الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            وفي هذه السنة: لقي السلطان طغرلبك الخليفة القائم بالله ،  وكان السلطان يسأل في ذلك إلى أن تقرر كون هذا في ذي القعدة ، فجلس رئيس الرؤساء في صدر رواق صحن السلام ، وبين يديه الحجاب ، ثم استدعى نقيبي العباسيين والعلويين ، وقاضي القضاة ، والشهود ، فلما تضاحى النهار كتب إلى السلطان طغرلبك بما مضمونه الإذن عن أمير المؤمنين في الحضور ، فأنفذ ذلك مع ابني المأمون الهاشميين ، ومن خدم الخواص خادمين ، ومن الحجاب حاجبين ، ولما وقف السلطان على ذلك نزل في الطيار ، وكان قد زين ، وأنفذ إليه ، فانحدر ومعه [عدة] زبازب سميريات ، وعلى الظهر فيلان يسيران بإزاء الطيار ، فدخل الدار والأولاد والأمراء والملوك يمشون بين يديه ، ونحو خمسمائة غلام ترك ، فلما وصل إلى باب دهليز صحن السلام وقف طويلا على فرسه حتى فتح له ، ونزل فدخل إلى الصحن ، ومشى وخرج رئيس الرؤساء إلى وسطه فتلقاه ، فدخل على أمير المؤمنين وهو على سرير عال من الأرض نحو سبعة أذرع ، عليه قميص وعمامة مصمتان ، وعلى منكبه بردة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبيده القضيب ، فحين شاهد السلطان أمير المؤمنين قبل الأرض دفعات ، فلما دنا من مجلس الخليفة صعد رئيس الرؤساء إلى سرير لطيف دون ذلك السرير بنحو قامة ، وقال له أمير المؤمنين: أصعد ركن الدين إليك ، وليكن معه محمد بن منصور الكندري . فأصعدهما إليه ، وتقدم ، وطرح كرسي جلس عليه السلطان ، وقال [أمير المؤمنين] لرئيس الرؤساء:

            قل له يا علي: أمير المؤمنين حامد لسعيك ، شاكر لفضلك ، آنس بقربك ، زائد الشغف بك ، وقد ولاك جميع ما ولاه الله تعالى من بلاده ، ورد إليك فيه مراعاة عباده ، فاتق الله فيما ولاك ، واعرف نعمته عليك ، وعبدك في ذلك ، واجتهد في عمارة البلاد ، ومصالح العباد ، ونشر العدل ، وكف الظلم .

            ففسر له عميد الملك القول ، فقام وقبل الأرض ، وقال: أنا خادم أمير المؤمنين وعبده ، ومتصرف على أمره ونهيه ، ومتشرف بما أهلني له واستخدمني فيه ، ومن الله تعالى استهداء المعونة والتوفيق .

            واستأذن أمير المؤمنين في أن ينهض ويحمل إلى حيث تفاض الخلع عليه ، فنزل إلى بيت في جانب البهو ، ودخل معه عميد الملك ، فألبس الخلع وهي سبع خلع في زي واحد ، وترك التاج على رأسه ، وعاد فجلس بين يدي أمير المؤمنين ، ورام تقبيل الأرض فلم يتمكن لأجل التاج ، وأخرج أمير المؤمنين سيفا من بين يديه فقلده إياه ، وخاطبه بملك المشرق والمغرب ، واستدعى ألوية وكانت ثلاثة: اثنان خمرية بكتائب صفر ، وآخر بكتائب مذهبة سمي لواء الحمد ، فعقد منهم أمير المؤمنين لواء الحمد بيده ، وأحضر العهد فقال . يسلم إليه ، ويقال له: يقرأ عليك عهدنا إليك ، ويفسر لك لتعمل بموجبه ، وبمقتضى ما أمرنا به ، خار الله لنا ولك وللمسلمين فيما فعلنا وأبرمناه ، آمرك بما أمرك الله به ، وأنهاك عما نهاك الله عنه ، وهذا منصور بن أحمد نائبنا لديك ، وصاحبنا وخليفتنا عندك ، ووديعتنا ، فاحتفظ به وراعه ، فإنه الثقة السديد والأمين الرشيد ، وانهض على اسم الله تعالى مصاحبا محروسا .

            وكان من السلطان طغرلبك في كل فصل يفصل له من الشكر وتقبيل الأرض ما أبان عن حسن طاعته ، وصادق محبته ، وسأل مصافحته باليد الشريفة فأعطاه أمير المؤمنين يده دفعتين قبل لبسه الخلع وعند انصرافه من حضرته ، وهو يقبلها ويضعها على عينيه ، ودخل جميع من في الدار من الأكابر والأصاغر إلى المكان فشاهدوا تلك الحال ، وخرج إلى صحن دار السلام ، فسار والخيل والألوية أمامه ، ولما خرجت الألوية رفعت من سطح صحن السلام وحطت على روشن بيت النوبة ، ومنه إلى الطيار؛ لئلا تخرج في الأبواب فتنكس ، ومضى إليه رئيس الرؤساء في يوم الاثنين ، وهنأه عن الخليفة ، وقال له: إن أمير المؤمنين يأمرك أن تجلس للهناء بما أفاضه عليك من نعمة ، وولاك من خدمته ، وحمل إليه خلعة ، فقام وقبل الأرض وقال: قد أهلني أمير المؤمنين لرتبة يستنفد شكري ويستعبدني بما بقي من عمري ، وأتاه بسدة مذهبة ، وقال له: أمير المؤمنين يأمرك أن تلبس هذا التشريف ، وتجلس في هذا الدست ، وتأذن للناس ليشهدوا ما تواتر من إنعامه ، فيبتهج الولي ، وينقمع العدو .

            وحمل السلطان في مقابلة ذلك خمسين غلاما أتراكا على خيول بسيوف ومناطق ، وعشرين رأسا من الخيل ، وخمسين ألف دينار ، وخمسين قطعة ثياب .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية