ذكر - الفتنة بين العامة ببغداذ وإحراق المشهد - على ساكنيه السلام
في هذه السنة في صفر تجددت الفتنة ببغداذ بين السنة والشيعة ، وعظمت أضعاف ما كانت قديما ، فكان الاتفاق الذي ذكرناه في السنة الماضية غير مأمون الانتقاض ، لما في الصدور من الإحن .
وكان سبب هذه الفتنة أن أهل الكرخ شرعوا في عمل باب السماكين ، وأهل القلائين في عمل ما بقي من باب مسعود ، ففرغ أهل الكرخ ، وعملوا أبراجا كتبوا عليها بالذهب : محمد وعلي خير البشر . وأنكر السنة ذلك وادعوا أن المكتوب : محمد وعلي خير البشر ، فمن رضي فقد شكر ، ومن أبى فقد كفر . وأنكر أهل الكرخ الزيادة وقالوا : ما تجاوزنا ما جرت به عادتنا فيما نكتبه على مساجدنا . فأرسل الخليفة القائم بأمر الله أبا تمام نقيب العباسيين ، ونقيب العلويين وهو عدنان بن الرضي ، لكشف الحرب وإنهائه ، فكتبا بتصديق قول الكرخيين ، فأمر حينئذ الخليفة ونواب الرحيم بكف القتال ، فلم يقبلوا ، وانتدب ابن المذهب القاضي والزهيري وغيرهما من الحنابلة أصحاب عبد الصمد [ أن ] يحمل العامة على الإغراق في الفتنة ، فأمسك نواب الملك الرحيم عن كفهم غيظا من رئيس الرؤساء لميله إلى الحنابلة ، ومنع هؤلاء السنة من حمل الماء من دجلة إلى الكرخ ، وكان نهر عيسى قد انفتح بثقه ، فعظم الأمر عليهم ، وانتدب جماعة منهم وقصدوا دجلة وحملوا الماء وجعلوه في الظروف ، وصبوا عليه ماء الورد ، ونادوا : الماء للسبيل . فأغروا بهم السنة . وتشدد رئيس الرؤساء على الشيعة ، فمحوا : خير البشر ، وكتبوا : عليهما السلام ، فقالت السنة : لا نرضى إلا أن يقلع الآجر الذي عليه محمد وعلي ، وأن لا يؤذن حي على خير العمل . وامتنع الشيعة من ذلك ، ودام القتال إلى ثالث ربيع الأول ، وقتل فيه رجل هاشمي من السنة ، فحمله أهله على نعش ، وطافوا به في الحربية وباب البصرة وسائر محال السنة ، واستنفروا الناس للأخذ بثأره ، ثم دفنوه عند أحمد بن حنبل ، وقد اجتمع معهم خلق كثير أضعاف ما تقدم .
فلما رجعوا من دفنه قصدوا مشهد باب التبن فأغلق بابه ، فنقبوا في سوره وتهددوا البواب ، فخافهم وفتح الباب ، فدخلوا ونهبوا ما في المشهد من قناديل ومحاريب ذهب وفضة وستور وغير ذلك ، ونهبوا ما ( في الترب والدور ) وأدركهم الليل فعادوا .
فلما كان الغد كثر الجمع ، فقصدوا المشهد ، وأحرقوا جميع الترب والآزاج ، واحترق ضريح موسى ، وضريح ابن ابنه محمد بن علي ، والجوار ، والقبتان الساج اللتان عليهما ، واحترق ما يقابلهما ويجاورهما من قبور ملوك بني بويه معز الدولة ، وجلال الدولة ، ومن قبور الوزراء والرؤساء ، وقبر جعفر بن أبي المنصور ، وقبر الأمير محمد بن الرشيد ، وقبر أمه زبيدة ، وجرى من الأمر الفظيع ما لم يجر في الدنيا مثله .
فلما كان الغد خامس الشهر عادوا وحفروا قبر موسى بن جعفر ومحمد بن علي ، لينقلوهما إلى مقبرة أحمد بن حنبل ، فحال الهدم بينهم وبين معرفة القبر ، فجاء الحفر إلى جانبه .
وسمع أبو تمام نقيب العباسيين وغيره من الهاشميين السنة الخبر ، فجاءوا ومنعوا عن ذلك ، وقصد أهل الكرخ إلى خان الفقهاء ( الحنفيين فنهبوه ، وقتلوا مدرس الحنفية أبا سعد السرخسي ، وأحرقوا الخان ودور الفقهاء ) ، وتعدت الفتنة إلى الجانب الشرقي ، فاقتتل أهل باب الطاق وسوق بج والأساكفة وغيرهم .
ولما انتهى خبر إحراق المشهد إلى نور الدولة دبيس بن مزيد عظم عليه واشتد وبلغ منه كل مبلغ ، لأنه وأهل بيته وسائر أعماله من النيل وتلك الولاية كلهم شيعة ، فقطعت في أعماله خطبة الإمام القائم بأمر الله ، فروسل في ذلك وعوتب ، فاعتذر بأن أهل ولايته شيعة ، واتفقوا على ذلك ، فلم يمكنه أن يشق عليهم ، كما أن الخليفة لم يمكنه كف السفهاء الذين فعلوا بالمشهد ما فعلوا ، وأعاد الخطبة إلى حالها . وفي يوم الجمعة لعشر بقين من ربيع الآخر: خطب بجامع براثا وأسقط حي على خير العمل ودق الخطيب المنبر وقد كانوا يمنعون منه وذكر العباس في خطبته .