وقرأ (وسعها) بفتح السين، والآية على التفسيرين تدل على عدم وقوع التكليف بالمحال لا على امتناعه، أما على الأول: فظاهر، وأما على الثاني: فبطريق الأولى، وقيل: إنها على التفسير الثاني لا تدل على ذلك لأن الخطاب حينئذ مخصوص بهذه الأمة وعلى كل تقدير لا دليل فيها على امتناع التكليف بالمحال كما وهم، وقد تقدم لك بعض ما يتعلق بهذا المبحث وربما يأتيك ما ينفعك فيه إن شاء الله تعالى. ابن أبي عبلة
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت جملة أخرى مستأنفة سيقت للترغيب والمحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير يتضمن مراعاته منفعة زائدة وأنها تعود إليها لا إلى غيرها ويستتبع الإخلال بها مضرة تحيق بها لا بغيرها فإن اختصاص منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله، واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته، قاله المولى مفتي الديار الرومية قدس سره، وهو الذي ذهب إليه الكثير، وقيل: يجوز أن تجعل الجملتان في حيز القول ويكون ذلك حكاية للأقوال المتفرقة غير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين ويكون مدحا لهم بأنهم شكروا الله تعالى في تكليفه حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير بل هو لهم ولا يتضرر بعملهم الشر بل هو عليهم ولا يخفى أنه بعيد من جهة قريب من أخرى، والضمير في (لها) للنفس العامة، والكلام على حذف مضاف هو ثواب في الأول وعقاب في الآخر، ومبين (ما) الأولى: الخير لدلالة اللام الدالة على النفع عليه، ومبين (ما) الثانية: الشر لدلالة على الدالة على الضر عليه، وإيراد الاكتساب في جانب الأخير لما فيه من زيادة المعنى وهو الاعتمال، والشر تشتهيه النفس وتنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله، [ ص: 70 ] ففيه إشارة إلى ما جبلت عليه النفوس، ولما لم يكن مثل ذلك في الخير استعمل الصيغة المجردة عن الاعتمال.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا شروع في حكاية بقية دعواتهم إثر بيان سر التكليف، وقيل: استيفاء لحكاية الأقوال، وفي «البحر» وهو المروي عن أن ذلك على تقدير الأمر، أي قولوا في دعائكم ذلك فهو تعليم منه تعالى لعباده كيفية الدعاء والطلب منه وهذا من غاية الكرم ونهاية الإحسان يعلمهم الطلب ليعطيهم ويرشدهم للسؤال ليثيبهم، ولذلك قيل، وقد تقدم: الحسن
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من فيض جودك ما علمتني الطلبا
والمؤاخذة المعاقبة، وفاعل هنا بمعنى فعل، وقيل: المفاعلة على بابها لأن الله تعالى يؤاخذ المذنب بالعقوبة، والمذنب كأنه يؤاخذ ربه بالمطالبة بالعفو إذ لا يجد من يخلصه من عذابه سواه فلذلك يتمسك العبد عند الخوف منه به فعبر عن كل واحد بلفظ المؤاخذة ولا يخفى فساد هذا إلا بتكلف.واختلفوا في المراد من النسيان والخطأ على وجوه، الأول: أن المراد من الأول الترك ومنه قوله:
ولم أك عند الجود للجود قاليا ولا كنت يوم الروع للطعن ناسيا
الثالث: أن المراد بهما أنفسهما من حيث ترتبهما على ما ذكر، أو مطلقا إذ لا امتناع في المؤاخذة بهما عقلا فإن المعاصي كالسموم فكما أن تناولها ولو سهوا أو خطأ مؤد إلى الهلاك فتعاطي المعاصي أيضا لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم يكن عن عزيمة ولكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة منه وفضلا، فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة واعتدادا بالنعمة فيه‘ ويؤيد ذلك مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه وقال الطبراني، النووي حديث حسن: وأورد على هذا بأنه لا يتم على مذهب المحققين من أهل السنة " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه "، والمعتزلة من أن التكليف بغير المقدور غير جائز عقلا منه تعالى إذ لا يكون ترك المؤاخذة على الخطأ والنسيان حينئذ فضلا يستدام ونعمة يعتد بها.
ربنا ولا تحمل علينا إصرا أي عبئا ثقيلا يأصر صاحبه، أي يحبسه مكانه، والمراد به التكاليف الشاقة، وقيل: الإصر الذنب الذي لا توبة له فالمعنى اعصمنا من اقترافه، وقرئ (آصارا) على الجمع، وقرأ (ولا تحمل) بالتشديد للمبالغة أبي كما حملته على الذين من قبلنا في حيز النصب على أنه صفة لمصدر محذوف أي حملا مثل حملك إياه على من قبلنا، أو على أنه صفة ل (إصرا) أي إصرا مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا وهو ما كلفه بنو إسرائيل من قتل النفس في التوبة أو في القصاص لأنه كان لا يجوز غيره في شريعتهم، وقطع موضع النجاسة من الثياب ونحوها وقيل: من البدن، وصرف ربع المال في الزكاة.
ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به استعفاء عن العقوبات التي لا تطاق بعد الاستعفاء عما يؤدي إليها، والتعبير عن إنزال ذلك بالتحميل مجاز باعتبار ما يؤدي إليه، وجوز أن يكون طلبا لما هو أعم من الأول لتخصيصه بالتشبيه إلا أنه صور فيه الإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة، وقيل: هو استعفاء عن التكليف بما لا تفي به القدرة البشرية حقيقة فتكون الآية دليلا على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص عنه وليس بالقوي، والتشديد ههنا [ ص: 71 ] لمجرد تعدية الفعل لمفعول ثان دون التكثير.
واعف عنا أي امح آثار ذنوبنا بترك العقوبة واغفر لنا بستر القبيح وإظهار الجميل وارحمنا وتعطف علينا بما يوجب المزيد، وقيل: واعف عنا من الأفعال واغفر لنا من الأقوال وارحمنا بثقل الميزان، وقيل: واعف عنا في سكرات الموت واغفر لنا في ظلمة القبور وارحمنا في أهوال يوم النشور، قال ولم يأت في هذه الجمل الثلاث بلفظ ربنا لأنها نتائج ما تقدم من الجمل التي افتتحت بذلك فجاء (فاعف عنا) مقابلا لقوله تعالى: أبو حيان: لا تؤاخذنا ، واغفر لنا لقوله سبحانه: ولا تحمل علينا إصرا ، وارحمنا لقوله عز شأنه: ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ العفو، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة، ومن آثار عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة، ولا يخفى حسن الترتيب.
أنت مولانا أي مالكنا وسيدنا، وجوز أن يكون بمعنى متولي الأمر، وأصله مصدر أريد به الفاعل، وإذا ذكر المولى والسيد وجب في الاستعمال تقديم المولى فيقال: مولانا وسيدنا كما في قول الخنساء:
وإن صخرا لمولانا وسيدنا وإن صخرا إذا أشتوا لنحار