الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            وفاة الملك العزيز وملك أخيه الأفضل ديار مصر  

            في سنة خمس وتسعين وخمسمائة، في العشرين من المحرم ، توفي الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب ، صاحب ديار مصر ، وكان سبب موته أنه خرج إلى الصيد ، فلما كان ليلة الأحد العشرين من المحرم ، ساق خلف ذئب ، فكبا به الفرس فسقط عنه ، وكانت وفاته بعد أيام بعد رجوعه إلى البلد ، فنقل ودفن بداره ، ثم حول إلى عند تربة الشافعي ، وله سبع أو ثمان وعشرون سنة ؛ رحمه الله . ويقال : إنه كان قد عزم في هذه السنة على إخراج الحنابلة من بلده ، ويكتب إلى بقية إخوته أن يخرجوهم من بلادهم ، وشاع ذلك عنه وسمع منه وذاع وصرح به ، وكل ذلك من معلميه وخلطائه وعشرائه من الجهمية ، وقلة علمه بالقرآن والحديث ، فلما وقع ما وقع عظم قدر الحنابلة بديار مصر والشام عند الخاص والعام . وقيل : إن بعض صالحيهم دعا عليه ، فما هو إلا أن خرج إلى الصيد ، فكان هلاكه سريعا ، فالله أعلم .

            وكتب القاضي الفاضل كتاب التعزية بالعزيز إلى عمه الملك العادل وهو مقيم على محاصرة ماردين ومعه العساكر ، وولده محمد الكامل ، وهو نائبه على بلاد الجزيرة المقاربة لبلاد الحيرة ، وصورة الكتاب : أدام الله سلطان مولانا الملك العادل ، وبارك في عمره وأعلا أمره بأمره ، وأعز نصر الإسلام بنصره ، وفدت الأنفس نفسه الكريمة ، وأصغر الله العظائم بنعمه فيه العظيمة ، وأحياه حياة طيبة يقف فيها هو والإسلام في مواقف الفتوح الجسيمة ، وينقلب عنها بالأمور المسلمة والعواقب السليمة ، ولا نقص له رجالا ولا عددا ، ولا أعدمه نفسا ولا ولدا ، ولا قصر له ذيلا ولا يدا ، ولا أسخن له قلبا ولا كبدا ، ولا كدر له خاطرا ولا موردا ، ولما قدر الله ما قدر في الملك العزيز ؛ رحمه الله ، وتحياته مكررة إليه من انقضاء مهله وحضور أجله ، كانت بديهة المصاب عظيمة ، وطالعة المكروه أليمة ، فرحم الله ذلك الوجه ونضره ، ثم إلى سبيل الجنة يسره


            وإذا محاسن أوجه بليت فعفا الثرى عن وجهه الحسن



            فأعزز على المملوك وعلى الأولياء بل على قلب مولانا ، لا سلبه ثياب العزاء ، لسرعة مصرعه وانقلابه إلى مضجعه ، ولباسه ثوب البلي قبل أن يبلى ثوب الشباب ، وزفه إلى التراب وسريره محفوف باللذات والأتراب ، وكانت مدة المرض بعد العود من الفيوم أسبوعين ، وكانت في الساعة السابعة من ليلة الأحد العشرين من المحرم ، والمملوك في حال تسطيرها مجموع بين مرض قلب وجسد ووجع أطراف وغليل كبد ، وقد فجع بهذا المولى ، والعهد بوالده - رحمه الله - غير بعيد ، والأسى عليه في كل يوم جديد . فلما مات كان الغالب على أمره مملوك والده فخر الدين جهاركس ، وهو الحاكم في بلده ، فأحضر إنسانا كان عندهم من أصحاب الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، وأراه العزيز ميتا . وسيره إلى العادل وهو يحاصر ماردين - كما ذكرناه - ويستدعيه ليملكه البلاد ، فسار القاصد مجدا ، فلما كان بالشام رأى بعض أصحاب الأفضل علي بن صلاح الدين ، فقال له : قل لصاحبك إن أخاه العزيز توفي ، وليس في البلاد من يمنعها ، فليسر إليها فليس دونها مانع .

            وكان الأفضل محبوبا إلى الناس يريدونه ، فلم يلتفت الأفضل إلى هذا القول ، وإذا قد وصله رسل الأمراء من مصر يدعونه إليهم ليملكوه ، وكان السبب في ذلك أن الأمير سيف الدين يازكج - مقدم الأسدية ، والفرقة الأسدية والأمراء الأكراد يريدونه ويميلون إليه ، وكان المماليك الناصرية الذين هم ملك أبيه يكرهونه ، فاجتمع سيف الدين ، - مقدم الأسدية - ، وفخر الدين جهاركس - مقدم الناصرية - ليتفقوا على من يولونه الملك ، فقال فخر الدين : نولي ابن الملك العزيز ، فقال سيف الدين : إنه طفل ، وهذه البلاد ثغر الإسلام ، ولا بد من قيم بالملك يجمع العساكر ، ويقاتل بها ، والرأي أننا نجعل الملك في هذا الطفل الصغير ، ونجعل معه بعض أولاد صلاح الدين يدبره إلى أن يكبر ، فإن العساكر لا تطيع غيرهم ، ولا تنقاد لأمير ، فاتفقا على هذا ، فقال جهاركس : فمن يتولى هذا ؟ فأشار يازكج بغير الأفضل ممن بينه وبين جهاركس منازعة لئلا يتهم وينفر جهاركس عنه ، فامتنع من ولايته ، فلم يزل يذكر من أولاد صلاح الدين واحدا بعد آخر إلى أن ذكر آخرهم الأفضل ، فقال جهاركس : هو بعيد عنا ، وكان بصرخد مقيما فيها من حين أخذت منه دمشق ، فقال يازكج : نرسل إليه من يطلبه مجدا ، فأخذ جهاركس يغالطه ، فقال يازكج : نمضي إلى القاضي الفاضل ونأخذ رأيه ، فاتفقا على ذلك ، ( وأرسل يازكج يعرفه ذلك ، ويشير بتمليك الأفضل ) ، فلما اجتمعا عنده ، وعرفاه صورة الحال ، أشار بالأفضل ، فأرسل يازكج في الحال القصاد وراءه ، فسار عن صرخد لليلتين بقيتا من صفر ، متنكرا في تسعة عشر نفسا ، لأن البلاد كانت للعادل ، ويضبط نوابه الطرق ، لئلا يجوز إلى مصر ليجيء العادل ويملكها .

            فلما قارب الأفضل القدس ، وقد عدل عن الطريق المؤدي إليه ، لقيه فارسان قد أرسلا إليه من القدس ، فأخبراه أن من بالقدس قد صار في طاعته ، وجد في السير ، فوصل إلى بلبيس خامس ربيع الأول ، ولقيه إخوته ، وجماعة الأمراء المصرية ، وجميع الأعيان ، فاتفق أن أخاه الملك المؤيد مسعودا صنع له طعاما ، وصنع له فخر الدين مملوك أبيه طعاما ، فابتدأ بطعام أخيه ليمين حلفها أخوه أنه يبدأ به ، فظن جهاركس أنه فعل هذا انحرافا عنه وسوء اعتقاد فيه ، فتغيرت نيته ، وعزم على الهرب ، فحضر عند الأفضل وقال : إن طائفة من العرب قد اقتتلوا ، ولئن لم تمض إليهم تصلح بينهم يؤد ذلك إلى فساد ، فأذن له الأفضل في المضي إليهم ، ففارقه ، وسار مجدا حتى وصل إلى البيت المقدس ، ودخله ، وتغلب عليه ، ولحقه جماعة من الناصرية منهم قراجة الزره كش ، وسرا سنقر ، وأحضروا عندهم ميمونا القصري صاحب نابلس ، وهو أيضا من المماليك الناصرية ، فقويت شوكتهم به ، واجتمعت كلمتهم على خلاف الأفضل ، وأرسلوا إلى الملك العادل وهو على ماردين يطلبونه إليهم ليدخلوا معه إلى مصر ليملكوها ، فلم يسر إليهم لأنه كانت أطماعه قد قويت في أخذ ماردين ، وقد عجز من بها عن حفظها ، ، فظن أنه يأخذها ، والذي يريدونه منه لا يفوته .

            وأما الأفضل فإنه دخل إلى القاهرة سابع ربيع الأول ، وسمع بهرب جهاركس ، فأهمه ذلك ، وترددت الرسل بينه وبينهم ليعودوا إليه ، فلم يزدادوا إلا بعدا ، ولحق بهم جماعة من الناصرية أيضا ، فاستوحش الأفضل من الباقين ، فقبض عليهم ، وهم شقيرة وأيبك فطيس ، وألبكي الفارس ، وكل هؤلاء بطل مشهور ومقدم مذكور ، سوى من ليس مثلهم في التقدم وعلو القدر ، وأقام الأفضل بالقاهرة وأصلح الأمور ، وقرر القواعد ، والمرجع في جميع الأمور إلى سيف الدين يازكج .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية