وكان شكر القوم عند المنن كي الصحيحات وفقء الأعين
وأكثر الروايات أن قوله تعالى : ( وتجعلون ) إلخ نزل في القائلين : مطرنا بنوء كذا من غير تعرض لما قبل .
وأخرج مسلم وابن المنذر عن وابن مردويه قال : ابن عباس فلا أقسم بمواقع النجوم [الواقعة : 75] حتى بلغ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون . «مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام : أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا : هذه رحمة وضعها الله وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية
وأخرج نحوه في تاريخه عن ابن عساكر رضي الله تعالى عنها وكان ذلك على ما أخرج عائشة ابن أبي حاتم عن أبي عروة رضي الله تعالى عنه في غزوة تبوك نزلوا الحجر فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن لا يحملوا من مائه شيئا ثم ارتحلوا ونزلوا منزلا آخر وليس معهم ماء فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقام عليه الصلاة والسلام فصلى ركعتين ثم دعا فأمطروا وسقوا فقال رجل من الأنصار يتهم بالنفاق : إنما مطرنا بنوء كذا فنزل ما نزل ، ولعل جمعا من الكفار قالوا نحو ذلك أيضا بل هم لم يزالوا يقولون ذلك ، والأخبار متضافرة على أن الآية في القائلين بالأنواء ، بل قال : أجمع المفسرون على أنها توبيخ لأولئك ، وظاهر مقابلة الشكر بالكفر في الحديث السابق أن المراد بالكفر كفران النعمة إذا أضيفت لغير موجدها جل جلاله [ ص: 157 ] وقد صح ذكره مع الإيمان ، أخرج ابن عطية البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم عن والنسائي زيد بن خالد الجهني قال : والآية على القول بنزولها في قائلي ذلك ظاهرة في كفرهم المقابل للإيمان فكأنهم كانوا يقولونه عن اعتقاد أن الكواكب مؤثرة حقيقة موجدة للمطر وهو كفر بلا ريب بخلاف قوله مع اعتقاد أنه من فضل الله تعالى ، والنوء ميقات وعلامة له فإنه ليس بكفر ، وقيل : تسميته كفرا لأنه يفضي إليه إذا اعتقد أنه مؤثر حقيقة . صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل فلما سلم أقبل علينا فقال : هل تدرون ما قال ربكم في هذه الليلة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم فقال : قال : ما أنعمت على عبادي نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين فأما من آمن بي وحمدني على سقياي فذلك الذي آمن بي وكفر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك الذي آمن بالكوكب وكفر بي »
هذا وقيل : معنى الآية - وتجعلون شكركم - لنعمة القرآن - أنكم تكذبون - به ، ويشير إلى ذلك ما رواه عن قتادة : بئس ما أخذ القوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله تعالى إلا التكذيب . الحسن
وفي الإرشاد أنه الأوفق لسياق النظم الكريم وسباقه ، وأقول ما قدمناه تفسير مأثور نطقت به السنة المقبولة ، وذهب إليه الجمهور وليس فيه ما يأبى إرادة معنى مطابق لسبب النزول وموافق لسياق النظم الكريم وسباقه ، وذلك بأن يقال : إنه عز وجل بعد أن وصف القرآن بما دل على جلالة شأنه وعزة مكانه وأشعر باشتماله على ما فيه تزكية النفوس وتحليتها بما يوجب كمالها من العقائد الحقة ونحوها حيث قال سبحانه : تنزيل من رب العالمين فعبر جل وعلا عن ذاته سبحانه بلفظ الرب الدال على التربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا .
وقد يستفاد ذلك من وصفه بكريم بناء على أن المراد به نفاع جم المنافع فإنه لا منفعة أجل مما ذكر وكان قد ذكر عز وجل غير بعيد ما يدل على أنه تعالى هو المنزل لماء المطر لا غيره سبحانه استقلالا ولا اشتراكا قال عز قائلا : أفبهذا القرآن الجليل الشأن المشتمل على العقائد الحقة المرشد إلى ما فيه نفعكم أنتم متهاونون فلا تشكرون الله تعالى عليه وتجعلون بدل شكركم أنكم تكذبون به ، ومن ذلك أنكم تقولون إذا مطرتم مطرنا بنوء كذا وكذا فتسندون إنزال المطر إلى الكواكب وقد أرشدكم غير مرة إلى ما يأبى ذلك من العقائد وهداكم إلى أنه تعالى هو المنزل للمطر لا الكواكب ولا غيرها أصلا - فما جاء من تفسير تكذبون بتقولون مطرنا بنوء كذا وكذا ليس المراد منه إلا بيان نوع اقتضاه الحال من التكذيب بالقرآن المنعوت بتلك النعوت الجليلة وكون ذلك على الوجه الذي يزعمه الكفار تكذيبا به مما لا ينتطح فيه كبشان ، وهذا لا تمحل فيه ، وقد يقال على تقدير أن يراد بالرزق المطر وكون ( تكذبون ) على معنى تكذبون بكونه - أي المطر - من الله تعالى حيث تنسبونه إلى الأنواء وإن لم أقف على التصريح به في أثر يعول عليه ، المعنى أفبهذا القرآن الجليل المرشد إلى أن كل نعمة منه تعالى لا غير المصرح عن قريب بأنه المنزل للمطر وحده أنتم مدهنون أي تكذبون على ما سمعت عن ابن عباس ومن ذلك أنكم تجعلون موضع شكر ما يرزقكم من المطر وينزله لكم أنكم تكذبون بكونه من الله تعالى وتنسبونه إلى الأنواء ، والتبكيت الآتي مبني على تكذيبهم بالقرآن المفهوم من ( تكذبون ) أو من قوله سبحانه : والزجاج أنتم مدهنون لكن التكذيب به باعتبار التكذيب ببعض ما نطق به بما سبق وتوقف المراد بالآية على الخبر غير بدع في القرآن الكريم ، وحال عطف ( تجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) على ما قبله لا يخفى على نبيه ، فتأمل والله تعالى الموفق لفهم كتابه الكريم .
[ ص: 158 ] وقرأ المفضل عن «تكذبون » بالتخفيف من الكذب وهو قولهم في القرآن إنه - وحاشاه - افتراء ويرجع إلى هذا قولهم في المطر : إنه من الأنواء لأن القرآن ناطق بخلافه ، عاصم