الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            استهلت سنة خمسين وسبعمائة وسلطان البلاد المصرية ، والشامية ، والحرمين ، وغير ذلك من البلاد - الملك الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون ، ونائب الديار المصرية ومدبر ممالكه والأتابك - سيف الدين يلبغا ، وقضاة الديار المصرية هم المذكورون في التي قبلها ، ونائب الشام الأمير سيف الدين أرغون شاه الناصري ، وقضاة دمشق هم المذكورون في التي قبلها ، وكذلك أرباب الوظائف - سوى الخطيب ، وسوى المحتسب .

            وفي هذه السنة - ولله الحمد - تقاصر أمر الطاعون جدا ، ونزل ديوان المواريث إلى العشرين وما حولها بعد أن بلغ الخمسمائة في أثناء سنة تسع وأربعين كما تقدم ، ولكن لم يرتفع بالكلية; فإن في يوم الأربعاء رابع شهر الله المحرم توفي الفقيه شهاب الدين أحمد بن الثقة ، هو وابنه وأخوه في ساعة واحدة بهذا المرض ، وصلي عليهم جميعا ، ودفنوا في قبر ، واحد رحمهم الله تعالى .

            وفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين من المحرم توفي صاحبنا الشيخ الإمام العالم العابد الزاهد الناسك الخاشع ناصر الدين محمد بن محمد بن محمد بن عبد القادر بن الصائغ الشافعي ، مدرس العمادية ، كان رحمه الله لديه فضائل كثيرة على طريقة السلف الصالح ، وفيه عبادة كثيرة ، وتلاوة ، وقيام ليل ، وسكون حسن ، وخلق حسن ، جاوز الأربعين بنحو من ثلاث سنين - رحمه الله - وأكرم مثواه .

            وفي يوم الأربعاء ثالث صفر باشر تقي الدين بن رافع المحدث مشيخة دار الحديث النورية ، وحضر عنده جماعة من الفضلاء ، والقضاة ، والأعيان . موت نائب حلب وفي أوائل شهر جمادى الآخرة جاء الخبر بموت نائب حلب سيف الدين قطليشا ، ففرح كثير من الناس بموته ، وذلك لسوء أعماله في مدينة حماة في زمن الطاعون ، وذكروا أنه كان يحتاط على التركة وإن كان فيها ولد ذكر أو غيره ، ويأخذ من أموال الناس جهرة ، حتى حصل له منها شيء كثير ، ثم نقل إلى حلب بعد نائبها الأمير سيف الدين أرقطاي الذي كان عين لنيابة دمشق بعد موت أرغون شاه ، وخرج الناس لتلقيه ، فما هو إلا أن برز منزلة واحدة من حلب فمات بتلك المنزلة ، فلما صار قطليشا إلى حلب لم يقم بها إلا يسيرا حتى مات ، ولم ينتفع بتلك الأموال التي كان حصلها ، لا في دنياه ولا في أخراه .

            ولما كان يوم الخميس الحادي عشر من جمادى الآخرة دخل الأمير سيف الدين أيتمش الناصري من الديار المصرية إلى دمشق نائبا عليها ، وبين يديه الجيش على العادة ، فقبل العتبة ، ولبس الحياصة والسيف ، وأعطي تقليده ومنشوره هنالك ، ثم وقف في الموكب على عادة النواب ، ورجع إلى دار السعادة ، وحكم ، وفرح الناس به ، وهو حسن الشكل ، تام الخلقة ، وكان الشام بلا نائب مستقل قريبا من شهرين ونصف ، وفي يوم دخوله حبس أربعة من أمراء الطبلخاناه; وهم القاسمي ، وأولاد الأبوبكري الثلاثة ، اعتقلهم في القلعة لممالأتهم ألجيبغا المظفري على أرغون شاه نائب الشام .

            وفي يوم الاثنين خامس عشر جمادى الآخرة حكم القاضي نجم الدين ابن القاضي عماد الدين الطرسوسي الحنفي ، وذلك بتوقيع سلطاني ، وخلعة من الديار المصرية .

            وفي يوم الثلاثاء سادس عشر جمادى الآخرة حصل الصلح بين قاضي القضاة تقي الدين السبكي ، وبين الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية ، على يدي الأمير سيف الدين بن فضل ملك العرب ، في بستان قاضي القضاة ، وكان قد نقم عليه إكثاره من الفتيا بمسألة الطلاق .

            نقل جثة سف الدين أرغون شاه من مقابر الصوفية إلى تربته وفي يوم الجمعة السادس والعشرين منه نقلت جثة الأمير سيف الدين أرغون شاه من مقابر الصوفية إلى تربته التي أنشأها تحت الطارمة ، وشرع في تكميل التربة والمسجد الذي قبلها ، وذلك أنه عاجلته المنية على يدي ألجيبغا المظفري قبل إتمامهما ، وحين قتلوه ذبحا دفنوه ليلا في مقابر الصوفية قريبا من قبر الشيخ تقي الدين بن الصلاح ، ثم حول إلى تربته في الليلة المذكورة .

            وفي يوم السبت تاسع عشر رجب أذن المؤذنون للفجر قبل الوقت بقريب من ساعة ، فصلى الناس في الجامع الأموي على عادتهم في ترتيب الأئمة ، ثم رأوا الوقت باقيا ، فأعاد الخطيب الفجر بعد صلاة الأئمة كلهم ، وأقيمت الصلاة ثانيا ، وهذا شيء لم يتفق مثله .

            وفي يوم الخميس ثامن شهر شعبان توفي قاضي القضاة علاء الدين بن منجا الحنبلي بالمسمارية ، وصلي عليه الظهر بالجامع الأموي ، ثم بظاهر باب النصر ، ودفن بسفح قاسيون ، رحمه الله .

            وفي يوم الاثنين من رمضان بكرة النهار استدعي الشيخ جمال الدين المرداوي من الصالحية إلى دار السعادة ، وكان تقليد القضاء لمذهبه قد وصل إليه قبل ذلك بأيام ، فأحضرت الخلعة بين يدي النائب والقضاة الباقين ، وأريد على لبسها وقبول الولاية ، فامتنع من ذلك ، فألحوا عليه فصمم ، وبالغ في الامتناع جدا ، وخرج وهو مغضب ، فراح إلى الصالحية فبالغ الناس في تعظيمه ، وبقي القضاة يوم ذلك في دار السعادة ، ثم بعثوا إليه بعد الظهر فحضر من الصالحية ، فلم يزالوا به حتى قبل ولبس الخلعة ، وخرج إلى الجامع فقرئ تقليده بعد العصر ، واجتمع معه القضاة وهنأه الناس بذلك ، وفرحوا به; لديانته ، وصيانته ، وفضيلته ، وأمانته .

            وبعد هذا اليوم بأيام حكم الفقيه شمس الدين محمد بن مفلح الحنبلي نيابة عن قاضي القضاة جمال الدين المرداوي المقدسي ، وابن مفلح زوج ابنته .

            وفي العشر الأخير من ذي القعدة حضر الفقيه الإمام المحدث المفيد أمين الدين الإيجي المالكي مشيخة دار الحديث بالمدرسة الناصرية الجوانية ، نزل له عنها الصدر أمين الدين بن القلانسي وكيل بيت المال ، وحضر عنده الأكابر والأعيان .

            وفي أواخر هذه السنة تكامل بناء التربة التي تحت الطارمة المنسوبة إلى الأمير سيف الدين أرغون شاه ، الذي كان نائب السلطنة بدمشق ، وكذلك القبلي منها ، وصلى فيها الناس ، وكان قبل ذلك مسجدا صغيرا فعمره ، وكبره ، وجاء كأنه جامع ، تقبل الله منه .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية