أحدهما أنه حال من ضمير (لكم) المجرور، والعامل فيه الاستقرار أو الظرف لنيابته عنه، وهذه الحال لازمة لا يتم الكلام بدونها، وهذا مذهب البصريين في هذا التركيب وما شابهه.
وثانيهما: وهو مذهب الكوفيين أنه خبر كان مقدرة، أي: ما لكم في شأنهم كنتم فئتين، ورد بالتزام تنكيره في كلامهم، نحو: فما لهم عن التذكرة معرضين).
وأما ما قيل على الأول من أن كون ذي الحال بعضا من عامله غريب، لا يكاد يصح عند الأكثرين فلا يكون معمولا له، ولا يجوز اختلاف العامل في الحال وصاحبها، فمن فلسفة النحو كما قال والمراد إنكار أن يكون للمخاطبين شيء مصحح لاختلافهم في أمر المنافقين، وبيان وجوب قطع القوم بكفرهم وإجرائهم مجرى المجاهرين في جميع الأحكام، وذكرهم بعنوان النفاق باعتبار وصفهم السابق. الشهاب،
أخرج عن عبد بن حميد، قال: مجاهد «هم قوم خرجوا من مكة حتى جاءوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرين، ثم ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فاختلف فيهم المسلمون فقائل يقول: هم منافقون، وقائل يقول: هم مؤمنون، فبين الله تعالى نفاقهم، وأنزل هذه الآية، وأمر بقتلهم».
وأخرج عن ابن جرير، قال: «هم ناس تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقاموا الضحاك بمكة، وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا، فاختلف فيهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتولاهم ناس، وتبرأ من ولايتهم آخرون، وقالوا: تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يهاجروا، فسماهم الله تعالى منافقين، وبرأ المؤمنين من ولايتهم، وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا».
وأخرج الشيخان، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، عن وأحمد، زيد بن ثابت، فما لكم في المنافقين الآية كلها. أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم (فئتين) فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، فأنزل الله تعالى
ويشكل على هذا ما سيأتي قريبا - إن شاء الله تعالى - من جعل هجرتهم غاية للنهي عن توليتهم إلا أن يصرف عن الظاهر كما ستعلمه.
وقيل: هم العرنيون، الذين أغاروا على السرح، وأخذوا يسارا راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومثلوا به، فقطعوا يديه ورجليه، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات، ويرده - كما قال شيخ الإسلام - ما سيأتي - إن شاء الله تعالى - من الآيات الناطقة بكيفية المعاملة معهم في السلم والحرب، وهؤلاء قد أخذوا وفعل بهم ما فعل من المثلة والقتل، ولم ينقل في أمرهم اختلاف المسلمين، وقيل غير ذلك.
[ ص: 108 ] والله أركسهم بما كسبوا حال من المنافقين، مفيد لتأكيد الإنكار السابق، وقيل: من ضمير المخاطبين، والرابط الواو، وقيل: مستأنفة، والباء للسببية، وما إما مصدرية وإما موصولة.
وأركس وركس بمعنى، واختلف في معنى الركس لغة، فقيل: الرد كما قيل في قول أمية بن أبي الصلت:
فأركسوا في جحيم النار أنهم كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا
وهذه رواية عن الضحاك، - رضي الله تعالى عنهما - والمعنى حينئذ: والله تعالى ردهم إلى الكفر بعد الإيمان بسبب ما كسبوه من الارتداد واللحوق بالمشركين، أو نحو ذلك، أو بسبب كسبهم، وقيل: هو قريب من النكس، وحاصله أنه تعالى رماهم منكسين، فهو أبلغ من التنكيس؛ لأن من يرمي منكسا في هوة قلما يخلص منها، والمعنى أنه سبحانه بكسبهم الكفر أو بما كسبوه منه قلب حالهم ورماهم في حفر النيران. ابن عباسوأخرج عن ابن جرير، أنه فسر (أركسهم) بـ(أضلهم) وقد جاء الإركاس بمعنى الإضلال، ومنه: السدي،
وأركستني عن طريق الهدى وصيرتني مثلا للعدا.
أتريدون أن تهدوا من أضل الله توبيخ للفئة القائلة بإيمان أولئك المنافقين على زعمهم ذلك، وإشعار بأن يؤدي إلى محاولة المحال الذي هو هداية من أضله الله تعالى، وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم مع أنهم بمعزل من ذلك سعي في هدايتهم وإرادة لها، فالمراد بالموصول (المنافقون) إلا أن وضع موضع ضميرهم لتشديد الإنكار، وتأكيد استحالة الهداية بما ذكر في حيز الصلة، وحمله على العموم، والمذكورون داخلون فيه دخولا أوليا - كما زعمه - ليس بشيء. أبو حيان
وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها للمبالغة في إنكاره ببيان أن إرادته مما لا يمكن فضلا عن إمكان نفسه، والآية ظاهرة في مذهب الجماعة، وحمل الهداية والإضلال على الحكم بها خلاف الظاهر، ويبعده قوله تعالى:
ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا فإن المتبادر منه الخلق، أي: من يخلق فيه الضلال كائنا من كان، ويدخل هنا من تقدم دخولا أوليا (فلن تجد له سبيلا) من السبل فضلا عن أن تهديه إليه، والخطاب في (تجد) لغير معين، أو لكل أحد من المخاطبين للإشعار بعدم الوجدان للكل على سبيل التفصيل، ونفي وجدان السبيل أبلغ من نفي الهادي، وحمل إضلاله تعالى على حكمه وقضائه بالضلال مخل بحسن المقابلة بين الشرط والجزاء، وجعل السبيل بمعنى الحجة، وأن المعنى: من يجعله الله تعالى في حكمه ضالا فلن تجد له في ضلالته حجة - كما قال جعفر بن حرب - ليس بشيء كما لا يخفى.
والجملة إما اعتراض تذييلي مقرر للإنكار السابق، مؤكد لاستحالة الهداية، أو حال من فاعل (تريدون) أو (تهدوا) والرابط الواو.