الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            قتل جماعة من المصريين أرادوا الوثوب بصلاح الدين

            في سنة تسع وستين وخمسمائة ، ثاني رمضان ، صلب صلاح الدين يوسف بن أيوب جماعة ممن أرادوا الوثوب به بمصر من أصحاب الخلفاء العلويين .

            وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن بن زيدان الحكمي

            من قحطان أبو محمد الملقب بنجم الدين اليمني الشاعر الفقيه الشافعي . وسبب قتله أنه اجتمع جماعة من رءوس الدولة الفاطمية ، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم ، وعينوا خليفة من ذرية الفاطميين ووزيرا وأمراء ، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة تورانشاه على المسير إلى اليمن ; ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين ، فخرج تورانشاه ولم يخرج معه عمارة ، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث ، ويداخل المتكلمين فيه ، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه وقد أدخلوا معهم في هذا الأمر من ينسب إلى الملك الناصر ; وذلك من قلة عقولهم وكثرة جهلهم فخانهم ، أحوج ما كانوا إليه ; وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ ، جاء إلى السلطان فأخبره بما تمالأ القوم عليه ، وبما انتهى أمرهم إليه ، فأطلق له السلطان أموالا جزيلة ، وأفاض عليه حللا جميلة ، ثم استدعاهم السلطان واحدا واحدا فقررهم فأقروا له بذلك ، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم فأفتوه بقتلهم وتبديد شملهم ، فعند ذلك أمر بصلب رءوسهم وأعيانهم ، دون أتباعهم وغلمانهم ، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيديين إلى أقصى البلاد ، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار ، فلا يصل إليهم إصلاح ولا إفساد وأجرى عليهم من الأرزاق كفايتهم ، وقد كان عمارة معاديا للقاضي الفاضل ، فلما أحضر بين يدي السلطان ، قام القاضي الفاضل فاجتمع بالسلطان ليشفع فيه عنده فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه ، فقال : يا مولانا السلطان لا تسمع منه . فغضب القاضي الفاضل وخرج من القصر ، فقال له السلطان : إنه كان قد شفع فيك . فندم ندما عظيما . ولما ذهب به ليصلب مر بدار القاضي فطلبه فتغيب عنه فأنشد :


            عبد الرحيم قد احتجب إن الخلاص هو العجب

            قال ابن أبي طي : وكان الذين صلبوا ; المفضل بن القاضي وهو أبو القاسم هبة الله بن عبد الله بن كامل قاضي قضاة الديار المصرية زمن الفاطميين ويلقب بفخر الأمناء ، وكان أول من صلب ; فيما قاله العماد الكاتب ، وقد كان ينسب إلى فضيلة وأدب وله شعر رائق فمن ذلك قوله في غلام رفاء :


            يا رافيا خرق كل ثوب     ويا رشا حبه اعتقادي
            عسى بكف الوصال ترفو     ما مزق الهجر من فؤادي

            وابن عبد القوي داعي الدعاة وكان يعلم بدفائن القصر فعوقب ليعلم بها ، فامتنع من ذلك ، فمات واندرست . والعوريس الذي كان ناظر الديوان وتولى مع ذلك القضاء . وشبرما كاتب السر . وعبد الصمد القشة أحد أمراء المصريين . ونجاحا الحمامي ورجلا منجما نصرانيا أرمنيا كان قد بشرهم بأن هذا الأمر يتم بعلم النجوم .

            وعمارة اليمني الشاعر

            وقد كان شاعرا مطبقا بليغا فصيحا لا يلحق شأوه في هذا الشأن ، وله ديوان مشهور ، وقد ذكرته في " طبقات الشافعية " ; فإنه كان يشتغل بمذهب الشافعي ، وله تصنيف في الفرائض وكتاب " الوزراء الفاطميين " وكتاب جمع فيه سيرة نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر ، وقد كان أديبا فاضلا فقيها فصيحا ، غير أنه كان ينسب إلى موالاة الفاطميين ، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا ، وأقل ما نسب إلى الرفض وقد اتهم باطنه بالكفر المحض .

            وذكر العماد في " الخريدة " أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها :


            العلم مذ كان محتاج إلى العلم     وشفرة السيف تستغني عن القلم

            وهي طويلة جدا فيها كفر وزندقة كثيرة ، قال فيها :


            قد كان أول هذا الدين من رجل     سعى إلى أن دعوه سيد الأمم

            قال العماد : فأفتى علماء مصر بقتله ، وحرضوا السلطان على المثلة بمثله . قال : ويجوز أن يكون هذا البيت معمولا عليه . فالله أعلم . وقد أورد ابن الساعي شيئا من رقيق شعره ، فمن ذلك قوله يمدح بعض الملوك :


            ملك إذا قابلت بشر جبينه     فارقته والبشر فوق جبيني
            وإذا لثمت يمينه وخرجت من     أبوابه لثم الملوك يميني

            ومن ذلك قوله يتغزل :


            لي في هوى الرشأ العذري أعذار     لم يبق لي مذ أقر الدمع إنكار
            لي في القدود وفي لثم الخدود وفي     ضم النهود لبانات وأوطار
            هذا اختياري فوافق إن رضيت به     أو لا فدعني لما أهوى وأختار

            ومما أنشده تاج الدين الكندي في عمارة اليمني حين صلب :


            عمارة في الإسلام أبدى خيانة     وبايع فيها بيعة وصليبا
            وأمسى شريك الشرك في بغض أحمد     فأصبح في حب الصليب صليبا
            وكان خبيث الملتقى إن عجمته     تجد منه عودا في النفاق صليبا
            سيلقى غدا ما كان يسعى لأجله     ويسقى صديدا في لظى وصليبا

            قال الشيخ شهاب الدين : فالأول صليب النصارى والثاني بمعنى مصلوب والثالث بمعنى القوي ، والرابع ودك العظام .

            ولما صلب الملك الناصر هؤلاء - وكان ذلك يوم السبت الثاني من شهر رمضان من هذه السنة بين القصرين من القاهرة - كتب إلى الملك نور الدين يعلمه بما وقع منهم وما أوقع بهم من الخزي والنكال ، قال العماد : فوصل الكتاب بذلك يوم توفي الملك نور الدين رحمه الله تعالى . وكذلك قتل الملك صلاح الدين رجلا من أهل الإسكندرية يقال له : قديد القفاص . قد افتتن به الناس وجعلوا له جزءا من أكسابهم حتى النساء من أموالهن فأحيط به فأراد الخلاص ، ولات حين مناص . فقتل أسوة بمن سلف ، ولقد كان بئس الخلف ، ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة .

            ومما وجد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه :


            أسفي على زمن الإمام العاضد     أسف العقيم على فراق الواحد
            جالست من وزرائه وصحبت من     أمرائه أهل الثناء الماجد
            لهفي على حجرات قصرك إذ خلت     يا ابن النبي من ازدحام الوافد
            وعلى انفرادك من عساكرك الذي     كانوا كأمواج الخضم الراكد
            قلدت مؤتمن الخلافة أمرهم     فكبا وقصر عن صلاح الفاسد
            فعسى الليالي أن ترد عليكم     ما عودتكم من جميل عوائد

            وله من جملة قصيدة :


            يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة     لك الملامة إن قصرت في عذلي
            بالله زر ساحة القصرين وابك معي     عليهما لا على صفين والجمل
            وقل لأهلهما والله ما التحمت     فيكم قروحي ولا جرحي بمندمل
            ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة     في نسل آل أمير المؤمنين علي

            وقد أورد الشيخ أبو شامة في " الروضتين " من أشعار عمارة اليمني ومدائحه في الخلفاء الفاطميين وذويهم شيئا كثيرا ، وكذا القاضي ابن خلكان

            التالي السابق


            الخدمات العلمية