأن الواجب كان عليه أن يكون ) أول من يسعى في أمره ويؤكد خلافته . ( فما رد عليه محمد جواب الكتاب ) ، وكانت وقعة بينهم لسبع خلون من ربيع الآخر ، قتل من الأتراك سبع مائة ومن أصحاب محمد ثلاثمائة .

            وفي منتصف ربيع الآخر أمر أبو الساج ، وعلي بن فراشة ، وعلي بن حفص ، بالمسير إلى المدائن ، فقال أبو الساج لمحمد بن عبد الله : إن كنت تريد الجد مع هؤلاء القوم فلا تفرق قوادك ، واجمعهم ، حتى تهزم هذا العسكر المقيم بإزائك ، فإذا فرغت منهم فما أقدرك على من بعدهم ! فقال : إن لي تدبيرا ، ويكفي الله إن شاء الله ، فقال أبو الساج : السمع والطاعة ! وسار إلى المدائن وحفر خندقها ، وأمده محمد بثلاثة آلاف فارس وألفي راجل .

            وكتب المعتز إلى أخيه أبي أحمد يلومه للتقصير في قتال أهل بغداد ، فكتب إليه في الجواب :


            لأمر المنايا علينا طريق     وللدهر فينا اتساع وضيق
            وأيامنا عبرة للأنام فمنها البكور ومنها الطروق     ومنها هنات تشيب الوليد ويخذل فيها الصديق الصدوق
            وفتنة دين لها ذروة تفوق العيون ،     وبحر عميق قتال متين
            ، وسيف عتيد وخوف شديد ،     وحصن وثيق وطول صياح
            لداعي الصباح السلاح السلاح     فما يستفيق فهذا طريح وهذا جريح
            وهذا حريق وهذا غريق     وهذا قتيل وهذا تليل وآخر يشدخه المنجنيق
            هناك اغتصاب وثم انتهاب ودور خراب     وكانت تروق إذا ما شرعنا إلى مسلك وجدناه
            قد سد عنا الطريق فبالله نبلغ ما نرتجي     وبالله ندفع ما لا نطيق

            وهذه الأبيات لعلي بن أمية في فتنة الأمين والمأمون . حال الأنبار  

            وسير محمد بن عبد الله إلى الأنبار نجوبة بن قيس ، فأقام بها ، وجمع بها نحوا من ألفي رجل ، وأمده محمد بن عبد الله بألف وخمس مائة ، وشق الماء من الفرات إلى خندقها ، ففاض على الصحاري ، فصار بطيحة واحدة ، وقطع القناطر .

            وسير المعتز جندا مع علي الإسحاقي نحو الأنبار ، فوصلوا ساعة وصول مدد محمد وقد نزلوا ظاهرها ، فاقتتلوا أشد قتال ، فانهزم مدد محمد بن عبد الله ، ورجعوا في الطريق الذي جاؤوا فيه إلى بغداد .

            وكان نجوبة بالأنبار لم يخرج منها ، فلما بلغه هزيمة مدده ، ومسير الأتراك إليه ، عبر إلى الجانب الغربي ، وقطع الجسر وسار نحو بغداد ، فاختار محمد بن عبد الله ( إنفاذ ) الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم إلى الأنبار في جماعة من القواد والجند ، فجهزهم ، وأخرج لهم رزق أربعة أشهر .

            وخرج الجند وعرضهم الحسين ، وسار عن بغداد يوم الخميس لسبع بقين من جمادى الأولى ، وتبعه الناس ، والقواد ، وبنو هاشم إلى الياسرية .

            وكان أهل الأنبار لما دخلها الأتراك قد أمنوهم ، ففتحوا دكاكينهم ، وأسواقهم ، ووافاهم سفن من الرقة تحمل الدقيق والزيت وغير ذلك ، فانتهبها الأتراك وحملوها إلى منازلهم بسامرا ، ووجهوا بالأسرى وبالرؤوس معها .

            وسار الحسين حتى نزل دمما ، ووافته طلائع الأتراك فوق دمما ، فصف أصحابه مقابل الأتراك ، بينهما نهر ، وكان عسكره عشرة آلاف رجل ، ( وكان الأتراك فوق دمما ، فصف أصحابه ) ، وكان الأتراك زهاء ألف رجل ، فتراموا بالسهام ، فجرح بينهم عدد ، وعاد الأتراك إلى الأنبار ، وتقدم الحسين فنزل بمكان يعرف بالقطيعة ، واسع يحمل العسكر ، فأقام فيه يومه ، ثم عزم على الرحيل إلى قرب الأنبار ، فأشار عليه القواد أن ينزل عسكره بهذا المكان بالقطيعة لسعته وحصانته ، ويسير هو وجنده جريدة ، فإن كان الأمر له كان قادرا على نقل عسكره ، ( وإن كان عليه رجع إلى عسكره ) وعاود عدوه ، فلم يقبل منهم وسار من مكانه .

            فلما بلغ المكان الذي يريد النزول به أمر الناس بالنزول ، فأتت الأتراك جواسيسهم ، وأعلموهم بمسيره وضيق مكانه ، فأتاهم الأتراك والناس يحطون أثقالهم ، فثار أهل العسكر وقاتلوهم فقتل بينهم قتلى من الفريقين ، وحمل أصحاب الحسين عليهم فكشفوهم ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وغرق منه خلق كثير . وكان الأتراك قد كمنوا لهم كمينا ، فخرج الكمين على بقية العسكر ، فلم يكن لهم ملجأ إلا الفرات ، وغرق من أصحابه خلق كثير ، وقتل جماعة وأسر جماعة .

            وأما الفرسان فهربوا لا يلوون على شيء ، والقواد ينادونهم : الرجعة ، فلم يرجع أحد ، فخافوا على نفوسهم ، فرجعوا يحمون أصحابهم ، وأخذ الأتراك عسكر الحسين بما فيه من الأموال والخلع التي كانت معه ، وسلم ما كان معه من سلاح في السفن ، لأن الملاحين حذروا السفن ، فسلم ما معهم من سلاح وغير ذلك .

            ووصل المنهزمون إلى الياسرية لست خلون من جمادى الآخرة ، ولقي الحسين رجل من التجار ممن ذهبت أموالهم ، فقال : الحمد لله الذي بيض وجهك ، أصعدت في اثني عشر يوما ، وانصرفت في يوم واحد ! فتغافل عنه .

            ولما اتصل خبر الهزيمة بمحمد بن عبد الله بن طاهر منع المنهزمين من دخول بغداد ، ونادى : من وجدناه ببغداذ من عسكر الحسين ، بعد ثلاثة أيام ، ضرب ثلاثمائة سوط ، وأسقط من الديوان ، فخرج الناس إلى الحسين بالياسرية ، وأخرج إليهم [ ابن ] عبد الله جندا آخر ، وأعطاهم الأرزاق ، وأمر بعض الناس ليعلم من قتل ، ومن غرق ، ومن سلم ، ففعلوا ذلك .

            وأتاهم كتاب بعض عيونهم من الأنبار يخبرهم أن القتلى كانت من الترك أكثر من مائتين ، والجرحى نحو أربع مائة ، وأن جميع من أسره الأتراك مائتان وعشرون رجلا ، وأنه عد رؤوس القتلى فكانت سبعين رأسا ، وكانوا أخذوا جماعة من أهل الأسواق فأطلقوهم ، فرحل الحسين لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الآخرة ، وسار حتى عبر نهر أربق ، فلما كان السبت لثمان خلون من رجب أتاه إنسان فأعلمه أن الأتراك يريدون العبور إليه في عدة مخاضات ، فضربه ، ووكل بمواضع المخاض رجلا من قواده يقال له الحسين بن علي بن يحيى الأرمني في مائتي رجل ، فأتى الأتراك المخاضة ، فرأوا الموكل بها ، فتركوها إلى مخاضة أخرى ، فقاتلوهم ، وصبر الحسين بن علي ، وبعث إلى الحسين بن إسماعيل أن الأتراك قد وافوا المخاضة ، فقيل للرسول : الأمير نائم ، فأرسل آخر ، فقيل له : الأمير في المخرج ، فأرسل آخر ، فقيل [ له ] : الأمير قد عاد فنام ، فعبر الأتراك ، فقعد الحسين بن علي في زورق وانحدر ، وهرب أصحابه منهزمين ، وقتل الأتراك منهم وأسروا نحو مائتين ، وانحدرت عامة السفن فسلمت ، ووضع الأتراك السيف ، وغرق خلق كثير من الناس ، فوصل المنهزمون بغداد نصف الليل ، ووافى بقيتهم في النهار ، واستولى الأتراك على أثقالهم وأموالهم ، وقتل عدة من قواد الحسين ، فقال الهندواني في الحسين :


            يا أحزم الناس رأيا في تخلفه     عن القتال خلطت الصفو بالكدر
            لما رأيت سيوف الترك مصلتة     علمت ما في سيوف الترك من قدر
            فصرت مضجرا ذلا ومنقصة     والنجح يذهب بين العجز والضجر

            ولحق فيها جماعة من الكتاب وبني هاشم بالمعتز ، فمن بني هاشم علي ومحمد ابنا الواثق وغيرهما .

            ثم كانت بينهم عدة وقعات ، وقتل فيها من الفريقين جماعة ، ودخل الأتراك في بعض تلك الحروب إلى بغداد ، ثم تكاثر الناس عليهم فأخرجوهم منها .

            وجرى بين أبي الساج وجماعة من الأتراك ( وقعة ، فهزمهم أبو الساج ، ثم واقعوه أخرى ، فتخلى عنه بعض أصحابه فانهزم ، ودخل الأتراك المدائن ، وخرجت الأتراك ) الذين بالأنبار في سواد بغداد من الجانب الغربي ، حتى بلغوا صرصر وقصر ابن هبيرة .

            وفي ذي القعدة كانت وقعة عظيمة ، خرج محمد بن عبد الله بن طاهر في جميع القواد والعسكر ، ونصب له قبة وجلس فيها ، واقتتل الناس قتالا شديدا ، فانهزمت الأتراك ودخل أهل بغداد عسكرهم ، وقتلوا منهم خلقا كثيرا ، وهربوا على وجوههم لا يلوون على شيء ، فكلما جيء برأس يقول بغا : ذهبت الموالي ، وساء ذلك من مع بغا ووصيف من الأتراك .

            ووقف أبو أحمد بن المتوكل يرد الأتراك ، ويخبرهم أنهم إن لم يرجعوا لم يبق لهم بقية ، وتبعهم أهل بغداد إلى سامرا ، فتراجعوا إليه ، وإن بعض أهل بغداد رجعوا عن المنهزمين ، فرأى أصحابهم أعلامهم ، فظنوها أعلام الأتراك قد عادت ، فانهزموا نحو بغداد مزدحمين ، وتراجع الأتراك إلى عسكرهم ، ولم يعلموا بهزيمة أهل بغداد ، فتحملوا عليهم .

            وفي ذي الحجة وجه أبو أحمد خمس سفائن مملوءة طعاما ودقيقا إلى ابن طاهر .

            عزم ابن طاهر خلع المستعين والبيعة للمعتز وفي ذي الحجة علم الناس بما عليه ابن طاهر من خلع المستعين والبيعة للمعتز ، ووجه قواده إلى أبي أحمد ، فبايعوه للمعتز ، وكانت العامة تظن أن الصلح جرى على أن الخليفة المستعين والمعتز ولي عهده .

            وفي ذي الحجة أيضا خرج رشيد بن كاوس أخو الأفشين ، وكان موكلا بباب السلامة ، إلى الأتراك ، وسار معهم إلى أبي أحمد ، ثم عاد إلى أبواب بغداد يقول للناس : إن أمير المؤمنين المعتز ، وأبا أحمد يقرآن عليكم السلام ، ويقولان : من أطاعنا وصلناه ، ومن أبى فهو أعلم .

            فشتمه الناس ، وعلموا بما عليه محمد بن عبد الله بن طاهر ، فعبرت العامة إلى الجزيرة التي حذاء داره ، فشتموه أقبح شتم ، ثم ساروا إلى باب داره ففعلوا به مثل ذلك ، وقاتلوا من على بابه حتى كشفوهم ، ودخلوا دهليز داره ، وأرادوا إحراق داره فلم يجدوا نارا ، وبات منهم بالجزيرة جماعة يشتمونه وهو يسمع ، فلما ذكروا اسم أمه ضحك ، وقال : ما أدري كيف عرفوه ، وقد كان أكثر جواري أبي لا يعرفون اسمها . فلما كان الغد فعلوا مثل ذلك ، فسار محمد إلى المستعين ، وسأله أن يطلع إليهم ويسكتهم ، ففعل ، وقال لهم : إن محمدا لم يخلع ، ولم أتهمه ، ووعدهم أن يصلي بهم الجمعة ، فانصرفوا .

            ثم ترددت الرسل بين محمد بن عبد الله وبين أبي أحمد مع حماد بن إسحاق ( بن حماد ) بن يزيد ، وثار قوم من رجالة الجند ، وكثير من العامة ، فطلب الجند أرزاقهم ، وشكت العامة سوء الحال ، وغلاء السعر ، وقالوا : إما خرجت ، فقابلت ، وإما تركتنا ، فوعدهم الخروج ، أو فتح باب الصلح ، ثم جعل على الجسور وبالجزيرة وبباب داره الرجال والخيل ، فحضر الجزيرة بشر كثير ، فطردوا من كان بها ، وقاتلوا الناس .

            وأرسل محمد بن عبد الله إلى الجند يعدهم رزق شهرين ، وأمرهم بالنزول ، فأبوا وقالوا : لا نفعل حتى نعلم نحن والعامة على أي شيء نحن ، فخرج إليهم بنفسه ، فقالوا له : إن العامة قد اتهموك بخلع المستعين ، والبيعة للمعتز ، وتوجيهك القواد بعد القواد ، ويخافون دخول الأتراك والمغاربة إليهم ، فإن يفعلوا بهم كما عملوا في المدائن والأنبار ، فهم يخافون على أنفسهم وأولادهم وأموالهم ، وسألوا إخراج الخليفة إليهم ليروه ويكذبوا ما بلغهم ، فلما رأى محمد ذلك سأل المستعين الخروج إليهم ، فخرج إلى دار العامة ، ودخل إليه جماعة من الناس ، فنظروا إليه ، وخرجوا ، فأعلموا الناس الخبر ، فلم ينتفعوا بذلك ، فأمر المستعين بإغلاق الأبواب ، وصعد سطح دار العامة ، ومحمد بن عبد الله معه ، فرآه الناس وعليه البردة وبيده القضيب ، فكلم الناس ، وأقسم عليهم بحق صاحب البردة إلا انصرفوا ( فإنه آمن ) لا بأس عليه من محمد ، فسألوه الركوب معهم والخروج من دار محمد لأنهم لا يأمنونه عليه ، فوعدهم ذلك .

            فلما رأى ابن طاهر فعلهم عزم على النقلة عن بغداد إلى المدائن ، فأتاه وجوه الناس ، وسألوه الصفح ، واعتذروا بأن ذلك فعل الغوغاء والسفهاء ، فرد عليهم ردا جميلا .

            وانتقل المستعين عن داره في ذي الحجة ، وأقام بدار رزق الخادم بالرصافة ، وسار بين يديه محمد بن عبد الله ( بالحربة ) ، فلما كان من الغد اجتمع الناس بالرصافة ، فأمروا القواد وبني هاشم بالمسير إلى دار محمد بن عبد الله والعود معه إذا ركب ، ففعلوا ذلك ، فركب محمد في جمع وتعبئة ، ووقف للناس وعاتبهم ، وحلف أنه ما يريد للمستعين ، ولا لولي له ، ولا لأحد من الناس سوءا ، وأنه ما يريد إلا إصلاح أحوالهم ، حتى بكى ( الناس ) ودعوا له ، ( وسار إلى المستعين ) .

            وكان ابن طاهر مجدا في أمر المستعين ، حتى غيره عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، وقال له : إن هذا الذي تنصره ، وتجد في أمره ، من أشد الناس نفاقا ، وأخبثهم دينا ، والله لقد أمر وصيفا وبغا بقتلك ، فاستعظما ذلك ولم يفعلاه ، وإن كنت شاكا في قولي فسل تخبره ، وإن من ظاهر نفاقه أنه كان بسامرا لا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاته ، فلما صار إليك جهر بها مراءاة لك ، وترك نصرة وليك ، وصهرك ، وتربيتك ، ونحو ذلك من كلام كلمه به ، فقال محمد : أخزى الله هذا ، ما يصلح لدين ولا لدنيا ! ثم ظاهر عبيد الله بن يحيى بأحمد بن إسرائيل ، والحسن بن مخلد .

            خلع المستعين فلما كان يوم الأضحى صلى المستعين بالناس ، ثم حضر محمد بن عبد الله عند المستعين وعند الفقهاء والقضاة ، فقال له : قد كنت فارقتني على أن تنفذ أمري في كل ما أعزم عليه ، وخطك عندي بذلك ، فقال المستعين : أحضر الرقعة ، فأحضرها ، فإذا فيها ذكر الصلح ، وليس فيها ذكر الخلع ، فقال : نعم أمض الصلح ، فخرج محمد إلى ظاهر باب الشماسية ، فضرب له مضرب ، فنزل إليه ومعه جماعة من أصحابه ، وجاء أبو أحمد في سميرية ، فصعد إليه ، فتناظرا طويلا ، ثم خرجا ، فجاء ابن طاهر إلى المستعين ، فأخبره أنه بذل له خمسين ألف دينار ، ويقطع عليه ثلاثين ألف دينار ، وعلى أن يكون مقامه بالمدينة ، يتردد منها إلى مكة ، ويخلع نفسه من الخلافة ، وأن يعطى بغا ولاية الحجاز جميعه ، ويولى وصيف الجبل وما والاه ، ويكون ثلث ما يجبى من المال لمحمد بن عبد الله وجند بغداد ، والثلثان للموالي والأتراك ، فامتنع المستعين من الإجابة إلى الخلع ، وظن أن وصيفا وبغا معه يكاشفان ، فقال : النطع والسيف ، فقال له ابن طاهر : أما أنا فأقعد ، ولا بد لك من خلعها طائعا أو مكرها ! فأجاب إلى الخلع .

            وكان سبب إجابته إلى الخلع أن محمدا وبغا ووصيفا لما ناظروه في الخلع أغلظ عليهم ، فقال وصيف : أنت أمرتنا بقتل باغر ، فصرنا إلى ما نحن فيه ، وأنت أمرتنا بقتل أتامش ، وقلت إن محمدا ليس بناصح ، وما زالوا يفزعونه ، وقال محمد : وقد قلت لي إن أمرنا لا يصلح إلا باستراحتنا من هذين الاثنين ، فلما رأى ذلك أذعن بالخلع ، وكتب بما أراد لنفسه من الشروط ، وذلك لإحدى عشرة خلت من ذي الحجة .

            وجمع محمد الفقهاء والقضاة ، وأدخلهم على المستعين ، وأشهدهم عليه أنه قد صير أمره إلى محمد بن عبد الله ، ثم أخذ منه جوهر الخلافة .

            وبعث ابن طاهر إلى قواده ليوافوه ، ومع كل قائد عشرة نفر من وجوه أصحابه ، فأتوه فمناهم ، وقال لهم : ما أردت بما فعلت إلا صلاحكم وحقن الدماء . وأمرهم بالخروج إلى المعتز في الشروط التي شرطها المستعين لنفسه ولقواده ، ليوقع المعتز عليها بخطه ، ثم أخرجهم إلى المعتز ، فمضوا إليه ، فأجاب إلى ما طلبوا ، ووقع عليه بخطه ، وشهدوا على إقراره ، وخلع عليهم ، ووجه معهم من يأخذ البيعة على المستعين ، وحمل إلى المستعين أمه وعياله ، بعدما فتشوا ، وأخذوا ما معهم ، وكان دخول الرسل بغداد من عند المعتز لست خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية