الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر عدة حوادث

            في سنة سبع وستمائة، في شهر ربيع الآخر ، درس القاضي أبو زكريا يحيى بن القاسم بن المفرج ، قاضي تكريت ، بالمدرسة النظامية ببغداد استدعي من تكريت إليها .

            وفيها نقصت دجلة بالعراق نقصا كثيرا ، حتى كان الماء يجري ببغداد في نحو خمسة أذرع ، وأمر الخليفة أن يكرى دجلة ، فجمع الخلق الكثير ، وكانوا كلما حفروا شيئا عاد الرمل فغطاه ، وكان الناس يخوضون دجلة فوق بغداد ، وهذا لم يعهد مثله .

            وحج بالناس هذه السنة علاء الدين محمد ولد الأمير مجاهد الدين ياقوت أمير الحاج ، وكان أبوه قد ولاه الخليفة خوزستان ، وجعله هو أمير الحاج ، وجعل معه من يدبر الحاج ، لأنه كان صبيا . ذكر الشيخ شهاب الدين في " الذيل " أن في هذه السنة تمالأت ملوك الجزيرة; صاحب الموصل وصاحب سنجار ، وصاحب إربل ، ومعهم ابن أخيه الظاهر صاحب حلب وملك الروم أيضا ، على مخالفة العادل ومنابذته ومقاتلته واصطلام الملك من يده ،  وأن تكون الخطبة للملك كيخسرو بن قليج أرسلان صاحب الروم ، وأرسلوا إلى الكرج ليقدموا لحصار خلاط وأخذها من يد الملك الأوحد بن العادل ، ووعدهم النصر والمعاونة عليه . قلت : وهذا بغي وعدوان ينهى الله عنه ، فأقبلت الكرج بملكهم إيواني ، فحاصروا خلاط ، فضاق بهم الأوحد ذرعا ، وقال : هذا يوم عصيب . فقدر الله تعالى أن في يوم الاثنين تاسع عشر ربيع الآخر اشتد حصارهم للبلد ، وأقبل ملكهم إيواني وهو راكب على جواده وهو سكران ، فسقط به جواده في بعض الحفر التي قد أعدت مكيدة حول البلد ، فبادر إليه رجال البلد ، فأخذوه أسيرا حقيرا ، فأسقط في أيدي الكرج ، فلما أوقف بين يدي الأوحد أطلقه ومن عليه ، وأكرمه وأحسن إليه ، وفاداه على مائتي ألف دينار وألفي أسير من المسلمين ، وتسليم إحدى وعشرين قلعة متاخمة لبلاد الأوحد ، وأن يزوج ابنته من أخيه الملك الأشرف موسى ، وأن يكون عونا له على من يحاربه ، فأجابه إلى ذلك كله ، فأخذت الأيمان منه بذلك ، وبعث الأوحد إلى أبيه يستأذنه في ذلك كله ، والعادل نازل بظاهر حران في أشد حيرة مما قد دهمه من الأمر الفظيع ، فبينما هو كذلك إذ أتاه هذا الأمر الهائل والتدبير من عزيز حكيم ، لم يكن في باله ولا حسابه ، فكاد يذهل فرحا وسرورا ، وأجاز جميع ما فعله ولده ، وطارت الأخبار بما وقع بين الملوك ، فخضعوا وذلوا عند ذلك ، وأرسل كل منهم يعتذر مما نسب إليه ، ويحيل على غيره ، فقبل منهم اعتذاراتهم ، وصالحهم صلحا أكيدا ، واستقبل الملك عقدا جديدا . ووفى ملك الكرج للأوحد بجميع ما شرطه عليه ، وتزوج الأشرف ابنته . ومن غريب ما ذكره الشيخ أبو شامة في هذه الكائنة أن قسيس الملك كان حزاء ينظر في النجوم ، فقال للملك قبل ذلك بيوم : اعلم أنك تدخل غدا إلى قلعة خلاط ولكن بزي غير زيك أذان العصر . فوافق دخوله إليها أسيرا وقت أذان العصر . قال أبو شامة : وفي سابع شوال شرع في عمارة المصلى; بني له أربع جدر مشرفة ، وجعل له أبواب صونا لمكانه من الميتات ونزول القوافل ، وجعل في قبلته محراب من حجارة ومنبر من حجارة ، وعقدت فوق ذلك قبة ، ثم في سنة ثلاث عشرة عمل في قبلته رواقان ، وعمل له منبر من خشب ، ورتب له خطيب راتب وإمام راتب ، ومات العادل ولم يتم الرواق الثاني منه ، وذلك كله على يد الوزير صفي الدين بن شكر . قال : وفي حادي عشر شوال من هذه السنة جددت أبواب الجامع الأموي من ناحية باب البريد بالنحاس الأصفر ، وركبت في أماكنها .

            وفي شوال أيضا شرع في إصلاح الفوارة والشاذروان والبركة وعمل عندها مسجد ، وجعل له إمام راتب ، وأول من تولاه رجل يقال له : النفيس المصري .

            وكان يقال له : بوق الجامع ، لطيب صوته إذا قرأ على الشيخ أبي منصور الضرير المصدر ، فيجتمع عليه الناس الكثير .

            وفي ذي الحجة منها توجهت مراكب من عكا في البحر إلى ثغر دمياط وفيها ملك قبرس المسمى البال ، لعنه الله ، فدخل الثغر ليلا ، وأغار على بعض البلاد ، فقتل وسبى وغنم ، وكر راجعا ، فركب مراكبه ، فلم يدركه الطلب . وقد تقدمت له سابقة بمثلها قبل هذه ، وهذا شيء لم يتفق لغيره .

            وفي هذه السنة عاثت الفرنج بنواحي القدس الشريف فبرز إليهم الملك المعظم في عساكره ،  وجلس الشيخ شمس الدين أبو المظفر بن قزغلي الحنفي ، وهو سبط الشيخ أبي الفرج بن الجوزي ابن ابنته رابعة ، وهو صاحب " مرآة الزمان " ، وكان فاضلا في فنون كثيرة ، حسن الشكل ، طيب الصوت ، وكان يتكلم في الوعظ جيدا ، وتحبه العامة على صيت جده ، وقد رحل من بغداد ، فنزل دمشق وأكرمه ملوكها ، وولي التداريس الكبار بها ، وكان يجلس كل يوم سبت عند باب مشهد علي زين العابدين إلى السارية التي يجلس عندها الوعاظ في زماننا هذا ، فكان يكثر الجمع عنده حتى يكونوا من باب الناطفانيين إلى باب المشهد وإلى باب الساعات غير الوقوف ، فحزر جمعه في بعض الأيام بثلاثين ألفا من الرجال والنساء ، وكان الناس يبيتون ليلة السبت بالجامع في الصيف ويتركون البساتين والفرح في ختمات وأذكار لتحصيل الأماكن بميعاده ، فإذا فرغ من وعظه خرجوا إلى بساتينهم ، وليس لهم كلام إلا فيما قال يومهم ذلك .

            ويحضر عنده الأكابر ، حتى الشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي كان يجلس في القبة التي عند باب المشهد هو ووالي البلد المعتمد ووالي البر ابن ثميرك وغيرهم . فلما جلس يوم السبت خامس ربيع الأول بالجامع - كما ذكرنا - حث الناس على الجهاد ، وأمر بإحضار ما كان قد تحصل عنده من شعور التائبين ، وقد عمل منه شكالات يحملها الرجال ، فلما رآها الناس ضجوا ضجة واحدة ، وتباكوا بكاء كثيرا ، وقطعوا من شعورهم نحوها ، فلما انقضى المجلس ، ## ونزل عن المنبر ، فتلقاه الوالي مبارز الدين المعتمد إبراهيم ، وكان من خيار الناس ، فمشى بين يديه إلى باب الناطفانيين يعضده حتى ركب فرسه ، والناس من بين يديه ومن خلفه ، فخرج من باب الفرج وباب المصلى ، ثم ركب من الغد في الناس إلى الكسوة ، ومعه خلائق كثيرون بنية الجهاد إلى بلاد القدس وكان من جملة من معه ثلاثمائة من أهل زملكا بالعدد التامة . قال : فجئنا عقبة أفيق ، والطير لا يتجاسر أن يطير من خوف الفرنج ، فلما وصلنا نابلس تلقانا المعظم . قال : ولم أكن اجتمعت به قبل ذلك ، فلما رأى الشكالات من شعور التائبين جعل يقبلها ، ويمرغها على وجهه ويبكي . وعمل أبو المظفر ميعادا بنابلس ، وحث على الجهاد ، وكان يوما مشهودا ، ثم ساروا صحبة المعظم إلى ناحية بلاد الفرنج ، فقتلوا خلقا ، وخربوا أماكن كثيرة ، وغنموا وعادوا سالمين ، وشرع المعظم في تحصين جبل الطور وبنى قلعة فيه; ليكون ألبا على الفرنج ، فغرم أموالا كثيرة في ذلك ، فبعث الفرنج إلى العادل يطلبون منه الأمان والمصالحة ، فهادنهم وبطلت تلك العمارة ، وضاع ما كان المعظم غرم عليها .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية