وقوله تعالى: قال كلا فاذهبا بآياتنا إجابة له - عليه السلام - إلى الطلبتين، حيث وعده - عز وجل - دفع بلية الأعداء بردعه عن الخوف، وضم إليه أخاه بقوله: (اذهبا) فكأنه قال له - عز وجل-: ارتدع عن خوف القتل فإنك بأعيننا، فاذهب أنت وأخوكهارون الذي طلبته، وجاء النشر على عكس اللف لاختصاص ما قدم بموسى - عليه السلام - وظاهر السياق يقتضي عدم حضور هارون ، ففي الخطاب المذكور تغليب، والفعل معطوف على الفعل الذي يدل عليه ( كلا ) كما أشرنا إليه، وقيل: الفاء فصيحة، والمراد بالآيات ما بعثهما الله تعالى به من المعجزات، وفيها رمز إلى أنها تدفع ما يخافه.
وقوله عز وجل: إنا معكم مستمعون تعليل للردع عن الخوف، ومزيد تسلية لهما بضمان كمال الحفظ والنصرة كقوله تعالى: إنني معكما أسمع وأرى والخطاب لموسى وهارون ومن يتبعهما من بني إسرائيل، فيتضمن الكلام البشارة بالإشارة إلى علو أمرهما واتباع القوم لهما، وذهب إلى أنه لهما - عليهما السلام - ولشرفهما وعظمتهما عند الله تعالى عوملا في الخطاب معاملة الجمع، واعترض بأنه يأباه ما بعده وما قبله من ضمير التثنية. سيبويه
وقيل: هو لهما - عليهما السلام – ولفرعون، واعتبر لكون الموعود بمحضر منه، وإن شئت ضم إلى ذلك قوم فرعون أيضا، واعترض بأن المعية العامة- أعني المعية العلمية- لا تختص بأحد لقوله تعالى: ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم والمعية الخاصة - وهي معية الرأفة والنصرة - لا تليق بالكافر ولو بطريق التغليب، وأجيب بأن خصوص المعية لا يلزم أن يكون بما ذكر، بل بوجه آخر وهو تخليص أحد المتخاصمين من الآخر بنصرة المحق والانتقام من المبطل، وأيا ما كان فالظرف في موضع الخبر؛ لأن مستمعون خبر ثان، أو الخبر مستمعون والظرف متعلق به، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من ضميره، وتقديمه للاهتمام أو [ ص: 67 ] الفاصلة أو الاختصاص بناء على أن يراد بالمعية الاستماع في حقه - عز وجل - وهو مجاز عن السمع، اختير للمبالغة؛ لأن فيه تسلما للإدراك، وهو مما ينزه الله تعالى عنه سواء كان بحاسة أم لا، فسقط ما قيل من أن السمع في الحقيقة إدراك بحاسة، فإن أريد به مطلق الإدراك فالاستماع مثله فلا حاجة إلى التجوز فيه، وإلى التجوز هنا ذهب غير واحد.
وقال بعضهم: إنا معكم مستمعون جملة استعارة تمثيلية، مثل سبحانه حاله - عز وجل - بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يستمع ما يجري بينهما؛ ليمد أولياءه ويظهرهم على أعدائهم؛ مبالغة في الوعد بالإعانة، وحينئذ لا تجوز في شيء من مفرداته، ولا يكون مستمعون مطلقا عليه تعالى، فلا يحتاج إلى جعله بمعنى سامعين، إلا أن يقال: إنه في المستعار منه كذلك؛ لأن المقصود السمع دون الاستماع الذي قد لا يوصل إليه لكنه كما ترى.
وجوز أن يكون إنا معكم فقط تمثيلا لحاله - عز وجل - في نصره وإمداده بحال من ذكر، ويكون الاستماع مجازا عن السمع، وهو بحسب ظاهره - لكونه لم يطلق عليه سبحانه كالسمع - كالقرينة وإن كان مجازا، والقرينة في الحقيقة عقلية، وهي استحالة حضوره - تعالى شأنه - في مكان، ولا بد على هذا من أن يقال: إن الاستماع المذكور في تقرير التمثيل ليس هو الواقع في النظم الكريم، بل هو من لوازم حضور الحكم للخصومة، وفيه بعد.
ثم إن ما ذكروه - وإن كان مبنيا على جعل الخطاب لموسى وهارون وفرعون - يمكن إجراؤه على جعله لهما - عليهما السلام - ولمن يتبعهما، أو لهما فقط أيضا بأدنى عناية، فافهم ولا تغفل.
وزعم بعضهم أن المعية والاستماع على حقيقتهما ولا تمثيل، والمراد أن ملائكتنا معكم مستمعون، وهو مما لا ينبغي أن يستمع، ولا بد في الكلام على هذا التقدير من إرادة الإعانة والنصرة، وإلا فبمجرد معية الملائكة - عليهم السلام - واستماعهم لا يطيب قلب موسى عليه السلام.