الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            انهزام الكرج من جلال الدين   .

            قد ذكرنا فيما تقدم من السنين ما كان الكرج يفعلونه في بلاد الإسلام : خلاط ، وأذربيجان ، وأران ، وأرزن الروم ، ودربند شروان ، وهذه ولايات تجاور بلادهم ، وما كانوا يسفكون من دماء المسلمين ، وينهبون من أموالهم ، ويملكون من بلادهم ، والمسلمون معهم في هذه البلاد تحت الذل والخزي ، كل يوم قد أغاروا عليهم وقتلوا فيهم ، وقاطعوهم على ما شاءوا من الأموال ، فكنا كلما سمعنا بشيء من ذلك ، سألنا الله - تعالى - نحن والمسلمون ، في أن ييسر للإسلام والمسلمين من يحميهم وينصرهم ، ويأخذ بثأرهم ، فإن أوزبك صاحب أذربيجان منعكف على شهوة بطنه وفرجه ، لا يفيق من سكره ، وإن أفاق ، فهو مشغول بالقمار بالبيض .

            وهذا ما لم يسمع بمثله أن أحدا من الملوك فعله ، لا يهتدي لمصلحة ، ولا يغضب لنفسه بحيث إن بلاده مأخوذة ، وعساكره طماعة ، ورعيته قد قهرها ، وقد كان كل من أراد أن يجمع جمعا ويتغلب على بعض البلاد فعل ، كما ذكرناه من حال بغدي ، وأيبك الشامي ، وإيغان طائيسي ، فنظر الله - تعالى - إلى أهل هذه البلاد المساكين بعين الرحمة ، فرحمهم ويسر لهم جلال الدين هذا ، ففعل بالكرج ما تراه ، وانتقم للإسلام والمسلمين منهم ، فنقول :

            في هذه السنة كان المصاف بين جلال الدين بن خوارزم شاه [ وبين الكرج ، في شهر شعبان ، فإن جلال الدين ] من حين وصل إلى هذه النواحي لا يزال يقول : إنني أريد [ أن ] أقصد بلاد الكرج وأقاتلهم وأملك بلادهم ، فلما ملك أذربيجان ، أرسل إليهم يؤذنهم بالحرب ، فأجابوه بأننا قد قصدنا التتر الذين فعلوا بأبيك ، وهو أعظم منك ملكا ، وأكثر عسكرا ، وأقوى نفسا ، ما تعلمه ، وأخذوا بلادكم ، فلم نبال بهم ، وكان قصاراهم السلامة منا .

            وشرعوا يجمعون العساكر ، فجمعوا ما يزيد على سبعين ألف مقاتل ، فسار إليهم ، فملك مدينة دوين ، وهي للكرج ، كانوا قد أخذوها من المسلمين ، كما ذكرناه ، وسار منها إليهم ، فلقوه وقاتلوه أشد قتال وأعظمه ، وصبر كل منهم لصاحبه ، فانهزم الكرج ، وأمر أن يقتلوا بكل طريق ، ولا يبقوا على أحد منهم ، فالذي تحققناه أنه قتل منهم عشرون ألفا ، وقيل : أكثر من ذلك ، فقيل : الكرج جميعهم قتلوا ، وافترقوا ، وأسر كثير من أعيانهم ، من جملتهم شلوة ، فتمت الهزيمة عليهم ، ومضى إيواني منهزما ، وهو المقدم على الكرج جميعهم ، ومرجعهم إليه ، ومعولهم عليه ، وليس لهم ملك ، إنما الملك امرأة ، ولقد صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة .

            فلما انهزم إيواني ، أدركه الطلب ، فصعد قلعة لهم على طريقهم ، فاحتمى فيها ، وجعل جلال الدين عليها من يحصرها ويمنعه من النزول ، وفرق عساكره في بلاد الكرج ، ينهبون ويقتلون ، ويسبون ويخربون البلاد ، فلولا ما أتاه من تبريز ما أوجب عوده ، لملك البلاد بغير تعب ولا مشقة ; لأن أهلها كانوا قد هلكوا ، فهم بين قتيل وأسير وطريد . وقد اشتغل بهذه الغزوة عن قصد بغداد ، وذلك أنه لما حاصر دقوقا سبه أهلها ، ففتحها قهرا ، وقتل من أهلها خلقا كثيرا ، وخرب سورها ، وعزم على قصد الخليفة ببغداد; لأنه فيما زعم عمل على أبيه حتى هلك ، واستولت التتر على البلاد ، وكتب إلى المعظم بن العادل يستدعيه لقتال الخليفة ، ويحرضه على ذلك ، فامتنع المعظم من ذلك ، ولما علم الخليفة بقصد جلال الدين بن خوارزم شاه بغداد انزعج لذلك ، وحصن بغداد ، واستخدم الجيوش والأجناد ، وأنفق في الناس ألف ألف دينار ، وكان جلال الدين قد بعث جيشا إلى الكرج فكتبوا إليه أن أدركنا قبل أن نهلك عن آخرنا ، وبغداد ما تفوت . فسار إليهم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية