الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            في هذه السنة قلت الأمطار بديار الجزيرة والشام  ، ولا سيما حلب وأعمالها فإنها كانت قليلة بالمرة ، وغلت الأسعار بالبلاد ، وكان أشدها غلاء حلب ، إلا أنه لم يكن بالشديد مثل ما تقدم في السنين الماضية ، فأخرج أتابك شهاب الدين ، وهو والي الأمر بحلب ، والمرجع إلى أمره ونهيه ، وهو المدبر لدولة سلطانها الملك العزيز ابن الملك الظاهر ، والمربي له ، من المال والغلات كثيرا ، وتصدق صدقات دارة ، وساس البلاد سياسة حسنة بحيث لم يظهر للغلاء أثر ، فجزاه الله خيرا . وفيها بنى أسد الدين شيركوه ، صاحب حمص والرحبة ، قلعة عند سلمية ، وسماها سميمس ، وكان الملك الكامل لما خرج من مصر إلى الشام ، قد خدمه أسد الدين ، ونصح له ، وله أثر عظيم في طاعته والمقاتلة بين يديه ، فأقطعه مدينة سلمية ، فبنى هذه القلعة بالقرب من سلمية ، وهي على تل عال .

            وفيها قصد الفرنج الذين بالشام مدينة جبلة ، وهي بين جملة المدن المضافة إلى حلب ، ودخلوا إليها ، وأخذوا منها غنيمة وأسرى ، فسير أتابك شهاب الدين إليهم العساكر مع أمير كان أقطعها ، فقاتل الفرنج ، وقتل منهم كثيرا ، واسترد الأسرى والغنيمة . وفيها رتب إمام بمشهد أبي بكر من جامع دمشق ، وصليت فيه الصلوات الخمس . وفيها درس الشيخ تقي الدين بن الصلاح الشهرزوري الشافعي في المدرسة الجوانية جوار المارستان في جمادى الأولى منها . وفيها درس الناصر ابن الحنبلي بالصاحبة بسفح قاسيون التي أنشأتها الخاتون ربيعة بنت أيوب أخت ست الشام . وفيها حبس الملك الأشرف الشيخ عليا الحريري بقلعة عزتا . وفيها كان غلاء شديد بديار مصر وبلاد الشام وحلب والجزيرة بسبب قلة المياه السماوية والأرضية ، فكانت هذه السنة كما قال الله تعالى : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون [ البقرة : 155 ، 156 ] . وحج الناس في هذه السنة من الشام ، وكان فيمن خرج الشيخ تقي الدين أبو عمرو بن الصلاح ، ثم لم يحج الناس بعد هذه السنة أيضا لكثرة الحروب والخوف من التتر والفرنج ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وفيها تكامل بناء المدرسة التي بسوق العجم من بغداد ، المنسوبة إلى إقبال الشرابي ، وحضر الدرس بها ، وكان يوما مشهودا ، واجتمع فيه جميع المدرسين والمفتين ببغداد ، وعمل بصحنها قباب الحلوى ، فحمل منها إلى جميع المدارس والربط ، ورتب فيها خمسة وعشرين فقيها لهم الجوامك الدارة في كل شهر ، والطعام في كل يوم والحلوات في أوقات المواسم ، والفواكه في زمانها ، وخلع على المدرس والمعيدين والفقهاء يومئذ ، وكان وقتا حسنا ، تقبل الله تعالى منه . وفيها سار الأشرف أبو العباس أحمد بن القاضي الفاضل في الرسلية عن الكامل محمد صاحب مصر إلى الخليفة المستنصر بالله ببغداد ، فأكرم وأعيد معظما . وفيها دخل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين صاحب إربل إلى بغداد ، ولم يكن دخلها قط ، فتلقاه الموكب ، وشافهه الخليفة بالسلام مرتين في وقتين ، وكان ذلك شرفا له ، غبطه به سائر ملوك الآفاق ، وسألوا أن يهاجروا ليحصل لهم مثل ذلك ، فلم يمكنوا لحفظ الثغور ، ورجع إلى مملكته معظما مكرما . ومن الحوادث في أيام المستنصر: في سنة ثمان وعشرين  أمر الملك الأشرف صاحب دمشق ببناء دار الحديث الأشرفية، وفرغت في سنة ثلاثين.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية