الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            خلافة المستظهر بالله   [487 - 512 هـ]

            لما توفي المقتدي بأمر الله ، أحضر ولده أبو العباس أحمد المستظهر بالله ، وله من العمر ست عشرة سنة وشهران فبويع له بالخلافة ، فكان أول من بايعه الوزير أبو منصور ابن جهير ، ثم أخذت البيعة له من الملك ركن الدولة بركياروق ابن السلطان ملكشاه ثم من بقية الأمراء والرؤساء ، وصلى على الخليفة الأمراء والوزراء ومن العلماء حضر الغزالي والشاشي وابن عقيل وبايعوه يوم ذلك وقد كان المستظهر بالله كريم الأخلاق حافظا للقرآن فصيحا بليغا شاعرا مطبقا ، ومن لطيف شعره قوله :


            أذاب حر الجوى في القلب ما خمدا يوما مددت على رسم الوداع يدا     فكيف أسلك نهج الاصطبار وقد
            أرى طرائق في مهوى الهوى قددا     قد أخلف الوعد بدر قد شغفت به
            من بعد ما قد وفى دهرا بما وعدا     إن كنت أنقض عهد الحب في خلدي
            من بعد هذا فلا عاينته أبدا

            قال ابن الأثير : (كان لين الجانب، كريم الأخلاق، يسارع في أعمال البر، حسن الخظ، جيد التوقيعات، لا يقاربه فيها أحد، يدل على فضل غزير، وعلم واسع، سمحا وجوادا، محبا للعلماء والصلحاء، ولم تصف له الخلافة، بل كانت أيامه مضطربة كثيرة الحروب). ولما بويع المستظهر استوزر أبا منصور ابن جهير ، وقال له: الأمور مفوضة إليك والتعويل فيها عليك ، فدبرها بما تراه . فقال: هذا وقت صعب ، وقد اجتمعت العساكر ببغداد مع هذا السلطان الذي عندنا ، ولا بد من بذل الأموال التي تستدعي إخلاصهم وطاعتهم . فقال له: الخزائن بحكمك فتصرف فيها عن غير استنجاز ولا مراجعة ولا محاسبة . فقال: ينبغي كتمان هذه الحال إلى أن يصلح نشرها ، وأنا أستأذن في إطلاع ابني الموصلايا على الحال؛ فهما كاتبا الحضرة . فقال المستظهر: قد أذن في ذلك ، وفي جميع ما تراه .

            فخرج إلى الديوان واستدعى ابني الموصلايا وقال لهما: قد حدث حادثة عظيمة . وتفاوضوا فيما يقع عليه العمل . فركب عميد الدولة باكرا إلى السلطان بركيارق يوم السبت وهو متشجع فخلع عليه ، وعاد إلى بيت النوبة فأنهى الحال إلى المستظهر ، وجرى الأمر في ذلك على أسد نظام إلا أن الإرجاف انتشر في هذا اليوم ، ثم تكاثر في يوم الأحد ، ثم زاد يوم الاثنين ، فوقع الوزير إلى أرباب المناصب بالحضور ، فحضر طراد بن محمد من باب البصرة في الزمرة العباسية مظهرين شعار المصيبة ، وجاء نقيب الطالبيين المعمر على مثل ذلك في زمرة العلوية ، فضج الناس بالبكاء ، ثم أظهر موت المقتدي بعد ثلاثة أيام ، وذلك يوم الثلاثاء ثامن عشر المحرم ، فأخرج في تابوت ، وصلى عليه المستظهر ،

            وكان المستظهر كريما ، فحكى أبو الحسن المخزني قال: أخرج إلينا من الدار أربع عشرة جبة طلساء ، قد تدنست أزياقها ، تزيد قيمتها على خمسمائة دينار ، فسلمها إلى مطري ، وظننت أن كتاب المخزن قد أثبتوها ، ولم تطلب مني ولا ذكرت بها ، واتصلت أشغالي ، ومضى على هذا حدود من ثلاث سنين ، فخرج إلينا من طلب الجباب ، فأنكرت الحال ، وقلت: متى كان هذا؟ وفي أي وقت؟ فذكروني الوقت ومن جاء بها ، فتذكرت وما علمت إلى من سلمتها ، فاستدعيت كل مطري جرت عادته بخدمة المخزن ، فحضروا وفيهم الذي سلمتها إليه ، فتأملته وقد استحال لونه ، فقلت له: أين الجباب؟ فلم ينطق ، فعاودته فسكت ، فأمرت بضربه فقال: أصدقك ، لما أصلحت الجباب لم تلتمس مني ، وبقيت سنة وعملت بعدها أعمالا كثيرة للمخزن ، وما ذكرت لي ، فعلمت أنها قد نسيت ، وكان علي دين ، فبعت واحدة ، ثم مضى زمان فلم تطلب فبعت أخرى ، ثم أخرى ، إلى أن بقي عندي منها ست جباب ، فبعتها جملة وجهزت ابنة لي ، والله ما في يدي منها خيط ، ولا من ثمنها حبة ، وما لي سوى ثمن دويرة البنت والرحل الذي جهزتها به .

            فقلت: ويلك ، خاطرت بدمي ، وعرضتني للتهمة ، ودخلت على أبي القاسم بن الحصين صاحب المخزن ، فعرفته ، فتقدم بتقييده وحمله إلى الحبس ، ثم طولع المستظهر بالحال ، وترقب أن يتقدم بقطع يده؛ إظهارا للسياسة ، فوقع أن أمر بالجواب:

            كانت المقابلة لمن فرضه الحفظ إذ فرط ، فالذنب للراعي إذ نعس لا للذئب إذ اختلس ، والذي انصرف فيه ثمن الثياب أنفع لأربابها منها ، فليخل سبيل هذا ، ولا يعرض لدار بنته ورحلها ، [والله المعين] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية