الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر  

            2643 - أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد ، أبو الطيب الجعفي الشاعر المعروف: بالمتنبي  

            :

            كان أبوه يعرف بعبدان ، قال شيخنا ابن ناصر: سمعت أبا زكريا يقول: سمعت أبا القاسم بن برهان ، يقول: عبدان بفتح العين جمع عبدانة ، وهي النخلة الطويلة ، ومن قال: عبدان بكسر العين فقد أخطأ .

            ولد المتنبي بالكوفة سنة ثلاث وثلاثمائة ، ونشأ بالشام فأكثر المقام بالبادية ، وطلب الأدب ، وعلم العربية ، وفاق أهل عصره في الشعر ، واتصل بالأمير أبي الحسن بن حمدان المعروف بسيف الدولة ، فانقطع إليه ، وأكثر القول في مديحه ، ثم مضى إلى مصر فمدح [بها] كافورا الخادم [الإخشيدي ثم] ورد [بعد ذلك] بغداد .

            قال أبو الحسن محمد بن يحيى العلوي :

            كان المتنبي وهو صبي ينزل في جوار بالكوفة ، وكان أبوه يعرف بعبدان السقاء ، يستقي لنا ولأهل المحلة ، ونشأ هو محبا للعلم والأدب ، وصحب الأعراب فجاءنا بعد سنين بدويا قحا وكان تعلم الكتابة والقراءة ، وأكثر من ملازمة الوراقين .

            فأخبرني وراق كان يجلس إليه ، قال لي: ما رأيت أحفظ من هذا الفتى ابن عبدان ، قلت له: كيف؟ قال: كان اليوم عندي وقد أحضر رجل كتابا من كتب الأصمعي نحو ثلاثين ورقة ليبيعه ، فأخذ ينظر فيه طويلا ، فقال له الرجل: يا هذا أريد بيعه وقد قطعتني عن ذلك ، وإن كنت تريد حفظه فهذا إن شاء الله يكون بعد شهر ، فقال له:

            فإن كنت قد حفظته في هذه المدة ما لي عليك ، قال: أهب لك الكتاب ، قال: فأخذت الدفتر من يده ، فأقبل يتلوه علي إلى آخره ثم استلمه فجعله في كمه ، فقام صاحبه وتعلق به وطالبه بالثمن ، فقال: ما إلى ذلك سبيل قد وهبته لي فمنعناه منه ، وقلنا له:

            أنت شرطت على نفسك هذا للغلام فتركه عليه .

            قال المحسن: وسألت المتنبي عن نسبه فما اعترف لي به ، وقال: أنا رجل أختط القبائل ، وأطوي البوادي وحدي ، ومتى انتسبت لم آمن أن يأخذني بعض العرب بطائلة بيننا وبين القبيلة التي أنتسب إليها ، وما دمت غير منتسب إلى أحد فأنا أسلم على جميعهم .

            قال المحسن: واجتمعت بعد موت المتنبي بعد سنين مع القاضي أبي الحسن ابن أم شيبان الهاشمي ، وجرى ذكر المتنبي ، فقال: كنت أعرف أباه بالكوفة شيخا يسمى:

            عبدان ، يستقي على بعير له ، وكان جعفيا صحيح النسب ، قال: وكان المتنبي لما خرج إلى كلب ، فأقام بينهم ادعى أنه علوي حسني ، ثم ادعى بعد ذلك النبوة ، ثم عاد يدعي أنه علوي إلى أن شهد عليه بالشام بالكذب في الدعوتين ، وحبس دهرا طويلا ، وأشرف على القتل ، ثم استتيب وأشهد عليه بالتوبة وأطلق .

            قال المحسن: وحدثني أبو علي بن أبي حامد ، قال: سمعت خلقا كثيرا بحلب يحكون وأبو الطيب المتنبي بها إذ ذاك أنه تنبأ في بادية السماوة ونواحيها إلى أن خرج بها لؤلؤ أمير حمص ، فقاتله وأسره وشرد من كان اجتمع إليه من كلب وكلاب وغيرهما من قبائل العرب ، وحبسه دهرا طويلا فاعتل وكاد يتلف ، فسئل في أمره ، فاستتابه وكتب عليه ببطلان ما ادعاه ورجوعه إلى الإسلام ، قال: وكان قد تلا على البوادي كلاما ذكر أنه قرآنا أنزل عليه ، فمن ذلك: "والنجم السيار ، والفلك الدوار ، والليل والنهار ، إن الكافر لفي أخطار ، امض على سنتك واقف أثر من كان قبلك من المرسلين ، فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه وضل عن سبيله" .

            قال: وكان المتنبي إذا شوغب في مجلس سيف الدولة فذكر أن له هذا القرآن وأمثاله مما يحكى عنه فينكره ويجحده . قال: وقال ابن خالويه النحوي يوما في مجلس سيف الدولة: لولا أن الآخر جاهل لما رضي أن يدعى بالمتنبي ، لأن "متنبي" معناه:

            كاذب ، ومن رضي أنه يدعى بالكذب فهو كاذب فهو جاهل ، فقال له: أنا لست أرضى أن أدعى به وإنما يدعوني به من يريد الغض مني ، ولست أقدر على الامتناع .

            قال المحسن: فأما أنا فسألته في الأهواز سنة أربع وخمسين وثلاثمائة عن معنى المتنبي ، فأجابني بجواب مغالط لي ، وقال: هذا شيء كان في الحداثة أوجبته الصورة - فاستحييت أن أستقصي عليه ، فأمسكت . علي بن محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول ، أبو الحسن التنوخي القاضي   .

            ولد في شوال سنة إحدى وثلاثمائة ، وكان حافظا للقرآن ، قرأ على أبي بكر بن مقسم بحرف حمزة ، وقرأ على ابن مجاهد بعض القرآن ، وتفقه على مذهب أبي حنيفة ، وقرأ من النحو واللغة والأخبار والأشعار ، وقال الشعر ، وتقلد القضاء بالأنبار ، وهيت ، من قبل أبيه ، ثم ولي من قبل الراضي بالله سنة سبع وعشرين القضاء بطريق خراسان ، ثم صرف وبقي إلى أن قلده أبو السائب عتبة بن عبد الله في سنة إحدى وأربعين ، وهو يومئذ يتولى قضاء القضاة بالأنبار ، وهيت ، وأضاف [له] إليهما بعد مدة الكوفة ، ثم أقره على ذلك أبو العباس بن أبي الشوارب لما ولي قضاء القضاة مدة ، ثم صرفه ، ثم لما ولي عمر بن أكثم قضاء القضاة قلده عسكر مكرم ، وإيذج مدة ، وحدث فروى عنه المحسن بن علي التنوخي ، وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة .

            2645 - محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن بن الحسين بن مقسم ، أبو بكر العطار المقرئ   .

            ولد سنة خمس وستين ومائتين ، وسمع أبا مسلم الكجي ، وثعلبا وإدريس بن عبد الكريم [الحداد] وغيرهم ، روى عنه ابن رزقويه ، وابن شاذان ، وغيرهما ، وكان ثقة من أعرف الناس بالقراءات وأحفظهم لنحو الكوفيين ، وله في معاني القرآن كتاب سماه: "كتاب الأنوار" وما رأيت مثله ، وله تصانيف عدة ولم يكن له عيب إلا أنه قرأ بحروف تخالف الإجماع ، واستخرج لها وجوها من اللغة والمعنى ، مثل ما ذكر في [كتاب] "الاحتجاج" للقرافي [في] قوله تعالى: ( فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا فقال: لو قرئ خلصوا نجبا بالباء لكان جائزا ، وهذا مع كونه يخالف الإجماع بعيد [من] المعنى ، إذ لا وجه للنجابة عند يأسهم من أخيهم ، إنما اجتمعوا يتناجون ، وله من هذا الجنس من تصحيف الكلمة ، واستخراج وجه بعيد لها ، مع كونها لم يقرأ بها كثير ، وقد أنكر العلماء هذا عليه ، وارتفع الأمر إلى السلطان ، فأحضره واستتابه بحضرة الفقهاء والقراء فأذعن بالتوبة ، وكتب محضر بتوبته ، وأشهد عليه جماعة ممن حضر ، وقيل: إنه لم ينزع عن تلك الحروف ، وكان يقرئ بها إلى أن مات .

