الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر وفاة يمين الدولة محمود بن سبكتكين وملك ولده محمد  

            اسمه ومولده ووفاته

            في هذه السنة ، في ربيع الآخر ، توفي يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين ، ومولده يوم عاشوراء سنة ستين وثلاثمائة ( وقيل إنه توفي أحد عشر صفر ) ، وكان مرضه سوء مزاج وإسهالا ، وبقي كذلك نحو سنتين ، وكان قوي النفس لم يضع جنبه في مرضه بل كان يستند إلى مخدته فأشار عليه الأطباء بالراحة ، كان يجلس للناس بكرة وعشية ، فقال : أتريدون أن أعتزل الإمارة ؟ فلم يزل كذلك حتى توفي قاعدا .

            فلما حضره الموت أوصى بالملك لابنه محمد ، وهو ببلخ ، وكان أصغر من مسعود ، إلا أنه كان معرضا عن مسعود لأن أمره لم يكن عنده نافذا ، وسعى بينهما أصحاب الأغراض ، فزادوا أباه نفورا عنه فلما وصى بالملك لولده محمد توفي ، فخطب لمحمد من أقاصي الهند إلى نيسابور ، وكان لقبه جلال الدولة ، وأرسل إليه أعيان دولة أبيه يخبرونه بموت أبيه ووصيته له بالملك ، ويستدعونه ، ويحثونه على السرعة ، ويخوفونه من أخيه مسعود ، فحين بلغه الخبر سار إلى غزنة ، فوصلها بعد موت أبيه بأربعين يوما ، فاجتمعت العساكر على طاعته ، وفرق فيهم الأموال والخلع النفيسة ، فأسرف في ذلك . صفته وخلقه

            كان يمين الدولة محمود بن سبكتكين عاقلا ، دينا ، خيرا ، عنده علم ومعرفة ، وصنف له كثير من الكتب في فنون العلوم ، وقصده العلماء من أقطار البلاد ، وكان يكرمهم ، ويقبل عليهم ، ويعظمهم ، ويحسن إليهم ، وكان عادلا ، كثير الإحسان إلى رعيته والرفق بهم ، كثير الغزوات ، ملازما للجهاد ، وفتوحه مشهورة مذكورة ، وقد ذكرنا منها ما وصل إلينا على بعد الدهر ، وفيه ما يستدل به على بذل نفسه لله تعالى واهتمامه بالجهاد .

            ولم يكن فيه ما يعاب إلا أنه كان يتوصل إلى أخذ الأموال بكل طريق ، فمن ذلك أنه بلغه أن إنسانا من نيسابور كثير المال ، عظيم الغنى ، فأحضره إلى غزنة وقال له : بلغنا أنك قرمطي ، فقال : لست بقرمطي ، ولي مال يؤخذ منه ما يراد وأعفى من هذا الاسم ، فأخذ منه مالا ، وكتب معه كتابا بصحة اعتقاده .

            وجدد عمارة المشهد بطوس الذي فيه قبر علي بن موسى الرضا ، والرشيد ، وأحسن عمارته ، وكان أبوه سبكتكين أخربه ، وكان أهل طوس يؤذون من يزوره ، فمنعهم عن ذلك .

            وكان سبب فعله أنه رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، عليه السلام ، في المنام وهو يقول له : إلى متى هذا ؟ فعلم أنه يريد أمر المشهد ، فأمر بعمارته .

            وكان ربعة مليح اللون ، حسن الوجه ، صغير العينين ، أحمر الشعر ، وكان ابنه محمد يشبهه ، وكان ابنه مسعود ممتلئ البدن ، طويلا . فتوحاته

            صاحب بلاد غزنة وما والاها ، وجيشه يقال لهم : السامانية . وكان أبوه قد تملك عليهم ، وتوفي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة ، فتملك بعده ولده هذا ، فسار فيهم وفي سائر الرعايا سيرة عادلة ، وقام بأعباء الإسلام قياما تاما ، وفتح فتوحات كثيرة في بلاد الهند وغيرها وعظم شأنه في العالمين ، واتسعت مملكته وامتدت رعاياه وطالت أيامه ولله الحمد والمنة .

            وكان يخطب في سائر ممالكه للخليفة العباسي القادر بالله وكانت رسل الفاطميين من الديار المصرية تفد إليه بالكتب والهدايا والتحف ، فيحرق بهم ، ويقطع كتبهم ، ويخرق حللهم . وقد اتفق له في بلاد الهند فتوحات لم تتفق لغيره من الملوك ، لا قبله ولا بعده ، وغنم مغانم كثيرة لا تنحصر ولا تنضبط كثرة ، من الذهب واللآلئ والسبي ، وكسر من أصنامهم وأبدادهم وأوثانهم شيئا كثيرا جدا ، بيض الله وجهه وأكرم مثواه ، وقد ذكرنا ذلك مفصلا فيما سلف مفرقا في السنين ، كان في جملة ما كسر من أصنامهم بد عظيم لليهود يقال له : سومنات . بلغ ما تحصل منه من الذهب عشرين ألف ألف دينار ، وكسر ملك الهند الكبير الذي يقال له : جيبال . وقهر ملك الترك الأعظم الذي يقال له : إيلك خان . وأباد ملك السامانية ، وقد ملكوا بخراسان مائة سنة بلاد سمرقند وما حولها ، ثم هلكوا ، وبنى على جيحون جسرا غرم عليه ألفي ألف دينار ، وهذا شيء لم يتفق لغيره من الملوك ، وكان معه في جيشه أربعمائة فيل تقاتل ، وهذه عظيمة هائلة ومرتبة طائلة ، وجرت له فصول ذكر تفصيلها يطول .

            ديانته وحبه للعلماء

            وكان في غاية الديانة والصيانة يحب العلماء والمحدثين ، ويكرمهم ، ويجالسهم ، ويحسن إليهم ، وكان حنفي المذهب ، ثم صار شافعيا على يدي أبي بكر القفال الصغير ، على ما ذكره إمام الحرمين وغيره ، وكان كراميا على اعتقادهم ، وكان من جملة من يجالسه منهم محمد بن الهيضم ، وتناظر هو وأبو بكر بن فورك بين يدي الملك محمود بن سبكتكين في مسألة العرش مناظرة طويلة ، ذكرها ابن الهيضم في مصنف له ، فمال السلطان محمود بن سبكتكين إلى قول ابن الهيضم ، ونقم على ابن فورك كلامه ، وأمر بطرده وإخراجه ; لموافقته لرأي الجهمية .

            عدله وقضائه

            وكانت معدلته جيدة ; اشتكى إليه رجل أن ابن أخت الملك يهجم عليه وعلى أهله في كل وقت ، فيخرجه من البيت ويختلي بامرأته ، وقد حار في أمره ، وكلما اشتكاه إلى أحد من أولي الأمر لا يتجاسر على إقامة الحد عليه ; يهابون الملك . فقال له الملك : ويحك ! متى جاءك فائتني فأعلمني ، ولا تسمعن من أحد منعك من الوصول إلي ، ولو كان في الليل . وتقدم إلى الحجبة أن هذا لا يمنعه أحد متى جاء من ليل أو نهار . فذهب الرجل مسرورا ، فما كان إلا ليلة أو ليلتان حتى هجم عليه ذلك الشاب فأخرجه واختلى بأهله ، فذهب باكيا إلى دار الملك ، فقيل له : إن الملك نائم . فقال : قد تقدم إليكم بما سمعتم ، فأنبهوا الملك ، فخرج معه بنفسه وحده ، وجاء منزل ذلك الرجل ، فنظر إلى الغلام وهو نائم مع المرأة في فراش الرجل ، وعندهما شمعة تقد ، فتقدم الملك فأطفأ الضوء ، ثم جاء فاحتز رأس الغلام ، وقال للرجل : ويحك ! ألحقني بشربة من ماء ، فسقاه ، ثم انطلق ليذهب ، فقال له الرجل : سألتك بالله لم أطفأت الشمعة ؟ فقال : ويحك ! إنه ابن أختي ، وكرهت أن أشاهده حال الذبح . قال : ولم طلبت الماء سريعا ؟ فقال : إني كنت آليت منذ أخبرتني أن لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أقوم بحقك ، فكنت عطشان هذه الأيام ، حتى كان ما رأيت . فدعا له ، وانصرف ، رحمه الله .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية