فإن قلت : وأن احكم بينهم معطوف على ماذا؟ قلت : على "الكتاب" في قوله : وأنزلنا إليك الكتاب كأنه قيل : وأنزلنا إليك أن احكم على أن "أن" وصلت بالأمر لأنه فعل كسائر الأفعال ، ويجوز أن يكون معطوفا على "بالحق" أي : أنزلناه بالحق وبأن احكم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك : أن يضلوك عنه ويستزلوك ، وذلك : أن كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس من أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد نفتنه عن دينه ، فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود ، وأنا إن اتبعناك اتبعتنا اليهود كلهم ولم يخالفونا ، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ، ونحن نؤمن بك ونصدقك ، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت فإن تولوا : عن الحكم بما أنزل الله إليك وأرادوا غيره فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض [ ص: 248 ] ذنوبهم : يعني بذنب فوضع التولي عن حكم الله وإرادة خلافه ، ببعض ذنوبهم موضع ذلك وأراد أن لهم ذنوبا جمة كثيرة العدد ، وأن هذا الذنب مع عظمه بعضها وواحد منها ، وهذا الإبهام لتعظيم التولي واستسرافهم في ارتكابه ، ونحو البعض في هذا الكلام ما في قول لبيد [من الكامل] :
أو يرتبط بعض النفوس حمامها
أراد نفسه ، وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام ، كأنه قال : نفسا كبيرة ، ونفسا أي نفس ، فكما أن التنكير يعطي معنى التكبير وهو معنى البعضية ، فكذلك إذا صرح بالبعض الفاسقون المتمردون في الكفر معتدون فيه ، يعني أن التولي عن حكم الله من التمرد العظيم والاعتداء في الكفر .