            قال أبو طاهر عبد الواحد بن عمر بن أبي هاشم : وقد نبغ نابغ في عصرنا هذا فزعم أن كل ما صح عنده وجه في العربية لحروف من القرآن يوافق خط المصحف ، فقراءته جائزة في الصلاة ، فابتدع بقوله ذلك بدعة ضل بها عن قصد السبيل ، وأورط نفسه في مزلة عظمت بها جنايته على الإسلام وأهله ، وحاول إلحاق كتاب الله من الباطل ما لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه ، إذ جعل لأهل الإلحاد في دين الله بسيء رأيه طريقا إلى مغالطة أهل الحق بتخير القراءات من جهة البحث والاستخراج بالآراء دون التمسك بالأثر ، وقد كان أبو بكر شيخنا نشله من بدعته المضلة باستتابته منها ، وشهد عليه الحكام والشهود والمقبولين عند الحكام بترك ما أوقع نفسه فيه من الضلالة بعد أن سئل البرهان على صحة ما ذهب إليه ، فلم يأت بطائل ، ولم تكن حجته قوية ولا ضعيفة ، فاستوهب أبو بكر تأديبه من السلطان عند توبته ، ثم عاود في وقتنا هذا إلى ما كان ابتدعه واستغوى من أصاغر المسلمين ممن هو في الغفلة والغباوة ، ظنا منه أن ذلك يكون للناس دينا ، وأن يجعلوه فيما ابتدعه إماما .

            عن أبي بكر أحمد بن محمد [المستملي] قال: سمعت [أبا] أحمد الفرضي غير مرة يقول: رأيت في المنام كأني في المسجد الجامع أصلي مع الناس ، وكأن ابن مقسم قد ولى ظهره القبلة ، وهو يصلي مستدبرها ، فأولت ذلك مخالفته الأئمة فيما اختاره من القراءات . توفي أبو بكر بن مقسم يوم الخميس لثمان خلون من ربيع الآخر من هذه السنة .

            2646 - محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبدويه بن موسى ، أبو بكر المعروف: بالشافعي   .

            ولد بجبل سنة ستين ومائتين وسكن بغداد ، وسمع محمد بن الجهم ، وأبا قلابة الرقاشي ، والباغندي ، وخلقا كثيرا ، وكان ثقة ثبتا ، كثير الحديث حسن التصنيف ، قد روى الحديث قديما فكتب عنه في زمان ابن صاعد ، روى عنه الدارقطني ، وابن شاهين ، وغيرهما من الأئمة ، وآخر من روى عنه أبو طالب بن غيلان حدثنا ابن الحصين ، عن ابن غيلان عنه .

            عن أحمد بن علي بن ثابت قال: لما منعت الديلم ببغداد الناس أن يذكروا فضائل الصحابة ، وكتب سب السلف على المساجد كان الشافعي يتعمد في ذلك الوقت إملاء الفضائل في جامع المدينة وفي مسجده بباب الشام حسبة وقربة ، وحدثني الأزهري أنه سمع ابن رزقويه لما حدث يقول أدركتني دعوة أبي بكر الشافعي وذلك ، أنه دعا الله لي بأن أبقى حتى أحدث ، فاستجيب له في ، توفي أبو بكر الشافعي في ذي الحجة من هذه السنة .

            2647 - مكي بن أحمد بن سعدويه ، أبو بكر البرذعي   .

            أحد الرحالة في طلب الحديث ، وسمع من ابن منيع ، وابن صاعد ، وغيرهما ، وتوفي في هذه السنة . [ الوفيات ]

            وفيها توفي محمد بن حبان ( بن أحمد بن حبان ) أبو حاتم البستي ، صاحب التصانيف المشهورة ، وأبو بكر محمد بن الحسن بن يعقوب بن مقسم المفسر النحوي المقرئ ، وكان عالما بنحو الكوفيين وله تفسير كبير حسن ، ومحمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبدويه أبو بكر الشافعي في ذي الحجة ، وكان عالما بالحديث عالي الإسناد .

            ( حبان : بكسر الحاء والباء الموحدة ) .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية