الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            استهلت سنة ثلاث وستين وسبعمائة وسلطان الديار المصرية ، والشامية ، والحرمين الشريفين ، وما والاهما من الممالك الإسلامية - السلطان الملك المنصور صلاح الدين محمد ابن الملك المظفر أمير حاج ابن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون  ، وهو شاب دون العشرين ، ومدبر الممالك بين يديه الأمير يلبغا ، ونائب الديار المصرية قشتمر ، وقضاتها هم المذكورون في التي قبلها ، والوزير سيف الدين قروينة ، وهو مريض مدنف ، ونائب الشام بدمشق الأمير علاء الدين المارداني ، وقضاته هم المذكورون في التي قبلها ، وكذلك الخطيب ، ووكيل بيت المال ، والمحتسب علاء الدين الأنصاري ، عاد إليها في السنة المنفصلة ، وحاجب الحجاب قماري ، والذي يليه السليماني ، وآخر من مصر أيضا ، وكاتب السر القاضي ناصر الدين محمد بن يعقوب الحلبي ، وناظر الجامع القاضي تقي الدين بن مراجل . وأخبرني قاضي القضاة تاج الدين الشافعي أنه جدد في أول هذه السنة قاض حنفي بمدينة صفد المحروسة مع الشافعي ، فصار في كل من حماة وطرابلس وصفد قاضيان; شافعي ، وحنفي .

            قدوم نائب السلطنة وفي ثاني المحرم قدم نائب السلطنة بعد غيبة نحو من خمسة عشر يوما ، وقد أوطأ بلاد قرير بالرعب ، وأخذ من مقدميهم طائفة فأودعهم الحبس ، وكان قد اشتهر أنه قصد العشيرات المواسين ببلاد عجلون ، فسألته عن ذلك حين سلمت عليه ، فأخبرني أنه لم يتعد ناحية قرير ، وأن العشيرات قد اصطلحوا ، واتفقوا ، وأن التجريدة عندهم هناك ، وقد كبس الأعراب من حرم الترك فهزمهم الترك ، وقتلوا منهم خلقا كثيرا ، ثم ظهر للعرب كمين فلجأ الترك إلى واد حرج فحصروهم هنالك ، ثم ولت الأعراب فرارا ، ولم يقتل من الترك أحد ، وإنما جرح منهم أمير واحد فقط ، وقتل من الأعراب فوق الخمسين نفسا .

            وقدم الحجاج يوم الأحد الثاني والعشرين من المحرم ، ودخل المحمل السلطاني ليلة الاثنين بعد العشاء ، ولم يحتفل لدخوله كما جرت به العادة; وذلك لشدة ما نال الركب في الرجعة من زيزاء إلى هنا من البرد الشديد ، بحيث إنه قد قيل : إنه مات منهم بسبب ذلك نحو المائة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولكن أخبروا برخص كثير ، وأمن ، وبموت ثقبة أخي عجلان صاحب مكة ، وقد استبشر بموته أهل تلك البلاد لبغيه على أخيه عجلان العادل فيهم . الخلع على القاضي عماد الدين بن الشيرجي بعود الحسبة إليه وفي يوم الخميس الثالث والعشرين من صفر خلع على القاضي عماد الدين بن الشيرجي بعود الحسبة إليه; بسبب ضعف علاء الدين الأنصاري عن القيام بها; لشغله بالمرض المدنف ، وهنأه الناس على العادة .

            وفي ليلة السبت السادس والعشرين من صفر توفي الشيخ علاء الدين الأنصاري ، المذكور بالمدرسة الأمينية ، وصلي عليه الظهر بالجامع الأموي ، ودفن بمقابر باب الصغير خلف محراب جامع جراح ، في تربة هنالك ، وقد جاوز الأربعين سنة ، ودرس في الأمينية ، وفي الحسبة مرتين ، وترك أولادا صغارا ، وأموالا جزيلة ، سامحه الله ورحمه ، وولي المدرسة بعده قاضي القضاة تاج الدين بن السبكي بمرسوم كريم شريف .

            وفي العشر الأخير من صفر بلغنا وفاة قاضي قضاة المالكية الأخنائي بمصر ، وتولية أخيه برهان الدين ابن قاضي القضاة  علم الدين الأخنائي الشافعي أبوه - قاضيا مكان أخيه ، وقد كان على الحسبة بمصر مشكور السيرة فيها ، وأضيف إليه نظر الخزانة كما كان أخوه .

            وفي صبيحة يوم الأحد رابع عشر ربيع الأول كان ابتداء حضور قاضي القضاة تاج الدين أبي نصر عبد الوهاب ابن قاضي القضاة تقي الدين أبي الحسن بن عبد الكافي السبكي الشافعي - تدريس الأمينية عوضا عن الشيخ علاء الدين المحتسب ، بحكم وفاته ، رحمه الله - كما ذكرنا ، وحضر عنده خلق من العلماء ، والأمراء ، والفقهاء ، والعامة ، وكان درسا حافلا ، أخذ في قوله تعالى : أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله الآية وما بعدها [ النساء : 54 ] . فاستنبط أشياء حسنة ، وذكر ضربا من العلوم بعبارة طلقة جارية معسولة ، أخذ ذلك من غير تلعثم ، ولا تلجلج ، ولا تكلف ، فأجاد ، وأفاد ، وشكره الخاصة والعامة من الحاضرين ، وغيرهم ، حتى قال بعض الأكابر : إنه لم يسمع درسا مثله .

            وفاة الصدر برهان الدين إبراهيم بن لؤلؤ الحوضي وفي يوم الاثنين الخامس والعشرين منه توفي الصدر برهان الدين إبراهيم بن لؤلؤ الحوضي ، في داره بالقصاعين ، ولم يمرض إلا يوما واحدا ، وصلي عليه من الغد بجامع دمشق بعد صلاة الظهر ، وخرجوا به من باب النصر ، فخرج نائب السلطنة الأمير علي ، فصلى عليه إماما خارج باب النصر ، ثم ذهبوا به فدفنوه بمقابرهم بباب الصغير ، فدفن عند أبيه رحمهما الله ، وكان - رحمه الله - فيه مروءة ، وقيام مع الناس ، وله وجاهة عند الدولة ، وقبول عند نواب السلطنة وغيرهم ، ويحب العلماء وأهل الخير ، ويواظب على سماع مواعيد الحديث والخير ، وكان له مال ، وثروة ، ومعروف ، وقارب الثمانين - رحمه الله .

            وجاء البريد من الديار المصرية فأخبر بموت الشيخ شمس الدين محمد بن النقاش المصري بها  ، وكان واعظا باهرا ، وفقيها بارعا ، نحويا شاعرا ، له يد طولى في فنون متعددة ، وقدرة على نسج الكلام ، ودخول على الدولة وتحصيل الأموال ، وهو من أبناء الأربعين ، رحمه الله .

            ولاية قاضي القضاة شرف الدين المالكي وأخبر البريد بولاية قاضي القضاة شرف الدين المالكي البغدادي ، الذي كان قاضيا بالشام للمالكية ، ثم عزل بنظر الخزانة بمصر ، فإنه رتب له معلوم وافر يكفيه ، ويفضل عنه ، ففرح بذلك من يحبه .

            وفي يوم الأحد السابع عشر من ربيع الآخر توفي الرئيس أمين الدين محمد بن الصدر جمال الدين أحمد ابن الرئيس شرف الدين محمد بن القلانسي ، أحد من بقي من رؤساء البلد وكبرائها  ، وقد كان باشر مباشرات كبارا كأبيه وعمه علاء الدين ، ولكن فاق هذا على أسلافه; فإنه باشر وكالة بيت المال مدة ، وولي قضاء العساكر أيضا ، ثم ولي كتابة السر مع مشيخة الشيوخ ، وتدريس الناصرية ، والشامية الجوانية ، وكان قد درس في العصرونية من قبل سنة ست وثلاثين ، ثم لما قدم السلطان في السنة الماضية عزل عن مناصبه الكبار ، وصودر بمبلغ كثير يقارب مائتي ألف ، فباع كثيرا من أملاكه ، وما بقي بيده من وظائفه شيء ، وبقي خاملا مدة إلى يومه هذا ، فتوفي بغتة ، وكان قد تشوش قليلا لم يشعر به أحد ، وصلي عليه العصر بجامع دمشق ، وخرجوا به من باب الناطفانيين إلى تربتهم التي بسفح قاسيون - رحمه الله .

            الخلع على القاضي جمال الدين ابن قاضي القضاة شرف الدين الكفري الحنفي وفي صبيحة يوم الاثنين ثامن عشره خلع على القاضي جمال الدين ابن قاضي القضاة شرف الدين الكفري الحنفي ، وجعل مع أبيه شريكا في القضاء ، ولقب في التوقيع الوارد صحبة البريد من جهة السلطان : قاضي القضاة . فلبس الخلعة بدار السعادة ، وجاء ومعه قاضي القضاة تاج الدين السبكي إلى النورية ، فقعد في المسجد ، ووضعت الربعة فقرئت ، وقرئ القرآن ، ولم يكن درسا ، وجاءت الناس للتهنئة بما حصل من الولاية له مع أبيه .

            وفي صبيحة يوم الثلاثاء توفي الشيخ الصالح العابد الناسك الخاشع فتح الدين ابن الشيخ زين الدين الفارقي ، إمام دار الحديث الأشرفية ، وخازن الأثر بها ، ومؤذن في الجامع ، وقد أتت عليه تسعون سنة في خير وصيانة وتلاوة وصلاة كثيرة ، وانجماع عن الناس ، صلي عليه صبيحة يومئذ ، وخرج به من باب النصر إلى نحو الصالحية رحمه الله .

            وفي صبيحة يوم الاثنين عاشر جمادى الأولى ورد البريد - وهو قرابغا دوادار نائب الشام الصغير - ومعه تقليد بقضاء قضاة الحنفية للشيخ جمال الدين يوسف ابن قاضي القضاة شرف الدين الكفري ، بمقتضى نزول أبيه له عن ذلك ، فلبس الخلعة بدار السعادة ، وأجلس تحت المالكي ، ثم جاءوا إلى المقصورة من الجامع ، وقرئ تقليده هنالك ، قرأه شمس الدين بن السبكي نائب الحسبة ، واستناب اثنين من أصحابهم; وهما شمس الدين بن منصور ، وبدر الدين بن الجواشني ، ثم جاء معه القضاة إلى النورية فدرس بها ، ولم يحضره والده بشيء من ذلك . وفي جمادى الأولى توجه الرسول من الديار المصرية ، ومعه سناجق خليفتية ، وسلطانية ، وتقاليد ، وخلع ، وتحف لصاحبي الموصل وسنجار من جهة صاحب مصر ليخطب له فيهما ، وولى قاضي القضاة تاج الدين الشافعي السبكي الحاكم بدمشق لقاضيهما من جهته تقليدين - حسب ما أخبرني بذلك - وأرسلا مع ما أرسل به السلطان إلى البلدين ، وهذا أمر غريب لم يقع مثله فيما تقدم فيما أعلم ، والله أعلم .

            خروج نائب السلطنة إلى مرج الغسولة وفي جمادى الآخرة خرج نائب السلطنة إلى مرج الغسولة ، ومعه حجبته ، ونقباء النقباء ، وكاتب السر وذووه ، ومن عزمهم الإقامة مدة ، فقدم من الديار المصرية أمير على البريد ، فأسرعوا الأوبة ، فدخلوا في صبيحة الأحد الحادي والعشرين منه ، وأصبح نائب السلطنة فحضر الموكب على العادة ، وخلع على الأمير سيف الدين يلبغا الصالحي ، وجاء النص من الديار المصرية بخلعة دوادار ، عوضا عن سيف الدين كجكن ، وخلع في هذا اليوم على الصدر شمس الدين بن مزي بتوقيع الدست ، وجهات أخر ، قدم بها من الديار المصرية ، فانتشر الخبر في هذا اليوم بإجلاس قاضي القضاة جمال الدين بن الكفري الحنفي ، فوق قاضي القضاة المالكية ، لكن لم يحضر في هذا اليوم ، وذلك بعد ما قد أمر بإجلاس المالكي فوقه .

            وفاة القاضي شمس الدين بن مفلح المقدسي الحنبلي وفي ثاني رجب توفي القاضي الإمام العالم شمس الدين بن مفلح المقدسي الحنبلي ، نائب مشيخة قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن محمد المقدسي الحنبلي ، وزوج ابنته ، وله منها سبعة أولاد ذكور وإناث ، وكان بارعا فاضلا متفننا في علوم كثيرة ، ولا سيما علم الفروع ، كان غاية في نقل مذهب الإمام أحمد ، وجمع مصنفات كثيرة; منها على كتاب " المقنع " نحوا من ثلاثين مجلدا ، كما أخبرني بذلك عنه قاضي القضاة جمال الدين ، وعلق على محفوظه أحكام الشيخ مجد الدين ابن تيمية مجلدين ، وله غير ذلك من الفوائد والتعليقات - رحمه الله . توفي عن نحو خمسين سنة ، وصلي عليه بعد الظهر من يوم الخميس ثاني الشهر بالجامع المظفري ، ودفن بمقبرة الشيخ الموفق ، وكانت له جنازة حافلة حضرها القضاة كلهم ، وخلق من الأعيان ، رحمه الله وأكرم مثواه .

            وفي صبيحة يوم السبت رابع رجب ضرب نائب السلطنة جماعة من أهل قبر عاتكة أساءوا الأدب على النائب ومماليكه ، بسبب جامع للخطبة جدد بناحيتهم ، فأراد بعض الفقراء أن يأخذ ذلك الجامع ، ويجعله زاوية للرقاصين ، فحكم القاضي الحنبلي بجعله جامعا قد نصب فيه منبر ، وقد قدم شيخ من الفقراء على يديه مرسوم شريف بتسليمه إليه ، فأنفت أنفس أهل تلك الناحية من عوده زاوية بعد ما كان جامعا ، وأعظموا ذلك ، فتكلم بعضهم بكلام سيئ فاستحضر نائب السلطنة طائفة منهم ، وضربهم بالمقارع بين يديه ، ونودي عليهم في البلد ، فأراد بعض العامة إنكارا لذلك ، وحدد ميعاد حديث يقرأ بعد المغرب تحت قبة النسر على الكرسي الذي يقرأ عليه المصحف ، رتبه أحد أولاد القاضي عماد الدين بن الشيرازي ، وحدث فيه الشيخ عماد الدين بن السراج ، واجتمع عنده خلق كثير ، وجم غفير ، وقرأ في السيرة النبوية من خطي ، وذلك في العشر الأول من هذا الشهر . وخرج المحمل السلطاني يوم الخميس ثاني عشر شوال ، وأمير الحاج الملك صلاح الدين ابن الملك الكامل بن السعيد ابن العادل الكبير ، وقاضيه الشيخ بهاء الدين بن سبع - مدرس الأمينية ببعلبك . الحكم بعود ما يخص المجاهدين من وقف المدرسة التقوية وفي هذا الشهر وقع الحكم بعود ما يخص المجاهدين من وقف المدرسة التقوية إليهم ، وأذن القضاة الأربعة إليهم بحضرة ملك الأمراء في ذلك .

            وفي ليلة الأحد سادس شهر ذي القعدة توفي القاضي ناصر الدين محمد بن يعقوب كاتب السر ، وشيخ الشيوخ ، ومدرس الناصرية الجوانية ، والشامية الجوانية بدمشق ، ومدرس الأسدية بحلب ، وقد باشر كتابة السر بحلب أيضا ، وقضاء العساكر ، وأفتى من زمان ولاية الشيخ كمال الدين بن الزملكاني قضاء حلب ، أذن له هنالك في حدود سنة سبع وعشرين وسبعمائة ، ومولده سنة سبع وسبعمائة ، وقد قرأ " التنبيه " ، و " مختصر ابن الحاجب " في الأصول وفي العربية ، وكان عنده نباهة وممارسة للعلم ، وفيه جودة طباع وإحسان بحسب ما يقدر عليه ، وليس يتوسم منه سوء ، وفيه ديانة وعفة ، حلف لي في وقت بالأيمان المغلظة أنه لم يكن قط منه فاحشة اللواط ، ولا خطر له ذلك ، ولم يزن ، ولم يشرب مسكرا ، ولا أكل حشيشة ، فرحمه الله وأكرم مثواه . صلي عليه بعد الظهر يومئذ ، وخرجوا بالجنازة من باب النصر ، فخرج نائب السلطنة من دار السعادة ، فحضر الصلاة عليه هنالك ، ودفن بمقبرة لهم بالصوفية ، وتأسفوا عليه ، وترحموا ، وتزاحم جماعة من الفقهاء في طلب مدارسه .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية