ذكر عدة حوادث
في سنة إحدى وخمسمائة، في شعبان ، أطلق السلطان محمد الضرائب والمكوس ، ودار البيع ، والاجتيازات ، وغير ذلك مما يناسبه بالعراق ، وكتبت به الألواح ، وجعلت في الأسواق .
وفيها ، في شهر رمضان ، ولي القاضي أبو العباس بن الرطبي الحسبة ببغداذ .
وفيه أيضا عزل الخليفة وزيره مجد الدين بن المطلب برسالة من السلطان بذلك ، ثم أعيد إلى الوزارة بإذن السلطان ، وشرطه عليه شروطا منها : العدل وحسن السيرة ، وأن لا يستعمل أحدا من أهل الذمة .
وفيها عاد أصبهبذ صباوة من دمشق ، وكان هرب عند قتل إياز ، فلما قدم أكرمه السلطان ، وأقطعه رحبة مالك بن طوق .
وفيها ، سابع شوال ، خرج السلطان إلى ظاهر بغداذ ، عازما على العود إلى أصبهان ، وكان مقامه هذه المرة خمسة أشهر وسبعة عشر يوما .
وفيها ، في ذي الحجة ، احترقت خرابة ابن جردة ، فهلك فيها كثير من الناس ، وأما الأمتعة ، والأموال ، وأثاث البيوت ، فهلك ما لا حد عليه ، وخلص خلق بنقب نقبوه في سور المحلة إلى مقبرة باب أبرز ، وكان بها جماعة بها من اليهود ، فلم ينقلوا شيئا لتمسكهم بسبتهم ، وكان بعض أهله قد عبروا إلى الجانب الغربي للفرجة ، على عادتهم في السبت الذي يلي العيد ، فعادوا فوجدوا بيوتهم قد خربت ، وأهلها قد احترقوا ، وأموالهم قد هلكت .
ثم تبع حريق في عدة أماكن منها : درب القيار ، وقراح ابن رزين ، فارتاع الناس لذلك ، وبطلوا معايشهم ، وأقاموا ليلا ونهارا يحرسون بيوتهم في الدروب ، وعلى السطوح ، وجعلوا عندهم الماء المعد لإطفاء النار ، فظهر أن سبب هذا الحريق أن جارية أحبت رجلا ، فوافقته على المبيت عندها في دار مولاها سرا ، وأعدت له ما يسرقه إذا خرج ، ويأخذها هي أيضا معه ، فلما أخذها طرحا النار في الدار ، فخرجا ، فأظهر الله عليهما ، وعجل الفضيحة لهما ، فأخذا وحبسا .
وفيها جمع بغدوين ملك الفرنج عسكره وقصد مدينة صور وحصرها ، وأمر ببناء حصن عندها ، على تل المعشوقة ، وأقام شهرا محاصرا لها ، فصانعه واليها على سبعة آلاف دينار ، فأخذها ورحل عن المدينة .
وقصد مدينة صيدا ، فحصرها برا وبحرا ونصب عليها البرج الخشب ، ووصل الأسطول المصري في الدفع عنها ، والحماية لمن فيها ، فقاتلهم أسطول الفرنج ، فظهر المسلمون عليهم ، فاتصل بالفرنج مسير عسكر دمشق نجدة لأهل صيدا ، فرحلوا عنها بغير فائدة .
وفيها ظهر كوكب عظيم له ذوائب ، فبقي ليالي كثيرة ثم غاب . وفيها جدد الخليفة الخلع على وزيره أبي المعالي هبة الله بن محمد بن المطلب وأكرمه وعظمه .
