الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ابتداء أمر القرامطة  

            وفي سنة ثمان وسبعين ومائتين تحرك بسواد الكوفة قوم يعرفون بالقرامطة ، قبحهم الله ، وهم الباطنية ، وهؤلاء قوم تبعوا طريق الملحدين ، وجحدوا الشرائع ، وأنا أشير إلى البدايات التي بنوا عليها ، ثم إلى الباعث لهم على ما فعلوا من نصب دعوتهم ، [ ثم إلى ألقابهم ، ثم ] إلى مذاهبهم وعلومهم .

            فأما البدايات التي بنوا عليها :

            فإنه لما كان مقصودهم الإلحاد تعلقوا بمذاهب الملحدين مثل : زرادشت ، ومزدك ، فإنهما كانا ينتحلان المحظورات ، وقد سبق في أوائل هذا الكتاب شرح حالهما ، وما زال أكثر الناس مع إعراضهم لا يدخلون في جحر يمنعهم إياها ، فلما جاء نبينا صلى الله عليه وسلم فقهر الملل وقمع الإلحاد ، أجمع جماعة من الثنوية ، والمجوس ، والملحدين ، ومن دان بدين الفلاسفة المتقدمين ، فأعملوا آراءهم وقالوا : قد ثبت عندنا أن جميع الأنبياء كذبوا وتخرقوا على أممهم ، وأعظم كل بلية علينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه تبع من العرب الطغام فخدعهم بناموسه ، فبذلوا أموالهم وأنفسهم ، ونصروه وأخذوا ممالكنا ، وقد طالت مدتهم ، والآن قد تشاغل أتباعه ، فمنهم مقبل على كسب الأموال ، ومنهم على تشييد البنيان ، ومنهم على الملاهي ، وعلماؤهم يتلاعبون ، ويكفر بعضهم بعضا ، وقد ضعفت بصائرهم ، فنحن نطمع في إبطال دينهم ، إلا أنا لا يمكننا محاربتهم لكثرتهم ، فليس الطريق إلا إنشاء دعوة في الدين والانتماء إلى فرقة منهم ، وليس فيهم فرقة أضعف عقولا من الرافضة فندخل عليهم ، نذكر ظلم سلفهم الأشراف من آل نبيهم ، ودفعهم عن حقهم ، وقتلهم ، وما جرى عليهم من الذل لنستعين بها ، ولا على إبطال دينهم ، فتناصروا وتكاتفوا وتوافقوا وانتسبوا إلى إسماعيل بن جعفر [ بن محمد ] الصادق ، وكان لجعفر أولاد منهم : إسماعيل هذا ، وكان يقال له : إسماعيل الأعرج .

            ثم سول لهم الشيطان آراء ومذاهب أخذوا بعضها من المجوس ، و [ أخذوا ] بعضها من الفلاسفة وتخرقوا على أتباعهم ، وإنما قصدهم الجحد المطلق ، لكنهم لما لم يمكنهم ، توسلوا إليه فقد بان لك بما ذكرت . [ ومن ] البدايات التي بنوا عليها ، والباعث لهم على ما فعلوا من نصب الدعوة .

            ألقاب القرامطة وأما ألقابهم :

            فإنهم يسمون الإسماعيلية ، والباطنية ، والقرامطة ، والخرمية ، والبابكية ، والمحمرة ، والسبعية ، والتعليمية .

            فأما تسميتهم بالإسماعيلية : فانتسابهم إلى إسماعيل بن جعفر على ما ذكرناه .

            وأما تسميتهم بالباطنية : فإنهم ادعوا أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن ، تجري مجرى اللب من القشر ، وأنها توهم الأغبياء صورا ، وتفهم الفطناء رموزا ، وإشارات إلى حقائق خفية ، وأن من تقاعد عن العرض على الخفايا والبواطن متعثر ، ومن ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكلف ، واستراح من إعيائه ، واستشهدوا بقوله تعالى : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم قالوا : والجهال بذلك هم المرادون بقوله تعالى : فضرب بينهم بسور له باب وغرضهم فيما وضعوا من ذلك : إبطال الشرائع ، لأنهم إذا صرفوا العقائد عن غير موجب الظاهر فحكموا بدعوى الباطن على ما يوجب الانسلاخ من الدين . ويقال لهم : المحمرة ; نسبة إلى صبغ الحمرة شعارا ، مضاهاة لسواد بني العباس ، ويقال لهم : التعليمية ; نسبة إلى التعلم من الإمام المعصوم ، وترك الرأي ومقتضى العقل . ويقال لهم : السبعية ; نسبة إلى القول بأن الكواكب السبعة المتحيزة السيارة مدبرة لهذا العالم فيما يزعمون ، لعنهم الله . وهي القمر في الأولى ، وعطارد في الثانية ، والزهرة في الثالثة ، والشمس في الرابعة ، والمريخ في الخامسة ، والمشتري في السادسة ، وزحل في السابعة .

            قال ابن الجوزي : وقد بقي من البابكية جماعة يقال : إنهم يجتمعون في كل سنة ليلة هم ونساؤهم ، ثم يطفئون المصباح وينتهبون النساء ، فمن وقع في يده امرأة حلت له . ويقولون : هذا اصطياد مباح . لعنهم الله . وقد بسط أبو الفرج بن الجوزي في هذا الموضع من تاريخه المسمى بالمنتظم تفصيل قولهم ، لعنهم الله ، وقد سبقه إلى ذلك القاضي أبو بكر الباقلاني المتكلم المشهور في كتابه " هتك الأستار وكشف الأسرار " في الرد على الباطنية ، ورد على كتابهم الذي جمعه بعض قضاتهم بديار مصر في أيام الفاطميين الذي سماه " البلاغ الأعظم والناموس الأكبر " جعله ست عشرة درجة ، أول درجة أن يدعو من يجتمع به أولا - إن كان من أهل السنة - إلى القول بتفضيل علي على عثمان ، ثم ينتقل إذا وافقه على ذلك إلى تفضيل علي على الشيخين أبي بكر وعمر ، ثم يترقى بعد ذلك إلى سبهما لأنهما ظلما عليا وأهل البيت ، ثم يترقى به إلى تجهيل الأمة وتخطئتها في موافقة أكثرهم على ذلك ، ثم يشرع في القدح في دين الإسلام من حيث هو . وقد ذكر لمخاطبته لمن يريد أن يخاطبه بذلك شبها وضلالات ، لا تروج إلا على كل غبي جاهل شقي . كما قال تعالى والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك [ الذاريات : 7 - 9 ] أي يضل به من هو ضال . وقال تعالى فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم [ الصافات : 161 - 163 ] وقال تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون [ الأنعام : 112 - 113 ] والآيات في هذا المعنى كثيرة ، ومضمونها أن الجهل والضلال لا ينقاد لها إلا شرار الناس كما قال بعض الشعراء :


            إن هو مستحوذا على أحد إلا على أضعف المجانين

            ثم بعد هذا كله لهم مقامات في الكفر والجهل والسخافة والرعونة ما لا ينبغي لضعيف عقل أو دين أو تصور سماعه ، مما فتح عليهم إبليس من الأبواب وأنواع الجهالات ، وربما أفاد بعضهم إبليس أشياء لم تكن عنده كما قال بعضهم :


            وكنت امرأ من جند إبليس برهة     من الدهر حتى صار إبليس من جندي

            ابتداء أمر القرامطة وكان ابتداء أمرهم ، فيما ذكر ، أن رجلا منهم قدم ناحية خوزستان إلى سواد الكوفة ، فكان بموضع يقال له النهرين ، يظهر الزهد ، والتقشف ، ويسف الخوص ، ويأكل من كسب يده ، ويكثر الصلاة ، فأقام على ذلك مدة ، فكان إذا قعد إليه رجل ذاكره أمر الدين ، وزهده في الدنيا ، وأعلمه أن الصلاة المفروضة على الناس خمسون صلاة في كل يوم وليلة ، حتى فشا ذلك [ عنه ] بموضعه ، ثم أعلمهم أنه يدعو إلى إمام من آل بيت الرسول ، فلم يزل على ذلك حتى استجاب له جمع كثير .

            وكان يقعد إلى بقال هناك . فجاء قوم إلى البقال يطلبون منه رجلا يحفظ عليهم ما صرموا من نخلهم ، فدلهم عليه وقال لهم : إن أجابكم إلى حفظ تمركم فإنه بحيث تحبون ، فكلموه في ذلك ، فأجابهم على أجرة معلومة ، فكان يحفظ لهم ، ويصلي أكثر نهاره ، ويصوم ، ويأخذ عند إفطاره من البقال رطل تمر فيفطر عليه ، ويجمع نوى ذلك التمر ويعطيه البقال ، فلما حمل التجار تمرهم حاسبوا أجيرهم عند البقال ، ودفعوا إليه أجرته ، وحاسب الأجير البقال على ما أخذ منه من التمر ، وحط ثمن النوى ، فسمع أصحاب التمر محاسبته للبقال بثمن النوى فضربوه ، وقالوا له : ألم ترض بأكل تمرنا ، حتى بعت النوى ؟ فقال لهم البقال : لا تفعلوا ! وقص عليهم القصة ، فندموا على ضربه ، واستحلوا منه ما فعل ، وازداد بذلك عند أهل القرية لما وقفوا عليه من زهده .

            ثم مرض ، فمكث على الطريق مطروحا ، وكان في القرية رجل أحمر العينين ، يحمل على أثوار له ، يسمونه كرميتة لحمرة عينيه ، وهو بالنبطية أحمر العين ، فكلم البقال الكرميتة في حمل المريض إلى منزله والعناية به ، ففعل ، وأقام عنده حتى برأ ، ودعا أهل تلك الناحية إلى مذهبه ، فأجابوه ، وكان يأخذ من الرجل إذا أجابه دينارا ، ويزعم أنه للإمام ، واتخذ منهم اثني عشر نقيبا أمرهم أن يدعوا الناس إلى مذهبهم ، وقال : أنتم كحواريي عيسى ابن مريم ، فاشتغل أهل كور تلك الناحية على أعمالهم بما رسم لهم من الصلوات .

            كان للهيصم في تلك الناحية ضياع ، فرأى تقصير الأكرة في عمارتها ، فسأل عن ذلك ، فأخبر بخبر الرجل ، فأخذه ، وحبسه ، وحلف أن يقتله لما اطلع على مذهبه ، وأغلق باب البيت عليه ، وجعل مفتاح البيت تحت وسادته ، واشتغل بالشرب ، فسمع بعض من في الدار من الجواري بمساءته ، فرقت للرجل ، فلما نام الهيصم أخذت المفتاح ، وفتحت الباب وأخرجته ، ثم أعادت المفتاح إلى مكانه ، فلما أصبح الهيصم فتح الباب ليقتله فلم يجده .

            وشاع ذلك في الناس ، فافتتن أهل تلك الناحية ، ( وقالوا : رفع ) ، ثم ظهر في ناحية أخرى ، ولقي جماعة من أصحابه وغيرهم ، وسألوه عن قصته ، فقال : لا يمكن أحدا أن ينالني بسوء ! فعظم في أعينهم ، ثم خاف على نفسه ، فخرج إلى ناحية الشام ، فلم يوقف له على خبر ، وسمي باسم الرجل الذي كان في داره كرميتة صاحب الأثوار ، ثم خفف فقيل قرمط ، هكذا ذكره بعض أصحاب زكرويه عنه .

            وقيل إن قرمط لقب رجل كان بسواد الكوفة يحمل غلة السواد على أثوار له ، واسمه حمدان ، ثم فشا مذهب القرامطة بسواد الكوفة .

            ووقف الطائي أحمد بن محمد على أمرهم ، فجعل على الرجل منهم في السنة دينارا ، فقدم قوم من الكوفة ، فرفعوا أمر القرامطة ، والطائي إلى السلطان ، وأخبروه أنهم قد أحدثوا دينا غير دين الإسلام ، وأنهم يرون السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، إلا من بايعهم ، فلم يلتفت إليهم ولم يسمع قولهم .

            وكان فيما حكي عن القرامطة من مذهبهم أنهم جاءوا بكتاب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ! يقول الفرج بن عثمان ، وهو من قرية يقال لها نصرانة ، داعية المسيح ، وهو عيسى ، وهو الكلمة ، وهو المهدي ، وهو أحمد بن محمد بن الحنفية ، وهو جبريل ، وذكر أن المسيح تصور له في جسم إنسان ، وقال له : إنك الداعية ، وإنك الحجة ، وإنك الناقة ، وإنك الدابة ، وإنك يحيى بن زكرياء ، وإنك روح القدس .

            وعرفه أن الصلاة أربع ركعات : ركعتان قبل طلوع الشمس ، وركعتان بعد غروبها ، وأن الأذان في كل صلاة أن يقول المؤذن : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، مرتين ، أشهد أن آدم رسول الله ، أشهد أن نوحا رسول الله ، أشهد أن إبراهيم رسول الله ، أشهد أن موسى رسول الله ، أشهد أن عيسى رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن أحمد بن محمد بن الحنفية رسول الله ، وأن يقرأ في كل ركعة الاستفتاح ، وهي من المنزل على أحمد بن محمد بن الحنفية ، والقبلة إلى بيت المقدس ، [ والحج إلى بيت المقدس ] ، وأن الجمعة يوم الاثنين لا يعمل فيه شيء ، والسورة : الحمد لله بكلمته ، وتعالى باسمه ، المتخذ لأوليائه بأوليائه .

            يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس ، ظاهرها ليعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام ، وباطنها أوليائي الذين عرفوا عبادي سبيلي اتقوني يا أولي الألباب ، وأنا الذي لا أسأل عما أفعل ، وأنا العليم الحكيم ، وأنا الذي أبلو عبادي ، وأمتحن خلقي ، فمن صبر على بلائي ، ومحنتي ، واختباري ألقيته في جنتي ، وأخلدته في نعمتي ، ومن زال عن أمري ، وكذب رسلي أخذته مهانا في عذابي ، وأتممت أجلي ، وأظهرت أمري على ألسنة رسلي .

            وأنا الذي لم يعل علي جبار إلا وضعته ، ولا عزيز إلا ذللته ، وليس الذي أصر على أمره ، ودام على جهالته ، وقالوا : لن نبرح عليه عاكفين ، وبه موقنين ، أولئك هم الكافرون .

            ثم يركع ، ويقول في ركوعه : سبحان ربي رب العزة ، وتعالى عما يصف الظالمون ، يقولها مرتين ، فإذا سجد قال : الله أعلى ، الله أعلى ، الله أعظم ، الله أعظم .

            ومن شريعته أن يصوم يومين في السنة ، وهما المهرجان والنيروز ، وأن النبيذ حرام ، والخمر حرام ، ولا غسل من جنابة إلا الوضوء كوضوء الصلاة ، وأن من حاربه وجب قتله ، ومن لم يحاربه ممن يخالفه أخذ منه الجزية ، ولا يؤكل كل ذي ناب ، ولا كل ذي مخلب .

            وكان مسير قرمط إلى سواد الكوفة قبل قتل صاحب الزنج ، فسار قرمط إليه ، وقال له : إني على مذهب ورأي ، ومعي مائة ألف ضارب سيف ، فتناظرني ، فإن اتفقنا على المذهب ملت بمن معي ، وإن تكن الأخرى انصرفت عنك ، فتناظرا ، فاختلفت آراؤهما ، فانصرف قرمط عنه . مذاهب القرامطة ومقصودهم فصل

            وأما الإشارة إلى مذاهبهم : فإن مقصودهم الإلحاد ، وتعطيل الشرائع ، وهم يستدرجون الخلق إلى مذاهبهم بما يقدرون عليه  ، فيميلون إلى كل قوم بسبب يوافقهم ويميزون من يمكن أن ينخدع ممن لا يمكن ، فيوصون دعاتهم فيقولون للداعي : إذا وجدت من تدعوه فاجعل التشيع دينك ، ادخل عليه من جهة ظلم الأمة لعلي بن أبي طالب [ عليه السلام ] ، وقتلهم الحسين ، وسبيهم لأهله ، والتبري من تيم وعدي وبني أمية وبني العباس ، وقل بالرجعة ، وأن عليا يعلم الغيب .

            فإذا تمكنت منه أوقفته على مثالب علي وولده ، وبينت له بطلان ما عليه أهل ملة محمد [ عليه السلام ] وغيره من الرسل [ عليهم السلام ] ، وإن كان يهوديا فادخل عليه من جهة انتظار المسيح ، وأن المسيح هو محمد بن إسماعيل بن جعفر ، وهو المهدي ، واطعن في النصارى والمسلمين ، وإن كان نصرانيا فاعكس ، [ وإن كان صابئيا فتعظيم الكواكب ، وإن كان مجوسيا فتعظيم النار والنور ] ، وإن وجدت فيلوسوفيا فهم عمدتنا لأنا نتفق وهم على إبطال نواميس الأنبياء وعلى قدم العالم .

            ومن أظهرت له التشيع فأظهر له بغض أبي بكر وعمر ، ثم أظهر له العفاف والتقشف وترك الدنيا والإعراض عن الشهوات ، ومر بالصدق والأمانة ، والأمر بالمعروف ، فإذا استقر عنده ذلك فاذكر له زلل أبي بكر وعمر ، وإن كان سنيا فاعكس ، وإن كان مائلا إلى المجون والخلاعة ، فقرر عنده أن العبادة بله ، والورع حماقة ، وإنما الفطنة في اتباع اللذة ، وقضاء الوطر من الدنيا الفانية . وقد يستصحبون من له صوت طيب بالقرآن ، فإذا قرأ تكلم داعيهم ، ووعظ وقدح في السلاطين ، وعلماء الزمان ، وجهال العامة ، ويقول : الفرج منتظر ببركة آل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وربما قال : إن لله عز وجل في كلماته أسرارا لا يطلع عليها إلا من اجتباه الله .

            ومن مذاهبهم أنهم لا يتكلمون مع عالم ، بل مع الجهال ، ويجتهدون في تزلزل العقائد بإلقاء المتشابه ، وكل ما لا يظهر للعقول معناه فيقولون : ما معنى الاغتسال من المني دون البول؟ ولم كانت أبواب الجنة ثمانية ، وأبواب النار سبعة؟ وقوله : عليها تسعة عشر أترى ضاقت القافية ما نظن هذا إلا لفائدة لا يفهمها كثير من الناس ، ويقولون : لم كانت السموات سبعا؟ ثم يشوقون إلى جواب هذه الأشياء ، فإن سكت السائل سكتوا ، وإن ألح قالوا : عليك بالعهد والميثاق على كتمان هذا السر ، فإنه الدر الثمين ، فيأخذون عليه العهود والميثاق على كتمان هذا ، ويقولون في الأيمان "وكل مالك صدقة وكل امرأة لك طالق ثلاثا إن أخبرت بذلك" ثم يخبرونه ببعض الشيء ، ويقولون : هذا لا يعلمه إلا آل رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويقولون : هذا الظاهر له باطن ، وفلان يعتقد ما نقول ، ولكنه يستره ويذكرون له بعض الأفاضل ، ولكنه ببلد بعيد .

            واعلم أن مذهبهم ظاهره الرفض ، وباطنه الكفر  ، ومفتتحه حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم ، وعزل العقول أن تكون مدركة للحق ، لما يعترضها من الشبهات ، والمعصوم يطلع من جهة الله تعالى على جميع أسرار الشرائع ، ولا بد في كل زمان من إمام معصوم يرجع إليه . هذا مبدأ دعوتهم .

            ثم يبين أن غاية مقصدهم نقض الشرائع ، لأن سبيل دعوتهم ليس متعينا في واحد ، بل يخاطبون كل فريق بما يوافق رأيه ، لأن غرضهم الاستتباع . وقد ثبت عنهم أنهم يقولون بإلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان ، إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني ، واسم العلة السابق ، واسم المعلول التالي ، وأن السابق خلق العالم بواسطة التالي ، لا بنفسه ، وقد يسمون الأول عقلا ، والثاني نفسا ، والأول تاما ، والثاني ناقصا ، والأول لا يوصف بوجود ، ولا عدم ، ولا موصوف ، ولا غير موصوف . فهم يومئون إلى النفي ، لأنهم لو قالوا معدوم ما قبل منهم ، وقد سموا هذا النفي تنزيها .

            ومذهبهم في النبوات قريب من مذهب الفلاسفة ، وهو أن النبي عبارة عن شخص فاضت عليه من العقل السابق بواسطة الثاني قوة قدسية صافية ، وأن جبريل عبارة عن العقل الفائض عليه ، لا أنه شخص ، وأن القرآن هو تعبير محمد عن المعارف التي فاضت عليه من العقل ، فسمي كلام الله مجازا ، لأنه مركب من جهته ، وهذه القوة الفائضة على النبي ، لا تفيض عليه في أول أمره ، وإنما تتربى كنطفة .

            واتفقوا على أنه لا بد في كل عصر من أمام معصوم قائم بالحق ، يرجع إليه في تأويل الظواهر ، وحل الإشكال في القرآن والأخبار ، وأنه يساوي النبي في العصمة ، ولا يتصور في زمان واحد إمامان ، بل يستظهر الإمام بالدعاة ، وهم الحجج ، ولا بد للإمام من اثني عشر حجة ، أربعة منهم لا يفارقونه .

            وكلهم أنكر القيامة ، وقالوا : هذا النظام وتعاقب الليل والنهار ، وتولد الحيوانات لا ينقضي أبدا ، وأولوا القيامة بأنها رمز إلى خروج الإمام ، ولم يثبتوا الحشر ولا النشر ، ولا الجنة ولا النار ، ومعنى المعاد عندهم عود كل شيء إلى أصله ، قالوا : فجسم الآدمي يبلى ، والروح إن صفت بمجانبة الهوى ، والمواظبة على العبادات ، وغذيت بالعلم سعدت بالعود إلى وطنها الأصلي ، وكمالها بموتها ، إذ به خلاصها من ضيق الجسد .

            وأما النفوس المنكوسة المغموسة في عالم الطبيعة المعرضة عن طلب رشدها من الأئمة المعصومين ، فإنها أبدا في النار على معنى أنها تتناسخ في الأبدان الجسمانية ، وكلما فارقت جسدا تلقاها آخر ، واستدلوا بقوله تعالى : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها وأكثر مذاهبهم يوافق الثنوية والفلاسفة في الباطن ، والروافض في الظاهر ، وغرضهم بهذه التأويلات انتزاع المعتقدات الظاهرة ، من نفوس الناس ، حتى تبطل الرغبة والرهبة .

            ثم إنهم يعتقدون استباحة المحظورات ، ورفع الحجر ، ولو ذكر لهم هذا لأنكروه ، وقالوا : لا بد من الانقياد للشرع على ما يفعله الإمام ، فإذا أحاطوا بحقائق الأمور انحلت عنهم القيود والتكاليف العملية إذ المقصود عندهم من أعمال الجوارح تنبيه القلب ، وإنما تكليف الجوارح للخمر الذين لا يراضون إلا بالسياقة . وغرضهم هدم قوانين الشرع .

            قالوا : وكل ما ذكر من التكاليف فرموز إلى باطن ، فمعنى الجنابة مبادرة المستجيب بإنشاء سر إليه ، قبل أن ينال رتبة الاستحقاق لذلك ، ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك . والزنا : إلقاء نطفة العلم [ الباطن ] إلى نفس من لم يسبق معه عقد العهد ، والاحتلام أن يسبق الإنسان إلى إفشاء السر في غير محله ، والصيام : الإمساك عن كشف السر .

            والمحرمات عبارة عن ذوى السر ، والبعث عندهم الاهتداء إلى مذاهبهم . ويقولون للذكر مثل حظ الأنثيين الذكر الإمام ، والحجة الأنثى . وقالوا : يوم يأتي تأويله أي يظهر محمد بن إسماعيل . قول القرامطة في قول الله تعالى "حرمت عليكم الميتة " وفي قوله : حرمت عليكم الميتة قالوا : الميتة الجامد [ على الظاهر ] الذي لا يلتفت إلى التأويل   .

            وقالوا : إن الشاء والبقر التي تذبح هم الذين حضروا محاربة الأنبياء والأئمة ، يترددون في هذه الصور ، ويجب على الذابح أن يقول عند الذبح اللهم إني أبرأ إليك من روحه وبدنه ، وأشهد له بالضلالة اللهم لا تجعلني من المذبوحين .

            ولهم من هذا الهذيان ما ينبغي تنزيه الوقت عن ذكره ، وإنما علمت هذه الفضائح من أقوام تدينوا بدينهم ، ثم بانت لهم قبائحهم فتركوا مذهبهم .

            فإن قال قائل مثل هذه الاعتقادات الركيكة ، والحديث الفارغ ، كيف يخفى على من يتبعهم ، ونحن نرى أتباعهم خلقا كثيرا ، فالجواب أن أتباعهم أصناف فمنهم قوم ضعفت عقولهم ، وقلت بصائرهم وغلبت عليهم البلادة والبله ، ولم يعرفوا شيئا من العلوم كأهل السواد والأكراد ، وجفاة الأعاجم ، وسفهاء الأحداث ، فلا يستبعد ضلال هؤلاء ، فقد كان خلق ينحتون الأصنام ، ويعبدونها .

            ومن أتباعهم طائفة انقطعت دولة أسلافهم بدولة الإسلام كأبناء الأكاسرة والدهاقين ، وأولاد المجوس ، فهؤلاء موتورون ، قد استكن الحقد في صدورهم ، فهو كالداء الدفين ، فإذا حركته تخائيل المبطلين اشتعلت نيرانه .

            ومن أتباعهم قوم [ لهم ] تطلع إلى التسلط والاستيلاء ، ولكن الزمان لا يساعدهم ، فإذا رأوا طريق الظفر بمقاصدهم سارعوا .

            ومن أتباعهم قوم جبلوا على حب التميز عن العوام ، فزعموا أنهم يطلبون الحقائق ، وأن أكثر الخلق كالبهائم ، وكل ذلك لحب النادر الغريب .

            ومن أتباعهم ملحدة الفلاسفة والثنوية الذين اعتقدوا الشرائع نواميس مؤلفة ، والمعجزات مخاريق مزخرفة ، فإذا رأوا من يعطيهم شيئا من أغراضهم مالوا إليه .

            ومن أتباعهم قوم مالوا إلى عاجل اللذات ، ولم يكن [ لهم ] علم ولا دين ، فإذا صادفوا من يرفع عنهم الحجر مالوا إليه . على أن هؤلاء القوم لا يكشفون أمرهم إلا بالتدريج على قدر طمعهم في الشخص .

            وإنما مددنا النفس في شرح حالهم ، وإن كنا إنما ذكرنا بيتا من قصيدة لعظم ضررهم على الدين ، وشياع كلمتهم المسمومة ، وإنما اجتمعت الأسباب التي ذكرناها في وسط أيامهم ، وإلا فمعاندوا الشرائع منذ كانت خلق كثير .

            وقد نبغ منهم قوم فأظهروا إمامة محمد ابن الحنفية ، وقالوا : إن روح محمد انتقلت إليه ، ثم انتقلت [ منه ] إلى أبي مسلم صاحب الدعوة ، ثم إلى المهدي ، ثم إلى رجل يعرف بابن القصري ، ثم خمدت نارهم ثم نبغ منهم في أيام المأمون رجل فاحتال ، فلم تنفذ حيلته ، ثم تناصروا في أيام المعتصم ، وكاتبوا الأفشين ، وهو رئيس الأعاجم ، فمال إليهم ، واجتمعوا مع بابك ، ثم زاد جمعهم على ثلاثمائة ألف ، فقتل المعتصم منهم ستين ألفا ، وقتل الأفشين أيضا ، ثم ركدت دولتهم .

            ثم نبغ منهم جماعة وفيهم رجل من ولد بهرام جور ، وقصدوا إبطال الإسلام ، ورد الدولة الفارسية ، وأخذوا يحتالون في تضعيف قلوب المؤمنين ، وأظهروا مذهب الإمامية ، وبعضهم مذهب الفلاسفة ، وجعل لهم رأس يعرف بعبد الله بن ميمون بن عمرو ، ويقال : ابن ديصان القداح الأهوازي ، وكان مشعبذا ممخرقا ، وكان معظم مخرقته بإظهار الزهد والورع ، وأن الأرض تطوى له ، وكان يبعث خواص أصحابه إلى الأطراف معهم طيور ، ويأمرهم أن يكتبوا إليه الأخبار عن الأباعد ، ثم يحدث الناس بذلك ، فيقوى شبههم .

            وكانوا يقولون : إن المتقدمين منهم يستخلفون عند الموت ، وكلهم خلفاء محمد بن إسماعيل [ بن جعفر ] الطالبي ، وأن من الدعاة إلى الإمام معدا أبا تميم ، وإسماعيل أباه ، وهم المتغلبون على بلاد المغرب ، ومن استجاب لهم عرفوه أنه أن عمل ما يرضيهم صار إماما ونبيا ، وأنه يرتقي المبتدئ منهم إلى الدعوة ، ثم إلى أن يكون حجة ، ثم إلى الإمامة ، ثم يلحق مرتبة الرسل ، ثم يتحد بالرب فيصير ربا ولا يجوز لأحد أن يحجب امرأته عن إخوانه . والمقصود أن هذه الطائفة تحركت في هذه السنة ، ثم استفحل أمرهم وتفاقم الحال بهم ، على ما سنذكره ، حتى آل الحال إلى أن دخلوا المسجد الحرام فسفكوا فيه دماء الحجيج في وسط المسجد حول الكعبة المكرمة وكسروا الحجر الأسود واقتلعوه من موضعه ، وذهبوا به إلى بلادهم في سنة سبع عشرة وثلاثمائة ، ثم لم يزل عندهم إلى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ، فمكث غائبا عن موضعه ثنتين وعشرين سنة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية