الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            وفاة إسماعيل بن أحمد الساماني وولاية ابنه أحمد  

            في سنة خمس وتسعين ومائتين ، منتصف صفر ، توفي إسماعيل بن أحمد أمير خراسان وما وراء النهر ، ببخارى ،من ملوك السامانية ، وهم أرباب الولايات بسمرقند والشاش وفرغانة وتلك البلاد .

            وظفر إسماعيل بعمرو بن الليث الصفار الخارجي ، فبعث به إلى المعتضد ، فكتب المعتضد عهد إسماعيل على خراسان ، وبعث إليه الخلع ولما انتهت الخلافة إلى المكتفي بالله كتب له ، عهد [إسماعيل وولاه] من الري إلى ما وراء النهر إلى بلاد الترك وبنى إسماعيل ربطا في المفاوز ، يسع كل رباط منها ألف فارس ، ووقف عليها وقوفا وورد إلى بلاده جيش عظيم من كبار الترك ، فيه ألف وسبعمائة قبة ، ولا تكون القبة التركية إلا لرئيس ومتقدم ، فوجه إسماعيل أحد قواده لقتالهم ، فوافاهم وهم غارون ، فقتل منهم خلقا [كثيرا] ، واستباح عسكرهم وانصرف المسلمون غانمين .

            وكان طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث قد استولى على فارس ، بعد أن أسر جده عمرو بن الليث ، فأنفذ المعتضد مولاه بدرا لقتاله ، فبعث طاهر إلى إسماعيل يسأله التوسط بينه وبين الخليفة ليقره على بلاده ويقاطعه على مال ، وأهدى إلى إسماعيل هدايا من جملتها ثلاث عشرة جوهرة ، وزن كل جوهرة ما بين سبعة مثاقيل إلى العشرة ، بعضها أحمر وبعضها أزرق فقومت بمائة ألف دينار ، فكتب إسماعيل إلى المعتضد فشفع فيه ويخبره بحال الهدية ويسأله في قبولها : فأجابه: لو أنفذ إليك كل عامل لأمير المؤمنين أمثال هذا لكان مما يسره ، وشفعه في طاهر .

            وتوفي إسماعيل في صفر هذه السنة في خلافة المكتفي ، فلما بلغه الخبر تمثل المكتفي بقول أبي نواس:


            لن يخلف الدهر مثلهم أبدا هيهات هيهات شأنهم عجب

            وكان يلقب بعد موته بالماضي ، وولي بعده ابنه أبو نصر أحمد ، وأرسل إليه المكتفي عهده بالولاية ، وعقد لواءه بيده .

            وكان إسماعيل عاقلا ، عادلا ، حسن السيرة في رعيته ، حليما ، حكي عنه أنه كان لولده أحمد مؤدب يؤدبه ، فمر به الأمير إسماعيل يوما ، والمؤدب لا يعلم به ، فسمعه وهو يسب ابنه ، ويقول له : لا بارك الله فيك ، ولا فيمن ولدك ! فدخل إليه ، وقال له : يا هذا ، نحن لم نذنب ذنبا لتسبنا ، فهل ترى أن تعفينا من سبك ، وتخص المذنب بشتمك وذمك ؟ فارتاع المؤدب ، فخرج إسماعيل عنه ، وأمر له بصلة جزاء لخوفه منه .

            وقيل : جرى بين يديه ذكر الأنساب والأحساب فقال لبعض جلسائه : كن

            عصاميا ولا تكن عظاميا ، أي ينبغي أن يفتخر بنفسه لا بنسبه وبلده وجده كما قال بعضهم :


            وبجدي سموت لا بجدودي

            وقال آخر :


            حسبي فخارا وشيمتي أدبي     ولست من هاشم ولا العرب
            إن الفتى من يقول هأنذا     ليس الفتى من يقول كان أبي



            وسأل يوما يحيى بن زكرياء النيسابوري فقال له : ما السبب في أن آل معاذ لما زالت دولتهم بقيت عليهم نعمتهم بخراسان ، مع سوء سيرتهم وظلمهم ، وأن آل طاهر لما زالت دولتهم عن خراسان زالت معها نعمتهم مع عدلهم ، وحسن سيرتهم ، ونظرهم لرعيتهم ؟ فقال له يحيى : السبب في ذلك أن آل معاذ لما تغير أمرهم كان الذي ولي البلاد بعدهم آل طاهر في عدلهم ، وإنصافهم ، واستعفافهم عن أموال الناس ، ورغبتهم في اصطناع أهل البيوتات ، فقدموا آل معاذ وأكرموهم ، وأن آل طاهر لما زالت عنهم كان سلطان بلادهم آل الصفار في ظلمهم ، وغشمهم ، ومعاداتهم لأهل البيوتات ومناصبتهم لأهل الشرف والنعم ، فأتوا عليهم وأزالوا نعمتهم .

            فقال إسماعيل : لله درك يا يحيى ، فقد شفيت صدري ! وأمر له بصلة ،

            ولما ولي بعد أخيه كان يكاتب أصحابه وأصدقاءه بما كان يكاتبهم أولا ، فقيل له في ذلك ، فقال : يجب علينا ، إذا زادنا الله رفعة ، أن لا ننقص إخواننا بل نزيدهم رفعة ، وعلا ، وجاها ، ليزيدوا لنا إخلاصا وشكرا .

            ولما ولي بعده ابنه أبو نصر أحمد ، واستوثق أمره ، أراد الخروج إلى الري فأشار

            عليه إبراهيم بن زيدويه بالخروج إلى سمرقند والقبض على عمه إسحاق بن أحمد لئلا يخرج عليه ويشغله ، ففعل ذلك ، واستدعى عمه إلى بخارى ، فحضر فاعتقله بها ، ثم عبر إلى خراسان ، فلما ورد نيسابور هرب بارس الكبير من جرجان إلى بغداذ ، خوفا منه .

            وكان سبب خوفه أن الأمير إسماعيل كان قد استعمل ابنه أحمد على جرجان لما أخذها من محمد بن زيد ، ثم عزله عنها ، واستعمل عليها بارس الكبير ، على ما ذكرناه ، فاجتمع عند بارس أموال جمة من خراج الري ، وطبرستان ، وجرجان ، فبلغت ثمانين وقرا ، فحملها إلى إسماعيل ، فلما سارت عنه بلغه خبر موت إسماعيل ، فردها وأخذها ، فلما سار إليه أحمد خافه ، وكتب إلى المكتفي يستأذنه في المصير إليه ، فأذن له في ذلك ، فسار إليه في أربعة آلاف فارس ، فأرسل أحمد خلفه عسكرا ، فلم يدركوه ، واجتاز الري ، فتحصن بها نائب أحمد بن إسماعيل ، فسار ( إلى بغداذ ) ، فوصلها وقد مات المكتفي ، وولي المقتدر بعده ، ( فأعجبه المقتدر ) .

            وكان وصوله بعد حادثة ابن المعتز ، فسيره المقتدر في عسكره إلى بني حمدان وولاه ديار ربيعة ، فخافه أصحاب الخليفة أن يتقدم عليهم ، فوضعوا عليه غلاما له فسمه فمات ، واستولى غلامه على ماله ، وتزوج امرأته ، وكان موته بالموصل .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية