في سنة خمس وتسعين وخمسمائة كانت فتنة عظيمة بعسكر غياث الدين - ملك الغور وغزنة - وهو بفيروزكوه ، عمت الرعية والملوك والأمراء ، وسببها أن الفخر محمد بن عمر بن الحسين الرازي ، الإمام المشهور ، الفقيه الشافعي ، كان قدم إلى غياث الدين مفارقا لبهاء الدين سام ، صاحب باميان ، وهو ابن أخت غياث الدين ، فأكرمه غياث الدين ، واحترمه ، وبالغ في إكرامه ، وبنى له مدرسة بهراة بالقرب من الجامع ، فقصده الفقهاء من البلاد ، فعظم ذلك على الكرامية ، وهم كثيرون بهراة ، وأما الغورية فكلهم كرامية ، وكرهوه ، وكان أشد الناس عليه الملك ضياء الدين ، وهو عم غياث الدين ، وزوج ابنته ، فاتفق أن حضر الفقهاء من الكرامية والحنفية والشافعية عند غياث الدين بفيروزكوه للمناظرة ، وحضر فخر الدين الرازي والقاضي مجد الدين عبد المجيد بن عمر المعروف بابن القدوة ، وهو من الكرامية الهيصمية ، وله عندهم محل كبير لزهده وعلمه وبيته ، فتكلم الرازي . فاعترض عليه ابن القدوة ، وطال الكلام ، فقام غياث الدين ، فاستطال عليه الفخر وسبه وشتمه وبالغ في أذاه ، وابن القدوة لا يزيد على أن يقول لا يفعل مولانا إلا وأخذك الله ، أستغفر الله ، فانفصلوا على هذا .
وقام ضياء الدين في هذه الحادثة وشكا إلى غياث الدين ، وذم الفخر ، ونسبه إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة ، فلم يصغ غياث إليه ، فلما كان الغد وعظ ابن عم المجد بن القدوة بالجامع ، فلقد صعد المنبر قال : بعد أن حمد الله وصلى على النبي - صلى الله عليه و سلم - : لا إله إلا الله ، ( ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ) ، أيها الناس ، إنا لا نقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأما علم أرسطاطاليس وكفريات ابن سينا ، وفلسفة الفارابي ، فلا نعلمها ، فلأي حال يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله ، وعن سنة نبيه ! وبكى وضج الناس ، وبكى الكرامية واستغاثوا ، وأعانهم من يؤثر بعد الفخر الرازي عن السلطان وثار الناس من كل جانب وامتلأ البلد فتنة ، وكادوا يقتتلون ، ويجري ما يهلك فيه خلق كثير ، فبلغ ذلك السلطان ، فأرسل جماعة من عنده إلى الناس وسكنهم ، ووعدهم بإخراج الفخر من عندهم وتقدم إليه بالعود إلى هراة ، فعاد إليها . فلهذا أشرب قلب الرازي بغض الكرامية ، وصار يلهج بهم في كلامه في كل موطن ، وكلما هبت الصبا . وفي هذه السنة وقع الرضا عن الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي ، شيخ الوعاظ في زمانه وبعده ، وقد كان أخرج من بغداد إلى واسط فأقام بها خمس سنين فانتفع به أهلها واشتغلوا عليه واستفادوا منه ، فلما عاد إلى بغداد خلع عليه الخليفة وأذن له في الجلوس على عادته عند التربة الشريفة المجاورة لقبر معروف الكرخي ، فكثر الجمع جدا ، وحضر الخليفة ، وأخذ في العتاب ، وأنشد يومئذ فيما يخاطب به الخليفة :
لا تعطش الروض الذي نبته بصوب إنعامك قد روضا لا تبر عودا أنت قد رشته
حاشا لباني المجد أن ينقضا إن كان لي ذنب ولم آته
فاستأنف العفو وهب لي الرضا قد كنت أرجوك لنيل المنى
فاليوم لا أطلب إلا الرضا
شقينا بالنوى زمنا فلما تلاقينا كأنا ما شقينا
سخطنا عندما جنت الليالي وما زالت بنا حتى رضينا
ومن لم يحي بعد الموت يوما فإنا بعد ما متنا حيينا
وفي هذه السنة استدعى الخليفة الناصر قاضي الموصل ضياء الدين بن الشهرزوري ، فولاه قضاء قضاة بغداد . وفي هذه السنة وقعت فتنة بدمشق بسبب الحافظ عبد الغني المقدسي ; وذلك أنه كان يتكلم في مقصورة الحنابلة بالجامع الأموي ، فذكر يوما شيئا من العقائد فاجتمع القاضي محيي الدين بن الزكي وضياء الدين الخطيب الدولعي بالسلطان المعظم والأمير صارم الدين بزغش ، فعقد له مجلس فيما يتعلق بمسألة الاستواء على العرش والنزول والحرف والصوت ، فوافق النجم الحنبلي بقية الفقهاء واستمر الحافظ على ما يقوله لم يرجع عنه واجتمع بقية الفقهاء عليه وألزموه بإلزامات شنيعة لم يلتزمها ، حتى قال له الأمير بزغش : كل هؤلاء على الضلالة وأنت وحدك على الحق ؟ ! قال : نعم . فغضب الأمير عند ذلك ، وأمر بنفيه من البلد ، فاستنظره ثلاثة أيام ، فأنظره ، وأرسل بزغش الأسارى من القلعة ، فكسروا منبر الحافظ ، وتعطلت صلاة الظهر يومئذ في محراب الحنابلة ، وأخرجت الخزائن والصناديق التي كانت هناك ، وجرت خبطة شديدة ، نعوذ بالله من الفتن ، ما ظهر منها وما بطن ، وكان عقد المجلس يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي الحجة ، فارتحل الحافظ عبد الغني إلى بعلبك ، ثم سار إلى الديار المصرية ، فآواه المحدثون ، فحنوا عليه وأكرموه .