خلافة المقتدر بالله
[295 - 320 هـ ] وكان السبب في ولاية المقتدر بالله الخلافة ، وهو أبو الفضل جعفر بن المعتضد ، أن المكتفي لما ثقل في مرضه أفكر الوزير حينئذ ، وهو العباس بن الحسن ، فيمن يصلح للخلافة ، وكان عادته أن يسايره ، إذا ركب إلى دار الخلافة ، واحد من هؤلاء الأربعة الذين يتولون الدواوين ، وهم : أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح ، وأبو الحسن محمد بن عبدان ، وأبو الحسن علي بن محمد بن الفرات ، وأبو الحسن علي بن عيسى ، فاستشار الوزير يوما محمد بن داود بن الجراح في ذلك ، فأشار بعبد الله بن المعتز ، ووصفه بالعقل والأدب والرأي ، واستشار بعده أبا الحسن بن الفرات ، فقال : هذا شيء ما جرت به عادتي أشير فيه ، وإنما أشاور في العمال لا في الخلفاء ، فغضب الوزير وقال : هذه مقاطعة باردة ، وليس يخفى عليك الصحيح .
وألح عليه ، فقال : إن كان رأي الوزير قد استقر على أحد يعينه فليفعل ، فعلم أنه عنى ابن المعتز لاشتهار خبره ، فقال الوزير : لا أقنع إلا أن تمحضني النصيحة . فقال ابن الفرات : فليتق الله الوزير ، ولا ينصب إلا من قد عرفه ، واطلع على جميع أحواله ، ولا ينصب بخيلا فيضيق على الناس ويقطع أرزاقهم ، ولا طماعا فيشره في أموالهم ، فيصادرهم ويأخذ أموالهم وأملاكهم ، ولا قليل الدين فلا يخاف العقوبة والآثام ، ويرجو الثواب فيما يفعله ، ولا يول من عرف نعمة هذا ، وبستان هذا ، وضيعة
هذا ، وفرس هذا ، ومن قد لقي الناس ولقوه ، وعاملهم وعاملوه ، ويتخيل ، ويحسب حساب نعم الناس ، وعرف وجوه دخلهم وخرجهم .
فقال الوزير : صدقت ونصحت ، فبمن تشير ؟ قال : أصلح الموجود جعفر بن المعتضد ، قال : ويحك ، هو صبي ، قال ابن الفرات : إلا أنه ابن المعتضد ، ولم نأت برجل كامل يباشر الأمور بنفسه ، غير محتاج إلينا .
ثم إن الوزير استشار علي بن عيسى ، فلم يسم أحدا ، وقال : لكن ينبغي أن يتقي الله ، وينظر من يصلح للدين والدنيا ، فمالت نفس الوزير إلى ما أشار إليه به ابن الفرات ، وانضاف إلى ذلك وصية المكتفي ، فإنه أوصى ، لما اشتد مرضه ، بتقليد أخيه جعفر الخلافة ،
فلما مات المكتفي نصب الوزير جعفرا للخلافة ، وعينه لها ، وأرسل صافيا الحرمي إليه ليحذره من دور آل طاهر بالجانب الغربي وكان يسكنها ، فلما حطه في الحراقة وحدره ، وصارت الحراقة مقابل دار الوزير ، صاح غلمان الوزير بالملاح ليدخل إلى دار الوزير ، فظن صافي الحرمي أن الوزير يريد القبض على جعفر ، وينصب في الخلافة غيره ، فمنع الملاح من ذلك ، وسار إلى دار الخلافة ، وأخذ له صافي البيعة على الخدم ، وحاشية الدار ، ولقب نفسه المقتدر بالله ، ولحق الوزير به وجماعة الكتاب فبايعوه ، ثم جهزوا المكتفي ودفنوه بدار محمد بن طاهر .
ولما بويع المقتدر كان في بيت المال ، حين بويع ، خمسة عشر ألف ( ألف ) دينار ، فأطلق يد الوزير في بيت المال فأخرج منه حق البيعة .
، وأمه أم ولد يقال لها شغب ، فلما بويع استصغره الوزير ، وكان عمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة ، وكثر كلام الناس ( فيه ) ، فعزم على خلعه ، وتقليد الخلافة أبا عبد الله محمد بن المعتمد على الله ، وكان حسن السيرة ، ( جميل الوجه ) والفعل ، فراسله في ذلك ، واستقر الحال ، وانتظر الوزير قدوم بارس حاجب إسماعيل صاحب خراسان ، وكان قد أذن له في القدوم ، كما ذكرناه ، وأراد الوزير [ أن ] يستعين به على ذلك ، ويتقوى به على غلمان المعتضد ، فتأخر بارس . وكان مولد المقتدر ثامن رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين
واتفق أنه وقع بين أبي عبد الله بن المعتمد وبين ابن عمرويه ، صاحب الشرطة ، ( منازعة ) في ضيعة مشتركة بينهما ، فأغلظ ابن عمرويه ، فغضب ابن المعتمد غضبا شديدا ، وأغمي عليه ، وفلج في المجلس ، فحمل إلى ثيته في محفة ، فمات في اليوم الثاني ، فأراد الوزير البيعة لأبي الحسين بن المتوكل ، فمات أيضا بعد
خمسة أيام ، وتم أمر المقتدر . وعمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة وشهر وأحد وعشرون يوما ولم يل الخلافة أحد قبله أصغر سنا منه ، ولما أجلس في منصب الخلافة صلى أربع ركعات ثم سلم ورفع صوته بالدعاء والاستخارة ثم بايعه الناس بيعة العامة وكتب اسمه على الرقوم وغيرها : المقتدر بالله . وكان في بيت مال العامة ستمائة ألف دينار ونيف ، وكانت الجواهر الثمينة في الحواصل من لدن بنى أمية وأيام بني العباس قد تناهى جمعها فما زال يفرقها في حظاياه وأصحابه حتى أنفدها ، وزراء المقتدر بالله وقد استوزر جماعة من الكتاب منهم: أبو أحمد العباس بن الحسن بقي في وزارته أربعة أشهر وسبعة أيام وقتل ، وأبو الحسن علي بن محمد بن الفرات بقي ثلاث سنين وثمانية أشهر وثلاثة وعشرين يوما ، ثم قبض عليه وحبس ، ثم أعيد إلى الوزارة فبقي سنة وخمسة أشهر وسبعة عشر يوما ، [ثم قبض عليه ، ثم أعيد دفعه ثالثة فبقي عشرة أشهر وثمانية عشر يوما] ، ثم قبض عليه وقتل .
[واستوزر] بعد مديدة أبو علي محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، بقي سنة وشهرا وخمسة أيام ، [وقبض عليه . وبعده] أبو الحسن علي بن عيسى بن داود بن الجراح بقي ثلاث سنين وعشرة أشهر وثمانية عشر يوما ، وقبض عليه ، ثم أعيد فبقي سنة وأربعة أشهر ويومين وقبض عليه ، [وبعده] أبو محمد حامد بن العباس بقي أربع سنين وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يوما ، ثم قبض عليه وقتل ، [وبعده] أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان بقي سنة وستة أشهر ويومين ، ثم قبض عليه ، [وبعده] أبو العباس أحمد بن عبيد الله بن أحمد الخصيب بقي سنة وشهرين وقبض عليه . [وبعده] أبو علي محمد بن علي بن مقلة بقي سنتين وأربعة أشهر وثلاثة أيام وقبض عليه . [وبعده] أبو القاسم عبد الله بن محمد الكلواذي بقي شهرين [وثلاثة أيام] وقبض عليه [وبعده] أبو القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد بقي سنة وشهرين وتسعة أيام وقبض عليه [وبعده] أبو علي الحسين بن القاسم بن عبيد الله بقي سبعة أشهر وقبض عليه . [وبعده] أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بقي خمسة أشهر وتسعة وعشرين يوما وقتل المقتدر بالله فاستتر الفضل .
وكان للمقتدر ستة حجاب ، سوسن [مولى المكتفي] ، ثم نصر القشوري ، ثم أحمد بن نصر القشوري ، ثم ياقوت ، ثم محمد وإبراهيم ابنا رائق .
وكان أطباؤه سنان بن ثابت ، وبختيشوع بن يحيى: ورد المقتدر رسوم الخلافة إلى ما كانت عليه من التوسع في الطعام والوظائف ، وفرق في بني هاشم عشرة آلاف دينار ، وتصدق في سائر الناس بمثلها ، وأضعف لبني هاشم أرزاقهم . وفرق [في] يوم التروية ويوم عرفة من البقر [والغنم] ثلاثين ألف رأس ، ومن الإبل ألف رأس ، وأطلق أهل الحبوس الذين يجوز إطلاقهم ، وأمر محمد بن يوسف القاضي أن ينظر في أمور سائر الناس ، وكانت قد بنيت أبنية في الرحبة دخلها في كل شهر ألف دينار فأمر بنقضها ليوسع على المسلمين .
وعن أبو بكر أحمد بن علي ، قال: خلع المقتدر في زمان خلافته مرتين وأعيد ، فأما المرة الأولى فكانت بعد استخلافه بأربعة أشهر وسبعة أيام ، وذلك عند قتل العباس بن الحسن الوزير وفاتك مولى المعتضد ، واجتماع أكثر الناس [ببغداد] على البيعة لأبي العباس عبد الله بن المعتز ولقبوه المرتضي بالله ، وخلع المقتدر واحتجوا في ذلك بصغر سنه وقصوره عن بلوغ الحكم ، ونصبوا ابن المعتز يوم السبت لعشر بقين من ربيع الأول سنة ست وتسعين وسلموا عليه بإمرة المؤمنين ثم بايعوا له بالخلافة ، ثم فسد الأمر وبطل من الغد وثبت أمر المقتدر بالله ، وجددت له البيعة الثانية في يوم الاثنين ، فظفر بعبد الله بن المعتز فقتل وقتل جماعة ممن سعى في أمره ، والمرة الثانية في الخلع: بعد إحدى وعشرين سنة وشهرين ويومين من خلافته ، اجتمع القواد والجند والأكابر والأصاغر مع مؤنس الخادم ونازوك على خلعه فقهروه وخلعوه ، وطالبوه بأن يكتب رقعة بخطه بخلع نفسه ، ففعل وأشهد على نفسه بذلك ، وأحضروا محمد بن المعتضد [بالله] فنصبوه وسموه القاهر بالله وسلموا عليه بإمرة المؤمنين ، وذلك يوم السبت للنصف من المحرم سنة سبع عشرة وثلاثمائة ، فأقام على ذلك يوم السبت ويوم الأحد ، فلما كان يوم الاثنين اختلف الجند وتغير رأيهم ووثب طائفة منهم على نازوك وعبد الله بن حمدان المكنى بأبي الهيجاء فقتلوهما وأقيم القاهر من مجلس الخلافة وأعيد المقتدر بالله إلى داره ، وجددت له بيعة ، وكان قد تبرأ من الأمر يومين وبعض الثالث ولم يكن وقع للقاهر بيعة في رقاب الناس .