وقال بعض المتأخرين: مراد من قدر إن أصابتكم إن لم تتقوا على مذهب من يرى تقدير النفي، لكنه عبر عنه ب أصابت لتلازمها؛ فلا يرد حديث الواسطة، نعم قيل: إن جواب الشرط متردد تأكيده بالنون؛ إذ التأكيد يقتضي دفع التردد، وأجيب بأنه هنا طلبي معنى فيؤكد كما يؤكد الطلبي وهو لا ينافيه التردد في وقوعه؛ لأنه لا تردد في طلبه على أنه قيل: إنه وإن كان مترددا في نفسه لكونه معلقا بما هو متردد وهو الشرط لكنه ليس بمتردد بحسب الشرط، وعلى تقدير وقوعه فيليق به التأكيد بذلك الاعتبار، وأنت تعلم أن ابن جني رجح أن المنفي - بلا - يؤكد في السعة لشبهه بالنهي كما في قوله سبحانه: ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وقال ناصر الدين: إن هذا الجواب لما تضمن معنى النهي ساغ توكيده، ووجهه أن النفي إذا كان مطلوبا كان في معنى النهي وفي حكمه فيجوز فيه التأكيد كالنهي الصريح، ولا خفاء في أن عدم كونهم بحيث تصيبهم الفتنة مطلوب كما أن عدم كونهم يحطمهم سليمان وجنوده كذلك، وجوز أن تكون الجملة المنفية في موضع النصب صفة لفتنة، واعترض بأن فيه شذوذا؛ لأن النون لا تدخل المنفي في غير القسم، وقد يجاب بأنك قد عرفت أن ابن جني وكذا بعض النحاة جوز ذلك، وقد ارتضاه ابن مالك في التسهيل، نعم ما ذكر كلام الجمهور.
وقال أبو البقاء وغيره: يحتمل أن تكون (لا) ناهية والجملة في موضع الصفة أيضا لكن على إرادة القول كقوله:
حتى إذا جن الظلام واختلط جاؤوا بمذق، هل رأيت الذئب قط
لأن المشهور أن الجملة الإنشائية نهيا كانت أو غيرها لا تقع صفة ونحوها إلا بتقدير القول، وقد صرحوا بأن قولك: مررت برجل أضربه بتقدير: مقول فيه أضربه، وليس المقصود بالمقولية الحكاية بل استحقاقه لذلك حتى كأنه مقول فيه، ومن الناس من جوز الوصف بذلك باعتبار تأويله بمطلوب ضربه فلا يتعين تقدير القول، وأن تكون الجملة جواب قسم محذوف أي: والله لا تصيبن خاصة بل تعم، وحينئذ يظهر أمر التأكيد، وأيد ذلك بقراءة علي كرم الله تعالى وجهه، وزيد بن ثابت وأبي وابن مسعود والباقر والربيع وأبو العالية: (لتصيبن) فإن الظاهر فيها القسمية، وقيل: إن الأصل: - لا - إلا أن الألف حذفت تخفيفا كما قالوا: أم والله، وقال بعضهم: [ ص: 194 ] إن (لا) في القراءة المتواترة هي اللام والألف تولدت من إشباع الفتحة كما في قوله:فأنت من العواتك حين ترمى ومن ذم الرجال بمنتزاح
ويدل للوجوب ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أمر الله تعالى المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله تعالى بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم.
وأخرج الترمذي، وأبو داود، عن قيس بن حازم، عن أبي بكر رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب».
وروى الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.
ومن ذهب إلى أن الخطاب خاص فسر الفتنة بافتراق الكلمة، وجعل ذلك إشارة إلى ما حدث بين أصحاب بدر يوم الجمل.
وممن ذهب إلى أنهم المعنيون السدي وغيره، وأخرج غير واحد عن الزبير قال: قرأنا هذه الآية زمانا وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها، وقد أخرج نهيهم عن ذلك على أبلغ وجه وأقيم الظالمون مقام ضميرهم تنبيها على أن تعرض الفتنة وهي افتراق الكلمة من أشد الظلم لا سيما من هؤلاء الأجلاء، ثم فسر بضميرهم دلالة على الاختصاص وأكد بخاصة وكثيرا ما يشدد الأمر على الخاصة واعلموا أن الله شديد العقاب لمن خالف أمره وكذا من أقر من انتهك محارمه.


