الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            الفتنة بين أهل بغداذ ثانية  

            وفي سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، في جمادى الأولى ، كثرت الفتن ببغداذ بين أهل الكرخ وغيرها من المحال ، وقتل بينهم عدد كثير ، واستولى أهل المحال على قطعة كبيرة من نهر الدجاج ، فنهبوها ، وأحرقوها ، فنزل شحنة بغداذ ، وهو خمارتكين النائب عن كوهرائين ، على دجلة في خيله ورجله ، ليكف الناس عن الفتنة ، فلم ينتهوا ، وكان أهل الكرخ يجرون عليه وعلى أصحابه الجرايات والإقامات .

            وفي بعض الأيام وصل أهل البصرة إلى سويقة غالب فخرج من أهل الكرخ من لم تجر عادته بالقتال ، فقاتلوهم حتى كشفوهم . وركب حاجب الخليفة وخدمه ، والقضاة: أبو الفرج بن السيبي ، ويعقوب البرزبيني ، وأبو منصور ابن الصياغ ، والشيوخ: أبو الوفاء بن عقيل ، وأبو الخطاب ، وأبو جعفر بن الخرقي المحتسب ، وعبروا إلى الشحنة وقرءوا منشورا بالكرخ من الديوان وفيه: قد حكي عنكم أمور فيجب أن نأخذ علماءكم على أيدي سفهائكم ، وأن يدينوا بمذهب أهل السنة ، فأذعنوا بالطاعة .

            فبينا هم على ذلك جاء الصارخ من نهر الدجاج: الحقونا . ونصب أهل الكرخ رايتين على باب المساكين ، وكتبوا على مساجدهم: خير الناس بعد رسول الله أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي .

            وفي غد يوم القتال نهب أهل الكرخ شارع ابن أبي عوف ، وكان في جملة ما نهب دار أبي الفضل بن خيرون ، فقصد الديوان مستنفرا ومعه الناس ، ورفع العامة الصلبان على القصب ، وتهجموا على الوزير أبي شجاع في حجرته [من الديوان] وكثروا من الكلام الشنيع ، ولم يصل حاجب الباب في جامع القصر إشفاقا من العامة ، وكان قد مات يومئذ هاشمي من أهل باب الأزج بنشابة وقعت فيه ، فقتل العامة علويا ورموه في خربة الحمام ، وزاد أمر الفتنة وأمر الخليفة بمكاتبة سيف الدولة أبي الحسن صدقة بن مزيد بإنفاذ جند ، ففعل وخلع عليهم ، وجعل عليهم ، أبو الحسن الفاسي ، فنقض دور الذين قتلوا العلوي ، وحلق شعور من ليس بشريف ولا جندي ، وقتل قوم ، ونفي قوم ، فسكنت الفتنة .

            قال المصنف: ونقلت من خط أبى الوفاء بن عقيل قال: عظمت الفتنة الجارية بين السنة وأهل الكرخ ، فقتل فيها نحو مائتي قتيل ، ودامت شهورا من سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة ، وانقهر الشحنة ، وأتحش السلطان ، وصار العوام يتبع بعضهم بعضا في الطرقات والسفن ، فيقتل القوي الضعيف ، ويأخذ ماله ، وكان الشباب قد أحدثوا الشعور والجمم ، وحملوا السلاح ، وعملوا الدروع ، ورموا عن القسي بالنشاب والنبل ، وسب أهل الكرخ الصحابة وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم على السطوح ، [وارتفعوا إلى سب النبي صلى الله عليه وسلم] ، ولم أجد من سكان الكرخ من الفقهاء والصلحاء من غضب ولا انزعج عن مساكنتهم ، فنفر المقتدي إمام العصر نفرة قبض فيها على العوام ، وأركب الأتراك ، وألبس الأجناد الأسلحة ، وحلق الجمم والكلالجات ، وضرب بالسياط ، وحبسهم في البيوت تحت السقوف ، وكان شهر آب ، فكثر الكلام على السلطان وقال العوام:

            هلك الدين ماتت السنة ، ونصبت البدعة ، ونرى أن الله ما ينصر إلا الرافضة فنرتد عن الإسلام .

            قال ابن عقيل: فخرجت إلى المسجد وقلت: بلغني أن أقواما يتسمون بالإسلام والسنة قد غضبوا على الله وهجروا شريعته ، وعزموا على الارتداد وقد ارتدوا ، فإن المسلمين أجمعوا على أن العزم على الكفر كفر ، فلقد بلغ الشيطان منهم كل مبلغ حيث دلس عليهم نفوسهم ، وغطى عيوبهم ، وأراهم أن إزالة النصرة عنهم مع استحقاقهم لها ، ولم يكشف عن عوار أديانهم حيث صب عليهم النعم صبا ، وأرخص أسعارهم ، وأمن ديارهم ، وجعل سلطانهم ، رحيما لطيفا ، وجعل لهم وزيرا صالحا يجتهد في إخراج الحكومات المشتبهة إلى الفقهاء ليخلص دينه من التبعات ، ويأخذ الإجماع في أكثر العبادات ، ولا يتكبر ولا يحتجب ، فأمرجوا في المعاصي ، ثم انتقلوا إلى بناء العقود بالطبول ، ولهج منهم قوم بسب ، فلما نهض السلطان بعصبية دينية أو سياسة ، وقد استحقوا قطع الرءوس ، وتخليد الحبوس ، فقعد الحمقى في مأتم النياحة يقولون:

            هل رأيتم في الزمن الماضي مثل ما جرى على أهل السنة في هذه الدولة ، طاب والله الانتقال عن الإسلام لو كان ما نحن فيه حقا لنصرة الله . وحملوا الصلبان في حلوقهم ، ودعوا بشعار الرفض ، وقالوا: لا دين إلا دين أهل الكرخ ، وهل كانوا على الدين فيخرجوا ، وهل الدين النطق باللسان من غير تحقيق معتقد ، وأس المعتقد من قوم تناهوا في العصيان والشرود عن الشرع ، وسفكوا الدماء ، فلما فرضوا بعذاب ردعا لهم ليقلعوا أنكروا وتسخطوا ، فأردتم أن يتبع الحق أهواءكم ويسكت السلاطين عن قبيح أفعالكم ، حتى تفانون بالخصومة والمحاربة ، فلا في أيام السعة والدعة شكرتم النعم ، ولا في أيام التأديب سلمتم للحكيم الحكم ، فليتكم لما فسدت دنياكم أبقت بقية من أمر أديانكم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية