الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ما كان من ملك إنكلتار  

            في تاسع جمادى الأولى من سنة ثمان وثمانين وخمسمائة استولى الفرنج على حصن الداروم ، فخربوه ، وقتلوا خلقا كثيرا من أهلها وأسروا طائفة من الذرية فإنا لله وإنا إليه راجعون ثم أقبلوا بخيلهم ورجلهم جملة نحو القدس الشريف فبرز إليهم السلطان في حزب الإيمان وهو مشتمل على الرجالة والفرسان والأبطال والشجعان فلما تراءى الجمعان نكص حزب الشيطان على عقبيه وانقلبوا راجعين قبل القتال والنزال وعاد السلطان إلى القدس وقد رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا [ الأحزاب : 25 ] وكان سبب طمعهم أن صلاح الدين فرق عساكره الشرقية وغيرها لأجل الشتاء ، وليستريحوا ، وليحضر البدل عوضهم - وسار بعضهم مع ولده الأفضل ، وأخيه العادل إلى البلاد الجزرية ، وبقي من حلقته الخاص بعض العساكر المصرية ، فظنوا أنهم ينالون غرضا ، فلما سمع صلاح الدين بقربهم منه فرق أبراج البلد على الأمراء ، وسار الفرنج من بيت نوبة إلى قلونية ، سلخ الشهر ، وهي [ على ] فرسخين من القدس ثم إن ملك الإنكلتير - لعنه الله - وهو أكبر ملوك الفرنج ذلك الوقت ظفر ببعض قفول المسلمين فكبسهم ليلا فقتل منهم خلقا كثيرا وأسر منهم خمسمائة أسير وغنم منهم شيئا كثيرا من الأموال والجمال والخيل والبغال فكان جملة الجمال ثلاثة آلاف بعير فتقوى الفرنج بذلك شيئا كثيرا وساء ذلك السلطان مساءة عظيمة جدا وخاف من غائلة ذلك واستخدم الإنكلتير الجمالة على الجمال والخربندية على البغال والساسة على الخيل ، وأقبل وقد قويت نفسه جدا ، وصمم على محاصرة القدس وأرسل إلى ملوك الفرنج الذين بالساحل فاستحضرهم ومن معهم من المقاتلة فتعبأ السلطان لهم وتهيأ وأكمل السور وعمر الخنادق ونصب الآلات والمجانيق وأمر بتغوير ما حول القدس من المياه وأحضر السلطان أمراءه ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة وفيهم أبو الهيجاء السمين والمشطوب والأسدية بكمالهم واستشارهم فيما قد دهمه من هذا الأمر الفظيع الموجع المؤلم فأفاضوا في ذلك وأشاروا كل برأيه وأشار العماد الكاتب بأن يتحالفوا على الموت عند الصخرة كما كان الصحابة يفعلون فأجابوا إلى ذلك ، هذا كله والسلطان ساكت واجم مفكر ، فسكت القوم كأنما على رءوسهم الطير ثم قال : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله اعلموا أنكم جند الإسلام اليوم ومنعته وأنتم تعلمون أن دماء المسلمين وأموالهم وذراريهم معلقة في ذممكم ، فإن هذا العدو أمن له من المسلمين من تلقاه إلا أنتم فإن لويتم أعنتكم - والعياذ بالله - طوى البلاد كطي السجل للكتاب وكان ذلك في ذمتكم ، فإنكم أنتم الذين تصديتم لهذا وأكلتم مال بيت المال فالمسلمون في سائر البلاد متعلقون بكم والسلام

            فانتدب لجوابه سيف الدين المشطوب وقال : يا مولانا نحن مماليكك وعبيدك وأنت الذي أعطيتنا وكبرتنا وعظمتنا ، وليس لنا إلا رقابنا ونحن بين يديك ، والله ما يرجع أحد منا عن نصرتك إلى أن يموت فقال الجماعة مثل ما قال ففرح السلطان بذلك وطاب قلبه ومد لهم سماطا حافلا وانصرفوا من بين يديه على ذلك ثم بلغه بعد ذلك عن بعض الأمراء أنه قال : إنا نخاف أن يجري علينا في هذا البلد كما جرى على أهل عكا ثم يأخذون بلاد الإسلام بلدا بلدا والمصلحة أن نلتقيهم بظاهر البلد فإن هزمناهم أخذنا بقية بلادهم وإن تكن الأخرى سلم العسكر ومضى القدس وقد انخفضت بلاد الإسلام بدون القدس مدة طويلة وبعثوا إلى السلطان يقولون له : إن كنت تريدنا نقيم بالقدس تحت حصار الفرنج فكن أنت معنا أو بعض أهلك حتى يكون الجيش تحت أمرك فإن الأكراد لا تطيع الترك والترك لا تطيع الأكراد .

            فلما بلغه ذلك شق عليه مشقة عظيمة وبات ليلته أجمع مهموما كئيبا يفكر فيما قالوا ثم انجلى الأمر واتفق الحال على أن يكون الملك الأمجد صاحب بعلبك مقيما عندهم نائبا عنه بالقدس وكان ذلك نهار الجمعة فلما حضر إلى صلاة الجمعة وأذن المؤذن للظهر قام فصلى ركعتين بين الأذانين وسجد وابتهل إلى الله تعالى ابتهالا عظيما وتضرع إلى ربه وتمسكن وسأله فيما بينه وبينه كشف هذه الضائقة العظيمة .

            فلما كان يوم السبت من الغد جاءت الكتب من الحرس حول البلد بأن الفرنج قد اختلفوا فيما بينهم في محاصرة القدس فقال ملك الإفرنسيس : إنا إنما جئنا من البلاد البعيدة وأنفقنا الأموال العديدة في تخليص بيت المقدس ورده إلينا وقد بقي بيننا وبينهم مرحلة فقال الإنكلتير : إن هذا البلد يشق علينا حصاره ; لأن المياه حوله قد عدمت ومتى بعثنا من يأتينا بالماء من المشقة البعيدة تعطل الحصار وتلف الجيش ثم اتفق الحال بينهم على أن حكموا عليهم ثلاثمائة منهم فردوا أمرهم إلى اثني عشر منهم فردوا أمرهم إلى ثلاثة منهم فباتوا ليلتهم ينظرون ثم أصبحوا وقد حكموا عليهم بالرحيل فلم يمكنهم مخالفتهم فسحبوا راجعين ، - لعنهم الله - أجمعين فساروا حتى نزلوا على الرملة ، وقد طالت عليهم الغربة والرملة وذلك في بكرة الحادي والعشرين من جمادى الآخرة ، وبرز السلطان بجيشه إلى خارج القدس وسار نحوهم خوفا أن يسيروا إلى مصر لكثرة ما معهم من الظهر والأموال ، وكان الإنكلتير يلهج بذلك كثيرا ، فخذلهم الله عن ذلك.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية