( وفي سنة ست وثمانين ومائتين سار المعتضد من آمد بعد أن ملكها ، كما ذكرناه ، إلى الرقة ، فولى ابنه عليا المكتفي قنسرين ، والعواصم ، والجزيرة ، وكاتبه النصراني ، واسمه الحسين بن عمرو ، فكان ينظر في الأموال ، فقال الخليع في ذلك :
حسين بن عمرو عدو القرآن يصنع في العرب ما يصنع يقوم لهيبته المسلمون
صفوفا لفرد إذا يطلع فإن قيل قد أقبل الجاثليق
تحفى له ومشى يظلع
ووصل كتاب هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون من مصر إلى المعتضد وهو مخيم بآمد أن يسلم إليه قنسرين والعواصم على أن يقره على إمرة الديار المصرية فأجابه إلى ذلك ثم ترحل عن آمد قاصدا العراق وأمر بهدم سور آمد فهدم البعض ولم يقدر على ذلك فقال ابن المعتز يهنئه بفتح آمد :
اسلم أمير المؤمنين ودم في غبطة وليهنك النصر
فلرب حادثة نهضت لها متقدما فتأخر الدهر
ليث فرائسه الليوث فما يبيض من دمها له ظفر
وحكى أبو بكر الصولي : أنه كان مع المعتضد أعرابي فصيح يقال له شعلة بن شهاب اليشكري ، وكان يأنس به ، فأرسله إلى محمد بن عيسى بن شيخ ليرغبه في الطاعة ويحذره العصيان ، قال : فصرت إليه فخاطبته فلم يجبني ، فوجهت إلى عمته فصرت إليها ، فقالت : يا أبا [ شهاب ] كيف خلفت أمير المؤمنين؟ فقلت : خلفته أمارا بالمعروف فعالا للخير .
فقالت : أهل ذلك ومستحقه ، وكيف لا يكون كذلك وهو ظل الله [ تعالى ] الممدود على بلاده ، [ وخليفته المؤتمن على عباده ] ، فكيف رأيت صاحبنا؟ قلت : رأيت غلاما حدثا معجبا قد استحوذ عليه السفهاء واستبد بآرائهم يزخرفون له الكذب ، فقالت : هل لك أن ترجع إليه بكتابي قبل لقاء أمير المؤمنين؟ قلت : أفعل . فكتبت إليه كتابا لطيفا أجزلت فيه الموعظة ، وكتبت في آخره :
اقبل نصيحة أم قلبها وجل خوفا [عليك] وإشفاقا وقل سددا
واستعمل الفكر في قولي فإنك إن فكرت ألفيت في قولي لك الرشدا
ولا تثق برجال في قلوبهم ضغائن تبعث الشنآن والحسدا
مثل النعاج خمولا في بيوتهم حتى إذا آمنوا ألفيتهم أسدا
وداو داءك والأدواء ممكنة وإذ طبيبك قد ألقى عليك يدا
وأعط الخليفة ما يرضيه منك ولا تمنعه مالا ولا أهلا ولا ولدا
واردد أخا يشكر ردا يكون له ردا من السوء لا تشمت به أحدا
فرجعت إلى المعتضد فأخبرته الخبر ، فأخذ الكتاب فقرأه فأعجبه شعرها وعقلها ، ثم قال : إني لأرجو أن أشفعها في كثير من القوم .
فلما كان من فتح آمد ما كان أرسل إلي المعتضد فقال : هل عندك علم من تلك المرأة؟ قلت : لا ! قال : فامض مع هذا الخادم فإنك ستجدها في جملة نسائها ، فمضيت فلما بصرت بي من بعد أسفرت عن وجهها ، وجعلت تقول :
أريب الزمان وصرفه وعناده كشف القناعا
وأذل بعد العز منا الصعب والبطل الشجاعا
ولكم نصحت فما أطعت وكم حرصت بأن أطاعا
فأبى بنا المقدور إلا أن نقسم أو نباعا
يا ليت شعري هل نرى من بعد فرقتنا اجتماعا
قل للخليفة والإمام المرتضى وابن الخلائف من قريش الأبطح
علم الهدى ومناره وسراجه مفتاح كل عظيمة لم تفتح
بك أصلح الله البلاد وأهلها بعد الفساد وطال ما لم تصلح
فتزحزحت بك هضبة العرب التي لولاك بعد الله لم تتزحزح
أعطاك ربك ما تحب فأعطه ما قد يحب وجد بعفوك واصفح
يا بهجة الدنيا وبدر ملوكها هب ظالمي ومفسدي لمصلح
وفيها سار إلى الأنبار جماعة أعراب من بني شيبان ، وأغاروا على القرى ، وقتلوا من لحقوا من الناس ، وأخذوا المواشي ، فخرج إليهم أحمد بن محمد بن كمشجور متوليها ، فلم يطقهم ، فكتب إلى المعتضد بذلك ، فأمده بجيش ، فأدركوا الأعراب ، وقاتلوهم ، فهزمهم الأعراب ( وقتلوا فيهم ، وغرق أكثرهم ، وتفرقوا ، وعاث الأعراب ) في تلك الناحية .
وبلغ خبر الهزيمة إلى المعتضد ، فسير جيشا آخر ، فرحل الأعراب إلى عين التمر ، ( فأفسدوا وعاثوا ، وذلك في شعبان ، ورمضان ، فوجه إليهم عسكرا آخر إلى عين التمر ) ، فسلكوا البرية إلى نواحي الشام ، فعاد العسكر إلى بغداذ ولم يلقهم .
وفيها استدعى المعتضد راغبا مولى الموفق من طرسوس ، فقدم عليه وهو بالرقة ، فحبسه وأخذ جميع ما كان له ، فمات بعد أيام من حبسه ، وكان ذلك في شعبان ، وقبض على بكنون غلام راغب ، وأخذ ماله بطرسوس .
وفيها قلد المعتضد ديوان المشرق محمد بن داود بن الجراح ، وعزل عنه أحمد بن محمد بن الفرات ، وقلد ديوان المغرب علي بن عيسى بن داود ابن الجراح .
وفي سنة ست وثمانين ومائتين وجه محمد بن أبي الساج المعروف بأبي المسافر إلى بغداذ رهينة بما ضمن من الطاعة والمناصحة ، ومعه هدايا جليلة .
وفيها أرسل عمرو بن الليث هدية إلى المعتضد من نيسابور ، فكانت قيمتها أربعة آلاف [ ألف ] درهم .
ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة أن امرأة تقدمت إلى قاضي الري فادعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار فأنكره الزوج فجاءت ببينة تشهد لها به ، فقالوا : نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا ، فلما صمموا على ذلك ، قال الزوج : لا تفعلوا هي صادقة فيما تدعيه . فأقر بما ادعت ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها . فقالت المرأة : وإذ قد أراد ذلك فهو في حل من صداقي عليه في الدنيا والآخرة .