الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            من توفي في سنة خمس وثمانين ومائتين من الأكابر أحمد بن عيسى بن الشيخ وفيها توفي :

            أحمد بن عيسى بن الشيخ صاحب آمد فقام بأمرها من بعده ولده محمد فقصده المعتضد ومعه ابنه أبو محمد علي المكتفي بالله فحاصره بها فخرج إليه سامعا مطيعا فتسلمها منه وخلع عليه وأكرم أهله وأحسن إليه واستخلف عليها ولده المكتفي ثم سار إلى قنسرين والعواصم فتسلمها عن كتاب هارون بن خمارويه وإذنه له في ذلك ومصالحته له على ذلك .

            إسحاق بن إبراهيم الدبري وفيها توفي إسحاق بن إبراهيم الدبري صاحب عبد الرزاق بصنعاء ، ( وهو من آخر من روى عن عبد الرزاق ) .

            أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي اليماني الخوي وفيها توفي أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي اليماني الخوي ، المعروف بالمبرد ، وكان قد أخذ النحو عن أبي عثمان المازني . أحمد بن أصرم بن خزيمة بن عباد بن عبد الله أحمد بن أصرم بن خزيمة بن عباد بن عبد الله بن حسان بن عبد الله بن مغفل ، أبو العباس المزني   .

            سمع أحمد بن حنبل ، ويحيى ، وغيرهما . روى عنه أبو بكر النجاد والحزمي وغيرهما وكان ثقة كبير الشأن   .

            توفي [ في جمادى الأولى من هذه السنة ] بدمشق . إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن بشير بن عبد الله بن ديسم ، أبو إسحاق الحربي إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن بشير بن عبد الله بن ديسم ، أبو إسحاق الحربي   .

            أصله من مرو ، ولد سنة ثمان وتسعين ومائة ، وسمع أبا نعيم ، وعفان بن مسلم ، [ وعلي بن الجعد ] ، وأحمد بن حنبل وخلقا كثيرا . روى عنه : ابن صاعد ، وابن أبي داود ، وابن الأنباري ، وغيرهم .

            وكان إماما في العلم ، غاية في الزهد ، عارفا بالفقه ، بصيرا بالأحكام ، ماهرا في علم الحديث ، قيما بالأدب واللغة . وصنف كتبا كثيرة .

            وقال الدارقطني : إبراهيم الحربي إمام مصنف ، عالم بكل شيء بارع في كل علم ، صدوق ، كان يقاس بأحمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه   .

            وقال إبراهيم الحربي : كان أخوالي نصارى ، وأمي تغلبية ، وصحبت قوما من الكرخ على سماع الحديث ، فسموني الحربي ، لأن عندهم من جاز القنطرة العتيقة من الحربية .

            وعن محمد بن العباس الخزاز ، قال : سمعت أبا عمر اللغوي يقول : سمعت ثعلبا ، يقول : ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس نحو أو لغة خمسين سنة .

            وعن الأزهري ، قال : سمعت أبا سعد عبد الرحمن بن محمد] الإستراباذي يقول : سمعت أبا أحمد بن عدي ، يقول : سمعت أبا عمران الأشيب ، يقول : قال رجل لإبراهيم الحربي : كيف قويت على جمع هذه الكتب؟ فغضب وقال : بلحمي ودمي ، بلحمي ودمي ! ! .

            وعن أحمد بن عبد الله بن خالد بن ماهان ، قال : سمعت إبراهيم بن إسحاق يقول : أجمع عقلاء كل أمة أنه من لم يجر مع القدر لم يتهنأ بعيشة ، كأن يكون قميصي أنظف قميص ، وإزاري أوسخ إزار ، ما حدثت نفسي أنهما يستويان قط ، وفرد عقبي مقطوع ، والآخر صحيح ، أمشي بهما وأدور بغداد كلها ، هذا الجانب ، وذاك الجانب ، لا أحدث نفسي أن أصلحها . وما شكوت إلى أمي ، ولا إلى أختي ، ولا إلى امرأتي ، ولا إلى بناتي قط حمى وجدتها ، .

            [ وكان يقول ] : الرجل [ هو ] الذي يدخل غمه على نفسه ولا يغم عياله ، وكان بي شقيقة خمسا وأربعين سنة ما أخبرت بها أحدا قط ، ولي عشر سنين أبصر بفرد عين ما أخبرت بها أحدا قط ، وأفنيت من عمرى ثلاثين سنة برغيفين ، إن جاءتني بهما أمي أو أختي أكلت ، وإلا بقيت جائعا عطشان إلى الليلة الثانية ، وأفنيت ثلاثين سنة من عمري برغيف في اليوم والليلة ، إن جاءتني امرأتي أو إحدى بناتي به أكلت والا بقيت جائعا عطشان إلى الليلة الأخرى ، والآن آكل نصف رغيف وأربع عشرة تمرة إن كانت برنيا ، أو نيفا وعشرين إن كانت دقلا ، ومرضت ابنتي فمضت امرأتي [ فأقامت ] عندها شهرا ، فقام إفطاري في هذا الشهر بدرهم ودانقين ونصف ، ودخلت الحمام واشتريت لهم صابونا بدانقين ، وكانت نفقة رمضان [ كله ] بدرهم وأربعة دوانيق ونصف .

            وعن عمر بن أحمد بن هارون المقرئ ، أن أبا القاسم [بن بكير] حدثه ، قال : سمعت إبراهيم الحربي يقول : ما كنا نعرف من هذه الأطبخة شيئا ، كنت أجيء من عشي إلى عشي ، وقد هيأت لي أمي باذنجانة مشوية ، أو لعقة بن ، أو باقة فجل .

            قال عمر : سمعت أبا علي الخراط قال : كنت يوما جالسا مع إبراهيم [ الحربي ] على باب داره ، فلما أن أصبحنا قال لي : يا أبا علي ، قم إلى شغلك فإن عندي فجلة قد أكلت البارحة حضرتها أقوم أتغذى بجزرتها .

            وعن أبو بكر : أحمد بن محمد بن إسحاق السني ، قال : سمعت أبا عثمان الرازي يقول : جاء رجل من أصحاب المعتضد إلى إبراهيم الحربي بعشرة آلاف درهم من عند المعتضد ، يسأله عن أمر أمير المؤمنين تفرقة ذلك ، فرده فانصرف الرسول ، ثم عاد فقال [ له ] : إن أمير المؤمنين يسألك أن تفرقه في جيرانك ، فقال : عافاك الله ، هذا مال لم نشغل أنفسنا بجمعه ، فلا نشغلها بتفرقته ، قل لأمير المؤمنين إن تركتنا وإلا تحولنا من جوارك .

            وقال أبو القاسم بن الجبلي ، : اعتل إبراهيم الحربي علة حتى أشرف على الموت ، فدخلت إليه يوما ، فقال لي : يا أبا القاسم ، أنا في أمر عظيم مع ابنتي ، ثم قال لها : قومي اخرجي إلى عمك ، فخرجت فألقت على وجهها خمارها ، فقال : إبراهيم هذا عمك فكلميه ، فقالت [ لي ] : يا عم نحن في أمر عظيم ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، الشهر والدهر ما لنا طعام إلا كسر يابسة وملح ، وربما عدمنا الملح ، وبالأمس [ قد ] وجه إليه المعتضد مع بدر ألف دينار فلم يأخذها ، ووجه إليه فلان وفلان فلم يأخذ منهما شيئا وهو عليل . فالتفت الحربي إليها وتبسم وقال : يا بنية إنما خفت الفقر؟ قالت : نعم ! قال : انظري إلى تلك الزاوية ، فنظرت فإذا كتب ، فقال : هناك اثنا عشر ألف جزء لغة وغريب كتبتها بخطي ، إذا مت فوجهي كل يوم بجزء فبيعيه بدرهم ، فمن كان عنده اثنا عشر ألف درهم ليس بفقير .

            قال محمد بن عبد الله الكاتب : كنت يوما عند المبرد فأنشد:

            جسمي معي غير أن الروح عندكم فالجسم في غربة والروح في وطن     فليعجب الناس مني أن لي بدنا
            لا روح فيه ولي روح بلا بدن

            وأنشد ثعلب :


            غابوا فصار الجسم من بعدهم     لا تنظر العين له فيا
            بأي وجه أتلقاهم     إذا رأوني بعدهم حيا؟
            يا خجلتي منهم ومن قولهم     ما ضرك الفقد لنا شيا

            قال : فأتيت [ إبراهيم ] الحربي فأنشدته ، فقال : ألا أنشدته :


            يا حيائي ممن أحب إذا ما     قال بعد الفراق أنى حييت

            وقال الحسن بن زكريا العدوي : أنشدني إبراهيم الحربي :

            أنكرت ذلي فأي شيء     أحسن من ذلة المحب؟
            أليس شوقي وفيض دمعي     وضعف جسمي شهود حبي؟

            وعن عبد الغفار بن عبد الواحد الأرموي ، قال : سمعت أبا يعلى الحافظ ، يقول : سمعت [حمزة] بن محمد العلوي ، يقول : سمعت عيسى بن محمد الطوماري ، يقول : دخلنا على إبراهيم الحربي - وهو مريض - وقد كان يحمل ماؤه إلى الطبيب وكان يجيء إليه ويعالجه ، فجاءت الجارية فردت الماء وقالت : مات الطبيب ، فبكى وأنشأ يقول :


            إذا مات المعالج من سقام     فيوشك للمعالج أن يموتا

            وعن علي بن الحسن البزاز ، قال : سمعت إبراهيم الحربي يقول وقد دخل عليه قوم يعودونه ، فقالوا : كيف تجدك؟

            فقال : أجدني كما قال الشاعر :


            دب في البلاء علوا وسفلا     وأراني أموت عضوا فعضوا
            ذهبت جدتي بطاعة نفسي     فتذكرت طاعة الله نضوا

            توفي إبراهيم الحربي يوم الإثنين لتسع [ ليال ] بقين من ذي الحجة ، ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من ذي الحجة سنة خمس وثمانين [ ومائتين ] وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي في شارع باب الأنبار ، وكان الجمع كثيرا جدا ودفن في بيته .

            إسحاق بن المأمون بن إسحاق بن إبراهيم إسحاق بن المأمون بن إسحاق بن إبراهيم ، أبو سهل الطالقاني : .

            حدث عن الكوسج ، والربيع بن سليمان . روى عنه ابن مخلد ، وكتب الناس عنه كتاب الشافعي بروايته عن الربيع ، ومن الحديث شيئا صالحا .

            وتوفي في جمادى الأولى من هذه السنة .

            بدر بن عبد الله ، أبو الحسن الجصاص الرومي بدر بن عبد الله ، أبو الحسن الجصاص الرومي .

            حدث عن عاصم بن على ، وخليفة بن خياط . روى عنه الخطبي ، والنقاش .

            وتوفي في محرم هذه السنة .

            زكريا بن يحيى بن عبد الملك بن مروان ، أبو يحيى الناقد زكريا بن يحيى بن عبد الملك بن مروان ، أبو يحيى الناقد .

            سمع خالد بن خداش ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهما . روى عنه أبو الخلال ، ومحمد بن مخلد ، وأبو سهل بن زياد ، وغيرهم .

            وكان أحد العباد المجتهدين ، ومن أثبات المحدثين . قال فيه أحمد بن حنبل : هذا رجل صالح . وقال الدارقطني : هو فاضل ثقة   .

            وعن أبو زرعة الطبري : قال أبو يحيى الناقد : اشتريت من الله تعالى حوراء بأربعة آلاف ختمة ، فلما كان آخر ختمة سمعت الخطاب من الحوراء وهي تقول : وفيت بعهدك فها أنا التي [ قد ] اشتريتني ! فيقال : إنه مات .

            توفي أبو يحيى الناقد ليلة الجمعة ، [ ودفن يوم الجمعة ] لثمان بقين من ربيع الآخر من هذه السنة .

            سعيد بن محمد بن سعيد ، أبو عثمان الأنجداني سعيد بن محمد بن سعيد ، أبو عثمان الأنجداني .

            سمع أبا عمر الحوضي روى عنه أبو بكر الشافعي ، وكان صدوقا   .

            توفي في شوال هذه السنة .

            عبد الله بن أحمد بن سوادة أبو طالب مولى بني هاشم عبد الله بن أحمد بن سوادة أبو طالب مولى بني هاشم .

            حدث عن مجاهد بن موسى ، وطالوت في جماعة . روى عنه أبو بكر بن مجاهد ، وابن مخلد ، وابن عقدة ، وكان صدوقا   .

            وتوفي في هذه السنة بطرسوس .

            عبيد الله بن عبد الواحد بن شريك أبو محمد البزار عبيد الله بن عبد الواحد بن شريك أبو محمد البزار .

            حدث عن آدم بن أبي إياس ، ونعيم بن حماد . روى عنه النجاد ، والمحاملي ، وقال الدارقطني : هو صدوق   . وتوفي في رجب هذه السنة ، ودفن عند قبر أحمد .

