وذلك سنة خمس وسبعين وخمسمائة تخريب الحصن الذي بناه الفرنج عند مخاضة الأحزان
كان الفرنج قد بنوا حصنا منيعا يقارب بانياس ، عند بيت يعقوب - عليه السلام - بمكان يعرف بمخاضة الأحزان ، فلما سمع صلاح الدين بذلك سار من دمشق إلى بانياس ، وأقام بها ، وبث الغارات على بلاد الفرنج ، ثم سار إلى الحصن وحصره ليخربه ثم يعود إليه عند اجتماع العساكر ، فلما نازل الحصن قاتل من به من الفرنج ، ثم عاد عنه ، فلما دخلت سنة خمس وسبعين لم يفارق بانياس بل أقام بها وخيله تغير على بلاد العدو .
وأرسل جماعة من عسكره مع جالبي الميرة ، فلم تشعر إلا والفرنج مع ملكهم قد خرجوا عليهم ، فأرسلوا إلى صلاح الدين يعرفونه الخبر [ فسار ] في العساكر مجدا [ حتى ] وافاهم وهم في القتال ، فقاتل الفرنج قتالا شديدا ، وحملوا على المسلمين عدة حملات كادوا يزيلونهم عن مواقفهم ، ثم أنزل الله نصره على المسلمين ، وهزم المشركين ، وقتلت منهم مقتلة كثيرة ، ونجا ملكهم فريدا ، وأسر منهم كثير منهم ابن بيرزان صاحب الرملة ونابلس ، وهو أعظم الفرنج محلا بعد الملك ، وأسروا أيضا أخا صاحب جبيل ، وصاحب طبرية ، ومقدم الداوية ، ومقدم الإسباتارية ، وصاحب جينين وغيرهم من مشاهير فرسانهم وطواغيتهم ، فأما ابن بيرزان فإنه فدى نفسه بمائة ألف وخمسين ألف دينار صورية ، وإطلاق ألف أسير من المسلمين ، وكان أكثر العمل في هذا اليوم لعز الدين فرخشاه ابن أخي صلاح الدين ، وحكي عنه أنه قال : ذكرت في تلك الحال بيتي المتنبي وهما :
فإن تكن الدولات قسما فإنها لمن يرد الموت الزؤام تؤول ومن هون الدنيا على النفس ساعة
وللبيض في هام الكماة صليل
فهان الموت في عيني ، فألقيت نفسي إليه ، وكان ذلك سبب الظفر ، ثم عاد صلاح الدين إلى بانياس من موضع المعركة ، وتجهز للدخول إلى ذلك الحصن ومحاصرته ، فسار إليه في ربيع الأول ، وأحاط به ، وقوى طمعه بالهزيمة المذكورة في فتحه ، وبث العساكر في بلد الفرنج للإغارة ، ففعلوا ذلك ، وجمعوا من الأخشاب والزرجون شيئا كثيرا ليجعله متارس للمجانيق ، فقال له جاولي الأسدي ، وهو مقدم الأسدية وأكابر الأمراء : الرأي أننا نجربهم بالزحف أول مرة ، ونذوق قتال من به ، وننظر الحال معهم ، فإن استضعفناهم ، وإلا فنصب المجانيق ما يفوت .
فقبل رأيه ، وأمر فنودي بالزحف إليه ، والجد في قتاله ، فزحفوا واشتد القتال وعظم الأمر ، فصعد إنسان من العامة بقميص خلق في باشورة الحصن وقاتل على السور لما علاه وتبعه غيره من أضرابه ، ولحق بهم الجند فملكوا الباشورة ، فصعد الفرنج حينئذ منها إلى أسوار الحصن ليحموا نفوسهم وحصنهم إلى أن يأتيهم المدد .
وكان الفرنج قد جمعوا بطبرية ، فألح المسلمون في قتال الحصن ، خوفا من وصول الفرنج إليهم وإزاحتهم عنه ، وأدركهم الليل ، فأمر صلاح الدين بالمبيت بالباشورة إلى الغد ، ففعلوا ، فلما كان الغد أصبحوا وقد نقبوا الحصن ، وعمقوا النقب ، وأشعلوا النيران فيه ، وانتظروا سقوط السور ، فلم يسقط لعرضه ، فإنه كان تسعة أذرع بالنجاري ، يكون الذراع ذراعا ونصفا ، فانتظروه يومين فلم يسقط ، فأمر صلاح الدين بإطفاء النار التي في النقب ، فحمل الماء وألقي عليها فطفئت ، وعاد النقابون فنقبوا ، وخرقوا السور ، وألقوا فيه النار ، فسقط يوم الخميس لست بقين من ربيع الأول ، ودخل المسلمون الحصن عنوة وأسروا كل من فيه ، وأطلقوا من كان به من أسارى المسلمين ، وقتل صلاح الدين كثيرا من أسرى الفرنج ، وأدخل الباقين إلى دمشق ، وأقام صلاح الدين بمكانه حتى هدم الحصن ، وعفى أثره ، وألحقه بالأرض ، وكان قد بذل الفرنج ستين ألف دينار مصرية ليهدموه بغير قتال ، فلم يفعلوا ظنا منهم أنه إذا بقي بناؤه تمكنوا به من كثير من بلاد الإسلام ، وأما الفرنج فاجتمعوا بطبرية ليحموا الحصن ، فلما أتاهم الخبر بأخذه فت في أعضادهم ، فتفرقوا إلى بلادهم .
وأكثر الشعراء فيه ، فمن ذلك قول صديقنا النشو بن نفاذة - رحمه الله - :
هلاك الفرنج أتى عاجلا وقد آن تكسير صلبانها
ولو لم يكن قد دنا حتفها لما عمرت بيت أحزانها
وقول علي بن محمد الساعاتي الدمشقي :
أتسكن أوطان النبيين عصبة تمين لدى أيمانها وهي تحلف
نصحتكم والنصح للدين واجب ذروا بيت يعقوب فقد جاء يوسف
بجدك أعطاف القنا تتعطف وطرف الأعادي دون مجدك يطرف
شهاب هدى في ظلمة الشرك ثاقب وسيف إذا ما هزه الله مرهف
وقفت على حصن المخاض وإنه لموقف حق لا يوازيه موقف
فلم يبد وجه الأرض بل حال دونه رجال كآساد الشرى وهي تزحف
وجرداء سلهوب ودرع مضاعف وأبيض هندي ولدن مثقف
وما رجعت أعلامك الصفر ساعة إلى أن غدت أكبادها السود ترجف
كبا من أعاليه صليب وبيعة وشاد به دين حنيف ومصحف
صليبة عباد الصليب ومنزل النزال لقد غادرته وهو صفصف
أتسكن أوطان النبيين عصبة تمين لدى أيمانها وهي تحلف
نصحتكم والنصح في الدين واجب ذروا بيت يعقوب فقد جاء يوسف