قال ابن الجوزي : وظهر في هذه السنة صبية عمياء تتكلم على أسرار الناس ، وبالغ الناس في الحيل ، ليعلموا حالها فلم يعلموا ، قال ابن عقيل : وأشكل أمرها على العلماء والخواص والعوام ، حتى إنها كانت تسأل عن نقوش الخواتم المقلوبة الصعبة ، وعن أنواع الفصوص وصفات الأشخاص ، وما في داخل البنادق من الشمع والطين والحب المختلف والخرز ، وبالغ أحدهم حتى ترك يده على ذكره فقيل لها : ما الذي في يده فقالت : يحمله إلى أهله وعياله . وثبت بالتواتر أن جميع ما يتكلم به أبوها في السؤال لها: "ما في يد فلان؟ وما الذي قد خبأه هذا الرجل؟" فتقول في ذلك تفاصيل لا يدركها البصر ، فاستحال أن يكون بينها وبين أبيها ترجمة لأمور مختلفة .
قال ابن عقيل: ليس في هذا إلا أنه خصيصة من الله سبحانه كخواص النبات والأحجار فخصت هذه بإجراء ما يجري على لسانها من غير اطلاع على البواطن .
قال المصنف رحمه الله: وقد حكى إبراهيم بن الفراء أنه أخذ شيئا يشبه الحنطة وليس بحنطة فأخطأت هذه المرة في حزره . وفي ربيع الآخر: دخل السلطان محمد إلى بغداد واصطاد في طريقه صيدا كثيرا ، وبعث أربع جمازات عليها أربعون ظبيا هدية إلى دار الخلافة ، وكان على الظباء وسم السلطان جلال الدولة ملك شاه فإنه كان يصيد الغزلان فيسمها ويطلقها .
ومضى الوزير أبو المعالي في الموكب لخدمة السلطان ، وحمل معه شيئا من ملابس الخليفة ، وأخرج مجلدا بخط الخليفة يشتمل على دعاء رواه العباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام السلطان فدعا وشكر هذا الاهتمام ، وانصرف الوزير وصاحب المخزن إلى دار نظام الملك وقد كان حاضرا أداء الرسالة إلى السلطان ، لكنه سبق إلى داره ، فأدى الوزير رسالة عن الخليفة تتضمن مدح بيته وسلفه ، فقام وقبل الأرض ودعا وشكر ، وخرج السلطان إلى مشهد أبي حنيفة ، فدخل فاجتمع إليه الفقهاء ، فقال: هذا يوم قد انفردت فيه مع الله تعالى فخلوا بيني وبين المكان ، فصعدوا إلى أعاليه ، فأمر غلمانه بغلق الأبواب ، وأن لا يمكنوا الأمراء من الدخول ، وأقام يصلي ويدعو ويخشع ، وأعطاهم خمسمائة دينار ، وقال: اصرفوا هذه في مصالحكم وادعوا لي .
ومرض نحو عشرة من غلمانه الصغار ، فبعث بهم المتولي لأمورهم إلى المارستان ، فلما علم بعث مائة دينار فصرفت في مصالح المكان ، وخرج يوما فرأى الفقهاء حول داره وهم نحو من أربعمائة ، فأمر بكسوتهم جميعا ، وحملت إليه قسي بندق فلما رآها قال: قد ذكرت بها شيخا من الأتراك قد تعطل فأتوه به فأعطاه ثلاثين دينارا ، وكان أصحابه لا يظلمون أحدا ولا يتعرضون بأذى ، ولقد جاء بعض الصبيان الأتراك إلى بعض البيادر فقال: بيعوني تبنا ، فقالوا: التبن عندنا مبذول للصادر والوارد فخذ منه ما أحببت ، فأبى ، وقال: ما كنت لأبيع رأسي بمخلاة تبن فإن أخذتم ثمن ذلك وإلا انصرفت ، فباعوه بما طلب ، ثم كثر الفساد فعاثوا وصعب ضبطهم .
[عزل مهذب الدولة عن حجبة الباب]
وفي يوم الفطر: عزل مهذب الدولة أبو جعفر ابن الدامغاني عن حجبة الباب ، واستنيب أبو العز المؤيدي . وظهر على جارية قوم أحبت رجلا فوافقته على المبيت في دار مولاها مستترا ، وعول بأن يأخذ زنفليجة كانت هناك ، فلما أخذها طرحا النار وخرجا ، فأظهر الله تعالى أمرهما فافتضحا .