            محمد بن بشر بن مطر ، أبو بكر الوراق محمد بن بشر بن مطر ، أبو بكر الوراق ، أخو خطاب بن بشر المذكر .

            سمع عاصم بن علي ، ومحمد بن عبد الله بن نمير ، ويحيى بن يوسف الزمي ، وغيرهم . [ روى عنه ابن صاعد ، وأبو جعفر بن بريه ، وأبو بكر الشافعي ، وغيرهم . و ] قال إبراهيم الحربي : أخو خطاب صدوق لا يكذب ، وقال الدارقطني : ثقة   .

            وتوفي في رمضان هذه السنة .

            محمد بن حماد بن ماهان بن زياد ، أبو جعفر الدباغ محمد بن حماد بن ماهان بن زياد ، أبو جعفر الدباغ .

            سمع علي بن المديني ، وغيره . وكان ثقة   .

            وتوفي في جمادى الآخرة من هذه السنة .

            محمد بن يزيد بن عبد الأكبر ، أبو العباس الأزدي الثمالي محمد بن يزيد بن عبد الأكبر ، أبو العباس الأزدي الثمالي - وثمالة قبيلة من الأزد - المعروف بالمبرد   .

            [ له المعرفة التامة باللغة ، وكان في نحو البصريين آية ] ولد سنة عشر ومائتين ، وقيل : سنة ست ومائتين وذكر ابن المرزبان أنه سئل : لم سميت المبرد ؟ فقال : كان سبب ذلك أن صاحب الشرطة طلبني للمنادمة فكرهت الذهاب إليه ، فدخلت على أبي حاتم السجستاني ، فجاء رسول صاحب الشرطة يطلبني ، فقال لي أبو حاتم : ادخل [ في هذا ] يعني غلاف المزملة فارغ ، فدخلت فيه وغطى رأسه ثم خرج إلى الرسول ، فقال أبو حاتم للرسول : ليس هو عندي ، فقال : أخبرت أنه دخل إليك ، فقال : فادخل الدار ففتشها . فدخل فطاف كل موضع من الدار ولم يفطن بغلاف المزملة ، ثم خرج فجعل أبو حاتم يصفق بيديه وينادي على المزملة : المبرد المبرد ، وتسامع الناس ذلك فلهجوا به . وللمبرد المعرفة التامة باللغة ، وهو أوحد في نحو البصريين .

            و روى عن المازني ، وأبى حاتم ، وغيرهما . وكان موثوقا به في الرواية ، وكان بينه وبين ثعلب مفارقة .

            وعن محمد بن العباس ، قال : أنشدنا محمد بن المرزبان لبعض أصحاب المبرد يمدحه :


            بنفسي أنت يا ابن يزيد من ذا     يساوي ثعلبا بك غير قين
            إذا مازتكما العلماء يوما     رأت شأويكما متفاوتين
            تفسر كل معضلة بحذق     ويستر كل واضحة بعين
            كأن الشمس ما تمليه شرحا     وما يمليه همزة بين بين

            توفي المبرد في هذه السنة .

            وعن محمد بن الحسين بن عمر التميمي ، قال : أنشدنا أحمد بن مروان المالكي ، قال : أنشدني بعض أصحابنا لثعلب بن المبرد حين مات :


            مات المبرد وانقضت أيامه     وسينقضي بعد المبرد ثعلب
            بيت من الآداب أصبح نصفه     خربا وباقي نصفه فسيخرب

            قال ابن الجوزي : هذا [ قدر ] ما روي لنا من هذه الطريق ، وأنها لثعلب ، وقد روى لنا من طريق آخر أنها للحسين بن علي المعروف بابن العلاف ، قالها يرثي المبرد [ ويمدح ثعلبا ، وهي ] :


            مات المبرد وانقضت أيامه     وليذهبن مع المبرد ثعلب
            بيت من الآداب أصبح نصفه     خربا وباقي بيته فسيخرب
            فابكوا لما سلب الزمان ووطنوا     للدهر أنفسكم على ما يسلب
            غاب المبرد حيث لا ترجونه     أبدا ومن ترجونه فمغيب
            شملتكم أيدي الردى بمصيبة     وتوعدت بمصيبة تترقب
            فتزودوا من ثعلب فبكاس ما     شرب المبرد عن قليل يشرب
            وأرى لكم أن تكتبوا أنفاسه     إن كانت الأنفاس مما يكتب
            فليلحقن بمن مضى متخلف     من بعده وليذهبن ونذهب

            قال المبرد : خرجت ومعي أصحاب لي نحو الرقة ، فإذا نحن بدير كبير ، فأقبل إلي بعض أصحابي [ فقال ] : مل بنا إلى هذا الدير لننظر من فيه ، ونحمد الله سبحانه وتعالى على ما رزقنا من السلامة ، فلما دخلنا الدير رأينا مجانين مغللين ، [ وهم ] في نهاية القذارة وإذا بينهم شاب [ عليه بقية ثياب ] ناعمة ، فلما بصر بنا قال : من أين أنتم يا فتيان حياكم الله؟ فقلنا : من العراق ، فقال : يا بأبي العراق وأهلها ! بالله أنشدوني - أو أنشدكم – فقال المبرد : والله إن الشعر من هذا لظريف ، فقلنا : أنشدنا ، فأنشأ يقول :


            الله يعلم أنني كمد     لا استطيع أبث ما أجد
            روحان لي روح تضمنها     بلد وأخرى حازها بلد
            وأرى المقيمة ليس ينفعها     صبر ولا يقوى لها جلد
            وأظن غائبتي كشاهدتي     بمكانها تجد الذي أجد

            قال المبرد [ والله ] إن هذا لظريف ، بالله زدنا ، فأنشأ يقول :


            لما أناخوا قبيل الصبح عيرهم     ورحلوها فثارت بالهوى الإبل
            وأبرزت من خلال السجف ناظرها     ترنو إلي ودمع العين منهمل
            وودعت ببنان عقدها عنم     ناديت لا حملت رجلاك يا جمل
            ويلي من البين ماذا حل بي وبهم     من نازل البين حان البين وارتحلوا
            يا راحل العيس عجل كي أودعهم     يا راحل العيس في ترحالك الأجل
            إني على العهد لم أنقض مودتهم     فليت شعري لطول العهد ما فعلوا

            [ قال المبرد ] فقال رجل من البغضاء الذين معى : ماتوا ! قال : إذن فأموت؟

            فقال له : إن شئت [ فمت ] فتمطى واستند إلى السارية التي كان مشدودا فيها [ ومات ] ، فما برحنا حتى دفناه .

            [ وتوفي المبرد في هذه السنة ] . الوليد بن عبيد بن يحيى ، أبو عبادة الطائي الوليد بن عبيد بن يحيى ، أبو عبادة الطائي ، البحتري   .

            من أهل منبج ، بها ولد سنة ست ومائتين ، وبها نشأ وتأدب ، وخرج إلى العراق فمدح المتوكل وخلقا من الرؤساء والأكابر ، وأقام ببغداد زمانا طويلا ، ثم رجع إلى بلده فمات به ، وكان فصيحا نقي الكلام ، وقد روى عنه [ من ] شعره المبرد ، وابن المرزبان ، وابن درستويه ، وكان [ ينحو نحو أبى تمام ] ويقول أبو تمام الأستاذ ، وقيل له : إن الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمام ، [ فقال ] والله ما ينفعني هذا ولا يضر أبا تمام ] والله ما أكلت الخبز إلا به .

            ولما سمع أبو تمام شعره ، قال : نعيت إلي نفسي ، فإنه ليس يطول عمري وقد نشأ لطيئ مثلك فمات [ أبو تمام ] بعد سنة ، وكان شعر البحتري في المديح أجود من المراثي ، فسئل عن سبب ذلك ، فقال : كنا نقول للرجاء ونحن الآن نعمل للوفاء ، وبينهما بعد .

            عن ابن البحتري ، قال : دخل أبي على بعض العمال قد ذكره في حبس المتوكل [ وهو ] يطالب بما لا يقدر عليه من الأموال فأنشأ يقول :


            جعلت فداك الدهر ليس بمنفك     من الحادث المشكو والنازل المشكي
            وما هذه الأيام إلا منازل     فمن منزل رحب ومن منزل ضنك
            وقد هذبتك الحادثات وإنما     صفا الذهب الإبريز قبلك [بالسبك]
            أما في نبي الله يوسف أسوة     لمثلك مسجونا على الزور والإفك
            أقام جميل الصبر في السجن برهة     فأسلمه الصبر الجميل إلى الملك
            ومن شعره أيضا :

                ألا لا تذكرني الحمى إن ذكره
            جوى للمشوق المستهام المعذب     أتت دون ذاك العهد أيام جرهم
            فطارت بذاك العيش عنقاء مغرب     ويا لائمي في عبرة قد سفحتها
            لبين وأخرى قبلها للتجنب     تحاول مني شيمة غير شيمتي
            وتطلب عندي مذهبا غير مذهبي     ولما تزايلنا من الجزع وانتأى
            مشرق ركب مصعد من مغرب     تبينت أن لا دار من بعد عالج
            تسر ، وأن لا خلة بعد زينب

            وقال أيضا :


            سلام عليكم لا وفاء ولا عهد     أما لكم من هجر خلانكم بد؟
            أأحبابنا قد أنجز الدهر وعده     وشيكا ولم ينجز لنا منكم وعد
            أأطلال دار العامرية باللوى     سقت ربعك الأنواء ما فعلت هند؟
            بنفسي من عذبت نفسي بحبه     وإن لم يكن منه وصال ولا ود
            حبيب من الأحباب شطت به النوى     وأي حبيب ما أتى دونه البعد
            إذا جزت صحراء الغوير مغربا     وجازتك بطحاء السواجير يا سعد
            فقل لبني الضحاك مهلا فإنني     أنا الأفعوان الصل والضيغم الورد

            وله [ أيضا ] :


            إن جرى بيننا وبينك عتب     أو تناءت منا ومنك الديار
            فالغليل الذي علمت مقيم     والدموع التي عهدت غزار

            [ وقال أيضا : ]


            أقول له عند توديعنا     وكل بعبرته مبلس
            لئن قعدت عنك أجسامنا     لقد سافرت معك الأنفس

            وله أيضا :


            ترون بلوغ المجد أن ثيابكم     يلوح عليها حسنها وبصيصها
            وليس العلى دراعة ورداؤها     ولا جبة موشية وقميصها

            وله [ أيضا ]


            تنكر العيش حتى صار أكدره     يأتي نظاما ويأتي صفوه لمعا
            فقد الشقيق غرام ما يرام وفي     فقد التجمل وهن يعقب الظلعا
            كلاهما عبء مكروه إذا افترقا     فكيف يقلهما الواهي إذا اجتمعا
            ليس المصيبة في الثاوي مضى قدرا     بل المصيبة في الباقي هوى جزعا
            إن البكاء على الماضين مكرمة     لو كان ماض إذا بكيته رجعا
            صعوبة الرزء تلفى في توقعه     مستقبلا وانقضاء الرزء إن يقعا
            هم ونحن سواء غير أنهم     أضحوا لنا سلفا نمشي لهم تبعا

            وله :


            عجب الناس لاغترابي وفي الأطراف     تغشى منازل الأشراف
            وجلوسي عن التصرف والأرض     لمثلي رحيبة الأطراف
            ليس لي ثروة بلغت مداها     غير أني امرؤ كفاني كفافي
            قد رأى الأصيد المنكب عني     صيدي عن فنائه وانصرافي
            وغبي الأقوام من بات يرجو     فضل من لا يجود بالإنصاف
            إن تنل قدرة فقد نلت صونا     والتغاني بين الرجال تكافي

            وله :


            مضى أهلك الأخيار إلا أقلهم     وبادوا كما بادت أوائل [جرهم]

            وله :


            قبور بأطراف الثغور كأنما     مواقعها منها مواقع أنجم
            ولما رأوا أن الحياة مذلة     عليهم وعز الموت غير مجرم
            أبوا أن يذوقوا العيش والذم واقع     عليه وماتوا ميتة لم تذمم
            مساع عظام ليس يبلى جديدها     وإن بليت منها رمائم أعظم
            سلام على تلك الخلائق إنها     مسلمة من كل عار ومأثم
            ولا عجب للأسد إذ ظفرت بها     كلاب الأعادي من فصيح وأعجم
            فحربة وحشي سقت حمزة الردى     وحتف علي في حسام ابن ملجم

            توفي البحتري في هذه السنة ، وقيل في سنة ثلاث وثمانين ، وقد بلغ ثمانين سنة .

            هارون بن عيسى بن يحيى ، أبو محمد الصيرفي هارون بن عيسى بن يحيى ، أبو محمد الصيرفي .

            روى عن أبي عبد الرحمن المقري ، وعبد الله بن عبد الحكم . وكان من عقلاء الناس ثقة في الحديث   . وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية