ذكر ابتداء وسياقة أخبارهم متتابعة الدولة السلجوقية
في هذه السنة اشتد ملك السلطان طغرلبك محمد وأخيه جغري بك داود ابني ميكائيل بن سلجوق بن تقاق ، فنذكر أولا حال آبائه ، ثم نذكر حاله كيف تنقلت حتى صار سلطانا ، على أنني قد ذكرت أكثر أخبارهم متقدمة على السنين ، وإنما أوردناها هاهنا مجموعة لترد سياقا واحدا ، فهي أحسن ، فأقول : فأما تقاق فمعناه القوس الجديد ، وكان شهما ذا رأي وتدبير ، وكان مقدم الأتراك الغز ، ومرجعهم إليه ، لا يخالفون له قولا ، ولا يتعدون أمرا .
فاتفق يوما من الأيام أن ملك الترك الذي يقال له بيغو جمع عساكره ، وأراد المسير إلى بلاد الإسلام ، فنهاه تقاق عن ذلك ، وطال الخطاب بينهما فيه ، فأغلظ له ملك الترك الكلام ، فلطمه تقاق فشج رأسه ، فأحاط به خدم ملك الترك ، وأرادوا أخذه ، فمانعهم وقاتلهم ، واجتمع معه من أصحابه من منعه ، فتفرقوا عنه ، ثم صلح الأمر بينهما ، وأقام تقاق عنده ، وولد له سلجوق .
وأما سلجوق فإنه لما كبر ظهرت عليه أمارات النجابة ومخايل التقدم ، فقربه ملك الترك وقدمه ، ولقبه سباشي ، ومعناه قائد الجيش ، وكانت امرأة الملك تخوفه من سلجوق لما ترى من تقدمه ، وطاعة الناس له ، والانقياد إليه ، وأغرته بقتله وبالغت في ذلك .
وسمع سلجوق الخبر ، فسار بجماعته كلهم ومن يطيعه من دار الحرب إلى ديار الإسلام ، وسعد بالإيمان ومجاورة المسلمين ، وازداد حاله علوا ، ( وإمرة ، وطاعة ) ، وأقام بنواحي جند ، وأدام غزو كفار الترك ، وكان ملكهم يأخذ الخراج من المسلمين في تلك الديار ، وطرد سلجوق عماله منها ، وصفت للمسلمين .
ثم إن بعض ملوك السامانية كان هارون بن أيلك الخان قد استولى على بعض أطراف بلاده ، فأرسل إلى سلجوق يستمده ، فأمده بابنه أرسلان في جمع من أصحابه ، فقوي بهم الساماني على هارون ، واسترد ما أخذه منه ، وعاد أرسلان إلى أبيه .
وكان لسلجوق من الأولاد : أرسلان ، وميكائيل ، وموسى ، وتوفي سلجوق بجند ، وكان عمره مائة سنة وسبع سنين ، ودفن هناك ، وبقي أولاده ، فغزا ميكائيل بعض بلاد الكفارالأتراك ، فقاتل وباشر القتال بنفسه ، فاستشهد في سبيل الله ، وخلف من الأولاد : بيغو ، وطغرلبك محمدا ، وجغري بك داود ، فأطاعهم عشائرهم ، ووقفوا عند أمرهم ونهيم ، ونزلوا بالقرب من بخارى على عشرين فرسخا منها ، فخافهم أمير بخارى فأساء جوارهم ، وأراد إهلاكهم والإيقاع بهم ، فالتجئوا إلى بغراخان ملك تركستان ، وأقاموا في بلاده ، واحتموا به وامتنعوا ، واستقر الأمر بين طغرلبك وأخيه داود أنهما لا يجتمعان عند بغراخان ، إنما يحضر عنده أحدهما ، ويقيم الآخر في أهله خوفا من مكر يمكره بهم ، فبقوا كذلك .
ثم إن بغراخان اجتهد في اجتماعهما عنده ، فلم يفعلا ، فقبض على طغرلبك وأسره ، فثار داود في عشائره ومن يتبعه ، وقصد بغراخان ليخلص أخاه ، فأنفذ إليه بغراخان عسكرا ، فاقتتلوا ، فانهزم عسكر بغراخان وكثر القتل فيهم ، وخلص أخاه من الأسر ، وانصرفوا إلى جند ، وهي قريب بخارى ، فأقاموا هناك .
فلما انقرضت دولة السامانية ، وملك أيلك الخان بخارى عظم محل أرسلان بن سلجوق عم داود وطغرلبك بما وراء النهر ، وكان علي تكين في حبس أرسلان خان ، فهرب ، ( وهو أخو أيلك الخان ) ولحق ببخارى واستولى عليها ، واتفق مع أرسلان بن سلجوق فامتنعا ، واستفحل أمرهما ، وقصدهما أيلك أخو أرسلان خان وقاتلهما ، فهزماه وبقيا ببخارى
وكان علي تكين يكثر معارضة يمين الدولة محمود بن سبكتكين فيما يجاوره في بلاده ، ويقطع الطريق على رسله المترددين إلى ملوك الترك ، فلما عبر محمود جيحون ، على ما ذكرناه ، هرب علي تكين من بخارى ، وأما أرسلان بن سلجوق وجماعته فإنهم دخلوا المفازة والرمل ، فاحتموا من محمود ، فرأى محمود قوة السلجوقية وما لهم من الشوكة وكثرة العدد ، فكاتب أرسلان بن سلجوق واستماله ورغبه ، فورد إليه ، فقبض يمين الدولة عليه في الحال ولم يمهله ، وسجنه في قلعة ونهب خركاهاته ، واستشار فيما يفعل بأهله وعشيرته ، فأشار أرسلان الجاذب ، وهو من أكبر خواص محمود ، بأن يقطع أباهمهم لئلا يرموا بالنشاب ، أو يغرقوا في جيحون ، فقال له : ما أنت إلا قاسي القل ! ثم أمر بهم فعبروا نهر جيحون ، ففرقهم في نواحي خراسان ، ووضع عليهم الخراج ، فجار العمال عليهم ، وامتدت الأيدي إلى أموالهم وأولادهم ، انفصل منهم أكثر من ألفي رجل ، وساروا إلى كرمان ، ومنها إلى أصبهان ، وجرى بينهم وبين صاحبها علاء الدولة بن كاكويه حرب ، قد ذكرناها ، فساروا من أصبهان إلى أذربيجان ، وهؤلاء جماعة أرسلان . فأما أولاد إخوته فإن علي تكين صاحب بخارى أعمل الحيل في الظفر بهم ، فأرسل إلى يوسف بن موسى بن سلجوق ، وهو ابن عم طغرلبك محمد وجغري بك داود ، ووعده الإحسان ، وبالغ في استمالته ، وطلب منه الحضور عنده ، ففعل ، ففوض إليه علي تكين التقدم على جميع الأتراك الذين في ولايته ، وأقطعه أقطاعا كثيرة ، ولقب بالأمير إينانج بيغو .
وكان الباعث له على ما فعله به أن يستعين به وبعشيرته وأصحابه على طغرلبك وداود ابني عمه ، ويفرق كلمتهم ، ويضرب بعضهم ببعض ، فعلموا مراده ، فلم يطعه يوسف إلى شيء مما أراده منه ، فلما رأى علي تكين أن مكره لم يعمل في يوسف ، ولم يبلغ به غرضا ، أمر بقتله ، فقتل يوسف ، تولى قتله أمير من أمراء علي تكين اسمه ألب قرا .
فلما قتل عظم ذلك على طغرلبك وأخيه داود وجميع عشائرهما ، ولبسوا ثياب الحداد ، وجمعا من الأتراك من قدرا على جمعه للأخذ بثأره ، وجمع علي تكين أيضا جيوشه ، وسيرها إليهم ، فانهزم عسكر علي تكين ، وكان قد ولد السلطان ألب أرسلان بن داود أول محرم سنة عشرين وأربعمائة قبل الحرب ، فتبركوا به ، وتيمنوا بطلعته ، وقيل في مولده غير ذلك .
فلما كان سنة إحدى وعشرين [ وأربعمائة ] قصد طغرلبك وداود ألب قرا الذي قتل يوسف ابن عمهما ، فقتلاه وأوقعا بطائفة من عسكر علي تكين ، فقتلا منها نحو ألف رجل ، فجمع علي تكين عسكره وقصدهم هو وأولاده ومن حمل السلاح من أصحابه ، وتبعهم من أهل البلاد خلق كثير ، فقصدوهم من كل جانب ، وأوقعوا بهم وقعة عظيمة قتل [ فيها ] كثير من عساكر السلجوقية ، وأخذت أموالهم وأولادهم ، وسبوا كثيرا من نسائهم وذراريهم ، فألجأتهم الضرورة إلى العبور إلى خراسان .
فلما عبروا جيحون كتب إليهم خوارزمشاه هارون بن التونتاش يستدعيهم ليتفقوا معه ، وتكون أيديهم واحدة . فسار طغرلبك وأخواه داود وبيغو إليه ، وخيموا بظاهر خوارزم سنة ست وعشرين [ وأربعمائة ] ووثقوا به ، واطمأنوا إليه ، فغدر بهم ، فوضع عليهم الأمير شاهملك ، فكبسهم ومعه عسكر من هارون ، فأكثر القتل فيهم والنهب والسبي ، وارتكب من الغدر خطة شنيعة ، فساروا عن خوارزم بجموعهم إلى مفازة نسا ، وقصدوا مرو في هذه السنة أيضا ، ولم يتعرضوا لأحد بشر ، وبقي أولادهم وذراريهم في الأسر .
وكان الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين هذه السنة بطبرستان قد ملكها ، كما ذكرناه ، فراسلوه وطلبوا منه الأمان ، وضمنوا أنهم يقصدون الطائفة التي تفسد في بلاده ، ويدفعونهم عنها ويقاتلونهم ، ويكونون من أعظم أعوانه عليهم وعلى غيرهم . فقبض على الرسل ، وجهز عسكرا جرارا إليهم مع إيلتغدي حاجبه ، وغيرهم من الأمراء الأكبر ، فساروا إليهم ، والتقوا عند نسا في شعبان من السنة ، واقتتلوا وعظم الأمر ، وانهزم السلجوقية وغنمت أموالهم ، فجرى بين عسكر مسعود منازعة في الغنيمة أدت إلى القتال .
واتفق في تلك الحال أن السلجوقية لما انهزموا قال لهم داود : إن العسكر الآن قد نزلوا واطمأنوا وأمنوا الطلب ، والرأي أن نقصدهم لعلنا نبلغ منهم غرضا . فعادوا فوصلوا إليهم وهم على تلك الحال من الاختلاف وقتال بعضهم بعضا ، فأوقعوا بهم وقتلوا منهم وأسروا ، واستردوا ما أخذوا من أموالهم ورجالهم ، وعاد المنهزمون من العسكر إلى الملك مسعود وهو بنيسابور ، فندم على رده طاعتهم ، وعلم أن هيبتهم قد تمكنت من قلوب عساكره ، وأنهم قد طمعوا بهذه الهزيمة ، وتجرءوا على قتال العساكر السلطانية بعد الخوف الشديد ، وخاف من أخوات هذه الحادثة ، فأرسل إليهم يتهددهم ويتوعدهم ، فقال طغرلبك لإمام صلاته : اكتب إلى السلطان قل اللهم ما الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير . ولا تزد على هذا .
فكتب ما قال ، فلما ورد الكتاب على مسعود أمر فكتب إليهم كتاب مملوء من المواعيد الجميلة ، وسير معه الخلع النفيسة ، وأمرهم بالرحيل إلى آمل الشط ، وهي مدينة على جيحون ، ونهاهم عن الشر والفساد ، وأقطع دهستان لداود ، ونسا لطغرلبك ، وفراوة لبيغو ، ولقب كل واحد منهم بالدهقان . فاستخفوا بالرسول والخلع وقالوا للرسول : لو علمنا أن السلطان يبقي علينا إذا قدر ، لأطعناه ، ولكنا نعلم أنه متى ظفر بنا أهلكنا لما عملناه وأسلفناه ، فنحن ل نطيعه ، ولا نثق به .
وأفسدوا ، ثم كفوا وتركوا ذلك ، فقالوا : إن كان لنا قدرة على الانتصاف من السلطان ، وإلا فلا حاجة بنا إلى إهلاك العالم ونهب أموالهم ، وأرسلوا إلى مسعود يخادعونه إظهار الطاعة له ، والكف عن الشر ، ويسألونه أن يطلق عمهم أرسلان بن سلجوق من الحبس ، فأجابهم إلى ذلك ، فأحضره عنده ببلخ ، وأمره بمراسلة بني أخيه بيغو وطغرلبك وداود يأمرهم بالاستقامة ، والكف عن الشر ، فأرسل إليهم رسولا يأمرهم بذلك ، وأرسل معه إشفى ، وأمره بتسليمه إليهم ، فلما وصل الرسول وأدى الرسالة وسلم إليهم الإشفى نفروا واستوحشوا ، وعادوا إلى أمرهم الأول في الغارة والشر ، فأعاده مسعود إلى محبسه ، وسار إلى غزنة ، فقصد السلجوقية بلخ ونيسابور وطوس وجوزجان ، ( على ما ذكرناه ) .
وأقام داود بمدينة مرو ، وانهزمت عساكر السلطان مسعود منهم مرة بعد مرة ، واستولى الرعب على أصحابه ، لاسيما مع بعده إلى غزنة ، فتوالت كتب نوابه وعماله إليه يستغيثون به ويشكون إليه ، ويذكرون ما يفعل السلجوقية في البلاد ، وهو لا يجيبهم ولا يتوجه إليهم ، وأعرض عن خراسان والسلجوقية ، واشتغل بأمور بلاد الهند . فلما اشتد أمرهم بخراسان وعظمت حالهم اجتمع وزراء مسعود وأرباب الرأي في دولته ، وقالوا له : إن قلة المبالاة بخراسان من أعظم سعادة السلجوقية ، وبها يملكو البلاد ، ويستقيم لهم الملك ، ونحن نعلم ، وكل عاقل ، أنهم إذا تركوا على هذه الحال استولوا على خراسان سريعا ، ثم ساروا منها إلى غزنة ، وحينئذ لا ينفعنا حركاتنا ولا نتمكن من البطالة والاشتغال باللعب واللهو والطرب .
فاستيقظ من رقدته ، وأبصر رشده بعد غفلته ، وجهز العساكر الكثيرة مع أكبر أمير عنده يعرف بسباشي ، وكان حاجبه ، وقد سيره قبل إلى الغز العراقية ، وقد تقدم ذكر ذلك ، وسير معه أميرا كبيرا اسمه مرداويج بن بشو .
وكان سباشي جبانا ، فأقام بهراة ونيسابور ، ثم أغار بغتة على مرو وبها داود ، فسار مجدا ، فوصل إليها في ثلاثة أيام ، فأصاب جيوشه ودوابه التعب والكلال ، فانهزم داود بين يديه ولحقه العسكر ، فحمل عليه صاحب جوزجان ، فقاتله داود ، فقتل صاحب جوزجان وانهزمت عساكره ، فعظم قتله على سباشي وكل من معه ، ووقعت عليهم الذلة ، وقويت نفوس السلجوقية وزاد طمعهم .
وعاد داود إلى مرو ، فأحسن السيرة في أهلها ، وخطب له فيها أول جمعة في رجب سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ، ولقب في الخطبة بملك الملوك . وسباشي يمادي الأيام ، ويرحل من منزل إلى منزل ، والسلجوقية يراوغونه مراوغة الثعلب ، فقيل : إنه كان يفعل ذلك جبنا وخورا ، وقيل : بل راسله السلجوقية واستمالوه ورغبوه ، فنفس عنهم ، وتراخى في تتبعهم . والله أعلم .
ولما طال مقام سباشي وعساكره والسلجوقية بخراسان ، والبلاد منهوبة ، والدماء مسفوكة ، قلت الميرة والأقوات على العساكر خاصة .
فأما السلجوقية فلا يبالون بذلك لأنهم يقنعون بالقليل ، فاضطر سباشي إلى مباشرة الحرب وترك المحاجزة ، فسار إلى داود ، وتقدم داود إليه ، فالتقوا في شعبان سنة ثمان وعشرين [ وأربعمائة ] على باب سرخس . ولداود منجم يقال له الصومعي ، فأشار على داود بالقتال ، وضمن له الظفر ، وأشهد على نفسه أنه إن أخطأ فدمه مباح له فاقتتل العسكران ، فلم يثبت عسكر سباشي وانهزموا أقبح هزيمة ، وساروا أخزى مسير إلى هراة ، فتبعهم داود وعسكره إلى طوس يأخذونهم باليد ، وكفوا عن القتل ، وغنموا أموالهم ، فكانت هذه الوقعة هي التي ملك السلجوقية بعدها خراسان ، ودخلوا قصبات البلاد ، فدخل طغرلبك نيسابور ، وسكن الشاذياخ ، وخطب له فيها في شعبان بالسلطان المعظم ، وفرقوا النواب في النواحي .
وسار داود إلى هراة ، ففارقها سباشي ومضى إلى غزنة ، فعاتبه مسعود وحجبه ، وقال له : ضيعت العساكر ، وطاولت الأيام حتى قوي أمر العدو وصفا لهم مشربهم ، وتمكن من البلاد ما أرادوا . فاعتذر بأن القوم تفرقوا ثلاث فرق ، كلما تبعت فرقة سارت بين يدي ، وخلفي الفريقان في البلاد يفعلون ما أرادوا ، فاضطر مسعود إلى المسير إلى خراسان ، فجمع العساكر وفرق فيهم الأموال العظيمة ، وسار عن غزنة في جيوش يضيق بها الفضاء ومعه من الفيلة عدد كثير ، فوصل إلى بلخ ، وقصده داود إليها أيضا ، ونزل قريبا منها ، فدخلها يوما جريدة ( في طائفة يسيرة ) على حين غفلة من العساكر ، فأخذ الفيل الكبير الذي على باب دار الملك مسعود ، وأخذ معه عدة جنائب ، فعظم قدره في النفوس ، وازداد العسكر هيبة له .
ثم سار مسعود من بلخ أول شهر رمضان سنة تسع وعشرين وأربعمائة ومعه مائة ألف فارس سوى الأتباع ، وسار على جوزجان ، فأخذ واليها الذي كان بها للسلجوقية ، فصلبه ، وسار منها فوصل إلى مرو الشاهجان ، وسار داود إلى سرخس ، واجتمع هو وأخواه طغرلبك وبيغو ، فأرسل مسعود إليهم رسلا في الصلح ، فسار في الجواب بيغو ، فأكرمه مسعود وخلع عليه ، وكان مضمون رسالته : إنا لا نثق بمصالحتك بعد ما فعلنا هذه الأفعال التي سخطتها ، كل فعل منها موبق مهلك . وآيسوه من الصلح ، فسار مسعود من مرو إلى هراة ، وقصد داود مرو ، فامتنع أهلها عليه ، فحصرها سبعة أشهر ، وضيق عليهم وألح في قتالهم ، فملكها .
فلما سمع مسعود هذا الخبر سقط في يده ، وسار من هراة إلى نيسابور ، ثم منها إلى سرخس ، وكلما تبع السلجوقية إلى مكان ساروا منه إلى غيره ، ولم يزل كذلك ، فأدركهم الشتاء ، فأقاموا بنيسابور ينتظرون الربيع ، فلما جاء الربيع كان الملك مسعود مشغولا بلهوه وشربه ، فتقضى الربيع والأمر كذلك ، فلما جاء الصيف عاتبه وزراؤه وخواصه على إهماله أمر عدوه ، فسار من نيسابور إلى مرو يطلب السلجوقية ، فدخلوا البرية ، فدخلها وراءهم مرحلتين والعسكر الذي له قد ضجروا من طول سفرهم وبيكارهم ، وسئموا الشد والترحل ، فإنهم كان لهم في السفر نحو ثلاث سنين ، بعضها مع سباشي ، وبعضها مع الملك مسعود ، فلما دخلوا البرية نزل منزلا قليل الماء ، والحر شديد ، فلم يكف الماء للسلطان وحواشيه .
وكان داود في معظم السلجوقية بإزائه ، وغيره من عشيرته مقابل ساقة عساكره ، يتخطفون من تخلف منهم . فاتفق لما يريده الله - تعالى - أن حواشي مسعود اختصموا هم جمع من العسكر على الماء وازدحموا ، وجرى بينهم فتنة ، حتى صار بعضهم يقاتل بعضا ، ( وبعضهم نهب بعضا ) فاستوحش لذلك أمر العسكر ، ومشى بعضهم إلى بعض في التخلي عن مسعود ، فعلم داود ما هم فيه من الاختلاف ، فتقدم إليهم وحمل عليهم وهم في ذلك التنازع والقتال والنهب ، فولوا منهزمين لا يلوي أول على آخر ، وكثر القتل فيهم ، والسلطان مسعود ووزيره يناديانهم ، ويأمرانهم بالعود فلا يرجعون ، وتمت الهزيمة على العسكر ، وثبت مسعود فقيل له : ما تنتظر ؟ قد فارقك أصحابك ، وأنت في بريةمهلكة ، وبين يديك عدو ، وخلفك عدو ، ولا وجه للمقام . فمضى منهزما ومعه نحو مائة فارس ، فتبعه فارس من السلجوقية فعطف عليه مسعود فقتله ، وصار لا يقف على شيء حتى أتى غرشستان .
وأما السلجوقية فإنهم غنموا من العسكر المسعودي ما لا يدخل تحت الإحصاء ، وقسمه داود على أصحابه ، وآثرهم على نفسه ، ونزل في سرادق مسعود وقعد على كرسيه ، ولم ينزل عسكره ثلاثة أيام عن ظهور دوابهم ، لا يفارقونها إلا لما لا بد لهم منه ، من مأكول ومشروب وغير ذلك ، خوفا من عود العسكر ، وأطلق الأسرى ، وأطلق خراج سنة كاملة .
وسار طغرلبك إلى نيسابور فملكها ، ودخل إليها آخر سنة إحدى وثلاثين [ وأربعمائة ] ( وأول سنة اثنتين وثلاثين ) ونهب أصحابه الناس ، فقيل عنه : إنه رأى لوزينجا فأكله وقال : هذا قطماج طيب إلا أنه لا ثوم فيه . ورأى الغز الكافور ( فظنوه ملحا ) وقالوا : هذا ملح مر ، ونقل عنهم أشياء من هذا كثير . وكان العيارون قد عظم ضررهم ، واشتد أمرهم ، وزادت البلية بهم على أهل نيسابور ، فهم ينهبون الأموال ، ويقتلون النفوس ، ويرتكبون الفروج الحرام ، ويفعلون كل مايريدونه ، لا يردعهم عن ذلك رادع ، ولا يزجرهم زاجر ، فلما دخل طغرلبك البلد خافه العيارون ، وكفوا عما كانوا يفعلون ، وسكن الناس واطمأنوا .
واستولى السلجوقية حينئذ على جميع البلاد ، فسار بيغو إلى هراة فدخلها ، وسار داود إلى بلخ وبها ألتونتاق الحاجب واليا عليها لمسعود ، فأرسل إليه داود يطلب منه تسليم البلد إليه ، ويعرفه عجز صاحبه عن نصرته ، فسجن ألتونتاق الرسل ، فنازله داود وحصر المدينة ، فأرسل ألتونتاق إلى مسعود وهو بغزنة يعرفه الحال وما هو فيه من ضيق الحصار ، فجهز مسعود العساكر الكثيرة وسيرها ، فجاءت طائفة منهم إلى الرخج وبها جمع من السلجوقية ، فقاتلوهم ، فانهزم السلجوقية وقتل منهم ثمانمائة رجل ، وأسر كثير ، وخلا ذلك الصقع منهم .
وسار طائفة منهم إلى هراة وبها بيغو ، فقاتلوه ودفعوه عنها ، ثم إن مسعودا سير ولده مودودا في عسكر كثير مددا لهذه العساكر ، فقتل مسعود وهو بخراسان على ما نذكره إن شاء الله - تعالى - فساروا عن غزنة سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة ، فلما قاربوا بلخ سير داود طائفة من عسكره ، فأوقعوا بطلائع مودود ، وانهزمت الطلائع وتبعهم عسكر داود ، فلما أحس به عسكر مودود رجعوا إلى ورائهم وأقاموا ، فلما سمع ألتونتاق صاحب بلخ الخبر أطاع داود ، وسلم إليه البلد ، ووطئ بساطه .