ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
3383 - عبد الواحد بن علي بن برهان ، أبو القاسم النحوي .
كان مجودا في النحو ، وكان له أخلاق شرسة ولم يلبس سراويل قط ، ولا قبل عطاء أحد ، وكان لا يغطي رأسه .
وذكر محمد بن عبد الملك قال: كان ابن برهان يميل إلى المرد الصباح ويقبلهم من غير ريبة .
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: وقوله: "من غير ريبة" أقبح من التقبيل؛ لأن النظر إليهم ممنوع منه إذا كان بشهوة ، فهل يكون التقبيل بغير شهوة .
قال ابن عقيل: وكان يختار مذهب المرجئة المعتزلة ، وينفي خلود الكفار ، ويقول: قوله: خالدين فيها أبدا [33: 65] أي: أبدا من الآباد ، وما لا غاية له لا يجمع ولا يقبل التثنية ، فيقال: أبدان ، وآباد . ويقول: دوام العقاب في حق من لا يجوز عليه التشفي لا وجه مع ما وصف به نفسه من الرحمة ، وهو إنما يوجد من الشاهد لما يعتري الغضبان من غليان دم قلبه طلبا للانتقام ، وهذا مستحيل في حقه سبحانه وتعالى .
قال ابن عقيل: هذا كلام يرده على قائله جميع ما ذكره ، وذلك أنه أخذ صفات البارئ في صفات الشاهد ، وذكر أن المثير للغضب ما يدخل على قلب الغضبان من غليان الدم؛ طلبا للانتقام ، وأوجب بذلك منع دوام العقاب حيث لا يوجد في حقه [سبحانه] التشفي ، والشاهد يرد عليه ما ذكره؛ لأن المانع من التشفي عليه الرأفة والرحمة ، وكلاهما رقة طبع ، وليس البارئ بهذا الوصف ، وليس الرحمة والغضب من أوصاف المخلوقين بشيء ، وهذا الذي ذكره من عدم التشفي كما يمنع الدوام يمنع ابتداء العقوبة إذا كان المحيل للدوام من عدم التشفي ، وفورة الغضب ، وغليان الدم ، كما يمنع دخوله في الدوام يمنع دخوله عليه ، ووصفه به ، فينبغي بهذه الطريقة أن يمنع أصل الوعيد ، ويحيله في حقه [سبحانه] كسائر المستحيلات عليه ، لا يختلف نفس وجودها ودوامها ، فلا أفسد اعتقادا ممن أخذ صفات الله تعالى من صفاتنا ، وقاس أفعاله على أفعالنا ، والعقل أوجب قطعه من الشاهد ، فإنه قادر أن يجعل القوت من النبات ، فجعله من الحيوان ينال بعد ألمه ، فأي أفعاله ينطبق على أفعالنا؟! وأي أوصافه تلحق بأوصافنا؟!
قال ابن الجوزي: وكان ابن برهان يقدح في أصحاب أحمد ، ومن يخالف اعتقاده اعتقاد المسلمين؛ إذ كلهم أجمعوا على خلود الكفار في النار ، ولا ينبغي أن يؤثر قدحه في أحد .
توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة وقد أناف على الثمانين .
وممن توفي فيها من الأعيان :
ابن حزم الظاهري
هو الإمام الحافظ العلامة أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد مولى يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي ، أصل جده يزيد هذا فارسي ، أسلم وخلف المذكور ، أول من دخل منهم بلاد المغرب ، وكانت بلدهم قرطبة فولد ابن حزم هذا بها في سلخ رمضان ، من سنة أربع وثمانين وثلاثمائة ، فقرأ القرآن ، واشتغل بالعلوم الشرعية ، فبرز فيها ، وفاق أهل زمانه ، وصنف الكتب المفيدة المشهورة ، يقال : إنه جمع أربعمائة مجلدة من تصنيفه في قريب من ثمانين ألف ورقة .
وكان أديبا طبيبا شاعرا فصيحا ، له في الطب والمنطق اليد العليا ، وكان من بيت وزارة ورياسة ووجاهة ومال وثروة ، وكان مصاحبا للشيخ أبي عمر بن عبد البر النمري ، وكان مناوئا للشيخ أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي ، وقد جرت بينهما مناظرات يطول شرحها .
وكان أبو محمد بن حزم كثير الوقيعة في العلماء بلسانه وقلمه أيضا ، فأورثه ذلك حقدا في قلوب أهل زمانه ، وما زالوا به حتى بغضوه إلى ملوكهم ، فطردوه عن بلاده ، حتى كانت وفاته في قرية له في ثاني شعبان من هذه السنة وقد جاوز السبعين .
والعجب كل العجب أنه كان ظاهريا في الفروع ، لا يقول بشيء من الأقيسة ، لا الجلية ولا غيرها ، وهذا الذي وضعه عند العلماء ، وأدخل عليه خطأ كبيرا في نظره وتصرفه ، وكان مع هذا من أشد الناس تأويلا في باب الأصول ; لأنه كان قد تضلع أولا من علم المنطق ، أخذه عن محمد بن الحسن المذحجي الكناني القرطبي ، ذكره ابن ماكولا وابن خلكان ، رحمه الله تعالى .