الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            استهلت سنة ست وستين وسبعمائة والسلطان الملك الأشرف ناصر الدين شعبان ، والدولة بمصر والشام هم هم . ودخل المحمل السلطاني في صبيحة يوم الاثنين الرابع والعشرين منه ، وذكروا أنهم نالهم في الرجعة شدة شديدة من الغلاء ، وموت الجمال ، وهرب الجمالين ، وقدم مع الركب الشامي ممن خرج من الديار المصرية قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح ، وقد سبقه التقليد بقضاء القضاة مع خاله تاج الدين ، يحكم فيما يحكم فيه مستقلا معه منفردا بعده .

            رسم نائب السلطنة بتخريب قريتين من وادي التيم وفي شهر الله المحرم رسم نائب السلطنة بتخريب قريتين من وادي التيم ، وهما مشغرا وتلفيتا ، وسبب ذلك أنهما عاصيان ، وأهلهما مفسدان في الأرض والبلدان والأرض حصينان لا يصل إليهما إلا بكلفة كثيرة ، لا يرتقي إليهما إلا فارس فارس ، فخربتا ، وعمر بدلهما في أسفل الوادي ، بحيث يصل إليهما حكم الحاكم ، والطلب بسهولة ، فأخبرني الملك صلاح الدين بن الكامل أن بلدة تلفيتا عمل فيها ألف فارس ، ونقل بعضها إلى أسفل الوادي خمسمائة حمار عدة أيام .

            وفاة قاضي القضاة جمال الدين يوسف ابن قاضي القضاة شرف الدين وفي يوم الجمعة سادس صفر بعد الصلاة صلي على قاضي القضاة جمال الدين يوسف ابن قاضي القضاة شرف الدين أحمد ابن أقضى القضاة الحسين الكفري الحنفي ، وكانت وفاته ليلة الجمعة المذكورة بعد مرض قريب من شهر ، وقد جاوز الأربعين بثلاث من السنين ، ولي قضاء قضاة الحنفية ، وخطب بجامع يلبغا ، وحضر مشيخة النفيسية ، ودرس بأماكن من مدارس الحنفية ، وهو أول من خطب بالجامع المستجد داخل باب كيسان بحضرة نائب السلطنة .

            وفي صفر كانت وفاة الشيخ جمال الدين عمر ابن القاضي عبد المحيي بن إدريس الحنفي محتسب بغداد ، وقاضي الحنابلة بها ، فتعصبت عليه الروافض حتى ضرب بين يدي الوزارة ضربا مبرحا كان سبب موته سريعا ، رحمه الله ، وكان من القائمين بالحق ، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، من أكبر المنكرين على الروافض وغيرهم من أهل البدع ، رحمه الله ، وبل بالرحمة ثراه .

            وفي يوم الأربعاء تاسع صفر حضر مشيخة النفيسية الشيخ شمس الدين بن سند ، وحضر عنده قاضي القضاة تاج الدين ، وجماعة من الأعيان ، وأورد حديث عبادة بن الصامت : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب . أسنده عن قاضي القضاة المشار إليه .

            وجاء البريد من الديار المصرية بطلب قاضي القضاة تاج الدين إلى هناك ، فسير أهله قبله على الجمال ، وخرجوا يوم الجمعة حادي عشر ربيع الأول جماعة من أهل بيتهم لزيارة أهليهم هناك ، فأقام هو بعدهم حتى قدم نائب السلطنة من الرحبة ، وركب على البريد .

            وفي يوم الاثنين خامس عشر جمادى الآخرة رجع قاضي القضاة تاج الدين السبكي من الديار المصرية على البريد ، وتلقاه الناس إلى أثناء الطريق ، واحتفلوا للسلام عليه وتهنئته بالسلامة . وفي يوم الاثنين الثاني والعشرين منه استحضر نائب السلطنة الأمير ناصر الدين بن العاوي متولي البلد ، ونقم عليه أشياء ، وأمر بضربه ، فضرب بين يديه على أكتافه ضربا ليس بمبرح ، ثم عزله ، واستدعى بالأمير علم الدين سليمان أحد الأمراء العشراوات ابن الأمير صفي الدين بن أبي القاسم البصراوي أحد أمراء الطبلخاناه ، كان قد ولي شد الدواوين ، ونظر القدس والخليل ، وغير ذلك من الولايات الكبار ، وهو ابن الشيخ فخر الدين عثمان ابن الشيخ صفي الدين أبي القاسم التميمي الحنفي ، وبأيديهم تدريس الأمينية التي ببصرى ، والحكيمية أزيد من مائة سنة ، فولاه البلد على تكره منه فألزمه بها ، وخلع عليه ، وقد كان وليها قبل ذلك فأحسن السيرة ، وشكر سعيه لديانته ، وأمانته ، وعفته ، وفرح الناس به ، ولله الحمد .وفاة الشيخ على المراوحي البغدادي وفي يوم الاثنين سابع رجب توفي الشيخ علي المراوحي البغدادي خادم الشيخ أسد المراوحي البغدادي ، وكان فيه مروءة كبيرة ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويدخل على النواب ، ويرسل إلى الولاة فتقبل رسالته ، وله قبول عند الناس ، وفيه بر ، وصدقة ، وإحسان إلى المحاويج ، وبيده مال جيد يتجر له فيه ، تعلل مدة طويله ، ثم كانت وفاته في هذا اليوم ، فصلي عليه الظهر بالجامع ثم حمل إلى سفح قاسيون ، رحمه الله .

            وفي صبيحة يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شعبان قدم الأمير سيف الدين بيدمر الذي كان نائب الشام فنزل بداره عند مئذنة فيروز ، وذهب الناس للسلام عليه بعد ما سلم على نائب السلطنة بدار السعادة ، وقد رسم له بطبلخانتين وتقدمة ألف ، وولاية الولاة من غزة إلى أقصى بلاد الشام ، وأكرمه ملك الأمراء إكراما زائدا ، وفرحت العامة بذلك فرحا شديدا بعوده إلى الولاية .

            وختمت البخاريات بالجامع الأموي وغيره في عدة أماكن; من ذلك ستة مواعيد تقرأ على الشيخ عماد الدين بن كثير في اليوم ، أولها بمسجد ابن هشام بكرة قبل طلوع الشمس ، ثم تحت النسر ، ثم بالمدرسة النورية ، وبعد الظهر بجامع تنكز ، ثم بالمدرسة العزية ، ثم بالكوشك لأم الزوجة الست أسماء بنت الوزير ابن السلعوس إلى أذان العصر ، ثم من بعد العصر بدار ملك الأمراء أمير علي بمحلة القصاعين إلى قريب الغروب ، ويقرأ " صحيح مسلم " بمحراب الحنابلة داخل باب الزيارة بعد قبة النسر وقبل النورية ، والله المسئول ، وهو المعين الميسر المسهل . وقد قرئ في هذه السنة في عدة أماكن أخر من دور الأمراء وغيرهم ، ولم يعهد مثل هذا في السنين الماضية ، فلله الحمد والمنة .

            وفاة الشيخ نور الدين على بن الصارم الشوبكي وفي يوم الثلاثاء عاشر شوال توفي الشيخ نور الدين علي بن الصارم بن إبراهيم بن أبي الهيجاء الكركي الشوبكي ثم الدمشقي الشافعي ، كان معنا في المقرأ والكتاب ، وختمت أنا وهو في سنة إحدى عشرة ، ونشأ في صيانة ، وعفاف ، وقرأ على الشيخ بدر الدين بن سيحان للسبع ، ولم يكمل عليه ختمة ، واشتغل في " المنهاج " للنواوي ، فقرأ كثيرا منه أو أكثره ، وكان ينقل منه ويستحضر ، وكان خفيف الروح تحبه الناس لذلك ، ويرغبون في عشرته لذلك ، رحمه الله ، وكان يستحضر المتشابه في القرآن استحضارا حسنا متقنا ، كثير التلاوة له ، حسن الصلاة ، يقوم الليل ، وقرأ علي " صحيح البخاري " بمشهد ابن هشام عدة سنين ، ومهر فيه ، وكان صوته جهوريا فصيح العبارة ، ثم ولي مشيخة الحلبية بالجامع ، وقرأ في عدة كراس بالحائط الشمالي ، وكان مقبولا عند الخاصة والعامة ، وكان يداوم على قيام العشر الأخير في محراب الصحابة مع عدة قراء ، يتناوبون فيه ، ويحيون الليل ، ولما كان في هذه السنة أحيا ليلة العيد وحده بالمحراب المذكور ، ثم مرض خمسة أيام ، ثم مات بعد الظهر يوم الثلاثاء عاشر شوال بدرب العميد ، وصلي عليه العصر بالجامع الأموي ، ودفن بمقابر الباب الصغير عند والده في تربة لهم ، وكانت جنازته حافلة ، وتأسف الناس عليه ، رحمه الله ، وبل بالرحمة ثراه ، وقد قارب خمسا وستين سنة ، وترك بنتا سباعية اسمها عائشة ، وقد أقرأها شيئا من القرآن إلى " تبارك " ، وحفظها " الأربعين النواوية " ، جبرها ربها ورحم أباها ، آمين .

            وخرج المحمل الشامي والحجيج يوم الخميس ثاني عشره ، وأميرهم الأمير علاء الدين علي بن علم الدين الهلالي أحد أمراء الطبلخاناه .

            وتوفي الشيخ عبد الله الملطي يوم السبت رابع عشره ، وكان مشهورا بالمجاورة بالكلاسة في الجامع الأموي ، له أشياء كثيرة من الطراريح والآلات الفقيرية ، ويلبس على طريقة الحريرية ، وشكله مزعج ، ومن الناس من كان يعتقد فيه الصلاح ، وكنت ممن يكرهه طبعا وشرعا أيضا .

            وفي يوم الخميس الخامس والعشرين من ذي القعدة قدم البريد من ناحية المشرق ، ومعهم قماقم ماء من عين هناك من خاصيته أنه يتبعه طير يسمى السمرمر ، أصفر الريش ، قريب من شكل الخطاف ، من شأنه إذا قدم الجراد إلى البلد الذي هو فيه أنه يفنيه ، ويأكله أكلا سريعا ، فلا يلبث الجراد إلا قليلا حتى يرحل أو يؤكل على ما ذكر ، ولم أشاهد ذلك .

            وفي المنتصف من ذي الحجة كمل بناء القيسارية التي كانت معملا بالقرب من دار الحجارة قبلي سوق الدهشة الذي للرجال ، وفتحت وأكريت دهشة لقماش النساء ، وذلك كله بمرسوم ملك الأمراء ناظر الجامع المعمور ، رحمه الله ، وأخبرني الصدر عز الدين السيرجي المشارف بالجامع أنه غرم عليها من مال الجامع قريب ثلاثين ألف درهم . طرح مكس القطن المغزول البلدي والمجلوب طرح مكس القطن المغزول البلدي والمجلوب

            وفي أواخر هذا الشهر جاء المرسوم الشريف بطرح مكس القطن المغزول البلدي والجلب أيضا ، ونودي بذلك في البلد ، فكثرت الدعوات لمن أمر بذلك ، وفرح المسلمون بذلك فرحا شديدا ، ولله الحمد والمنة .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية