الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر عدة حوادث

            في سنة إحدى وخمسمائة، في شعبان ، أطلق السلطان محمد الضرائب والمكوس ، ودار البيع ، والاجتيازات ، وغير ذلك مما يناسبه بالعراق ، وكتبت به الألواح ، وجعلت في الأسواق .

            وفيها ، في شهر رمضان ، ولي القاضي أبو العباس بن الرطبي الحسبة ببغداذ .

            وفيه أيضا عزل الخليفة وزيره مجد الدين بن المطلب برسالة من السلطان بذلك ، ثم أعيد إلى الوزارة بإذن السلطان ، وشرطه عليه شروطا منها : العدل وحسن السيرة ، وأن لا يستعمل أحدا من أهل الذمة .

            وفيها عاد أصبهبذ صباوة من دمشق ، وكان هرب عند قتل إياز ، فلما قدم أكرمه السلطان ، وأقطعه رحبة مالك بن طوق .

            وفيها ، سابع شوال ، خرج السلطان إلى ظاهر بغداذ ، عازما على العود إلى أصبهان ، وكان مقامه هذه المرة خمسة أشهر وسبعة عشر يوما .

            وفيها ، في ذي الحجة ، احترقت خرابة ابن جردة ، فهلك فيها كثير من الناس ، وأما الأمتعة ، والأموال ، وأثاث البيوت ، فهلك ما لا حد عليه ، وخلص خلق بنقب نقبوه في سور المحلة إلى مقبرة باب أبرز ، وكان بها جماعة بها من اليهود ، فلم ينقلوا شيئا لتمسكهم بسبتهم ، وكان بعض أهله قد عبروا إلى الجانب الغربي للفرجة ، على عادتهم في السبت الذي يلي العيد ، فعادوا فوجدوا بيوتهم قد خربت ، وأهلها قد احترقوا ، وأموالهم قد هلكت .

            ثم تبع حريق في عدة أماكن منها : درب القيار ، وقراح ابن رزين ، فارتاع الناس لذلك ، وبطلوا معايشهم ، وأقاموا ليلا ونهارا يحرسون بيوتهم في الدروب ، وعلى السطوح ، وجعلوا عندهم الماء المعد لإطفاء النار ، فظهر أن سبب هذا الحريق أن جارية أحبت رجلا ، فوافقته على المبيت عندها في دار مولاها سرا ، وأعدت له ما يسرقه إذا خرج ، ويأخذها هي أيضا معه ، فلما أخذها طرحا النار في الدار ، فخرجا ، فأظهر الله عليهما ، وعجل الفضيحة لهما ، فأخذا وحبسا .

            وفيها جمع بغدوين ملك الفرنج عسكره وقصد مدينة صور وحصرها ، وأمر ببناء حصن عندها ، على تل المعشوقة ، وأقام شهرا محاصرا لها ، فصانعه واليها على سبعة آلاف دينار ، فأخذها ورحل عن المدينة .

            وقصد مدينة صيدا ، فحصرها برا وبحرا ونصب عليها البرج الخشب ، ووصل الأسطول المصري في الدفع عنها ، والحماية لمن فيها ، فقاتلهم أسطول الفرنج ، فظهر المسلمون عليهم ، فاتصل بالفرنج مسير عسكر دمشق نجدة لأهل صيدا ، فرحلوا عنها بغير فائدة .

            وفيها ظهر كوكب عظيم له ذوائب ، فبقي ليالي كثيرة ثم غاب . وفيها جدد الخليفة الخلع على وزيره أبي المعالي هبة الله بن محمد بن المطلب وأكرمه وعظمه .

            قال ابن الجوزي : وظهر في هذه السنة صبية عمياء تتكلم على أسرار الناس ، وبالغ الناس في الحيل ، ليعلموا حالها فلم يعلموا ، قال ابن عقيل : وأشكل أمرها على العلماء والخواص والعوام ، حتى إنها كانت تسأل عن نقوش الخواتم المقلوبة الصعبة ، وعن أنواع الفصوص وصفات الأشخاص ، وما في داخل البنادق من الشمع والطين والحب المختلف والخرز ، وبالغ أحدهم حتى ترك يده على ذكره فقيل لها : ما الذي في يده فقالت : يحمله إلى أهله وعياله . وثبت بالتواتر أن جميع ما يتكلم به أبوها في السؤال لها: "ما في يد فلان؟ وما الذي قد خبأه هذا الرجل؟" فتقول في ذلك تفاصيل لا يدركها البصر ، فاستحال أن يكون بينها وبين أبيها ترجمة لأمور مختلفة .

            قال ابن عقيل: ليس في هذا إلا أنه خصيصة من الله سبحانه كخواص النبات والأحجار فخصت هذه بإجراء ما يجري على لسانها من غير اطلاع على البواطن .

            قال المصنف رحمه الله: وقد حكى إبراهيم بن الفراء أنه أخذ شيئا يشبه الحنطة وليس بحنطة فأخطأت هذه المرة في حزره . وفي ربيع الآخر: دخل السلطان محمد إلى بغداد واصطاد في طريقه صيدا كثيرا ، وبعث أربع جمازات عليها أربعون ظبيا هدية إلى دار الخلافة ، وكان على الظباء وسم السلطان جلال الدولة ملك شاه فإنه كان يصيد الغزلان فيسمها ويطلقها .

            ومضى الوزير أبو المعالي في الموكب لخدمة السلطان ، وحمل معه شيئا من ملابس الخليفة ، وأخرج مجلدا بخط الخليفة يشتمل على دعاء رواه العباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام السلطان فدعا وشكر هذا الاهتمام ، وانصرف الوزير وصاحب المخزن إلى دار نظام الملك وقد كان حاضرا أداء الرسالة إلى السلطان ، لكنه سبق إلى داره ، فأدى الوزير رسالة عن الخليفة تتضمن مدح بيته وسلفه ، فقام وقبل الأرض ودعا وشكر ، وخرج السلطان إلى مشهد أبي حنيفة ، فدخل فاجتمع إليه الفقهاء ، فقال: هذا يوم قد انفردت فيه مع الله تعالى فخلوا بيني وبين المكان ، فصعدوا إلى أعاليه ، فأمر غلمانه بغلق الأبواب ، وأن لا يمكنوا الأمراء من الدخول ، وأقام يصلي ويدعو ويخشع ، وأعطاهم خمسمائة دينار ، وقال: اصرفوا هذه في مصالحكم وادعوا لي .

            ومرض نحو عشرة من غلمانه الصغار ، فبعث بهم المتولي لأمورهم إلى المارستان ، فلما علم بعث مائة دينار فصرفت في مصالح المكان ، وخرج يوما فرأى الفقهاء حول داره وهم نحو من أربعمائة ، فأمر بكسوتهم جميعا ، وحملت إليه قسي بندق فلما رآها قال: قد ذكرت بها شيخا من الأتراك قد تعطل فأتوه به فأعطاه ثلاثين دينارا ، وكان أصحابه لا يظلمون أحدا ولا يتعرضون بأذى ، ولقد جاء بعض الصبيان الأتراك إلى بعض البيادر فقال: بيعوني تبنا ، فقالوا: التبن عندنا مبذول للصادر والوارد فخذ منه ما أحببت ، فأبى ، وقال: ما كنت لأبيع رأسي بمخلاة تبن فإن أخذتم ثمن ذلك وإلا انصرفت ، فباعوه بما طلب ، ثم كثر الفساد فعاثوا وصعب ضبطهم .

            [عزل مهذب الدولة عن حجبة الباب]  

            وفي يوم الفطر: عزل مهذب الدولة أبو جعفر ابن الدامغاني عن حجبة الباب ، واستنيب أبو العز المؤيدي . وظهر على جارية قوم أحبت رجلا فوافقته على المبيت في دار مولاها مستترا ، وعول بأن يأخذ زنفليجة كانت هناك ، فلما أخذها طرحا النار وخرجا ، فأظهر الله تعالى أمرهما فافتضحا .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية