الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد آتينا داود منا فضلا أي: آتيناه لحسن إنابته، وصحة توبته فضلا على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أي: نوعا من الفضل. وهو ما ذكر بعد؛ فإنه معجزة خاصة به صلى الله عليه وسلم، أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن، فتنكيره للتفخيم. و "منا" لتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية، كما في قوله تعالى: وعلمناه من لدنا علما وتقديمه على المفعول الصريح للاهتمام بالمقدم، والتشويق إلى المؤخر. فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مترقبة له، فإذا وردها يتمكن عندها فضل تمكن يا جبال أوبي معه من التأويب، أي: رجعي معه التسبيح، أو النوحة على الذنب، وذلك إما بأن يخلق الله تعالى فيها صوتا مثل صوته، كما خلق الكلام في الشجرة، أو بأن يتمثل له ذلك، وقرئ: (أوبي) من الأوب، أي: ارجعي معه في التسبيح كلما رجع فيه، وكان كلما سبح عليه الصلاة والسلام يسمع من الجبال ما يسمع من المسبح معجزة له عليه الصلاة والسلام. وقيل: كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين، وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها، والطير بأصواتها. وهو بدل من "آتينا" بإضمار قلنا، أو من "فضلا" بإضمار قولنا والطير بالنصب عطفا على "فضلا" بمعنى: وسخرنا له الطير; لأن إيتاءها إياه عليه الصلاة والسلام تسخيرها له، فلا حاجة إلى إضماره، كما نقل عن الكسائي. ولا إلى تقدير مضاف، أي: تسبيح الطير، كما نقل عنه في رواية. وقيل: عطفا على محل الجبال، وفيه من التكلف لفظا ومعنى ما لا يخفى، وقرئ: بالرفع عطفا على لفظها تشبيها للحركة البنائية العارضة بالحركة الإعرابية، وقد جوز انتصابه على أنه مفعول معه، والأول هو الوجه. وفي تنزيل الجبال والطير منزلة العقلاء المطيعين لأمره تعالى المذعنين لحكمه المشعر بأنه ما من حيوان وجماد وصامت وناطق إلا وهو منقاد لمشيئته غير ممتنع على إرادته من الفخامة المعربة عن غاية عظمة شأنه تعالى، وكمال كبرياء سلطانه ما لا يخفى على أولي الألباب. وألنا له الحديد أي: جعلناه لينا في نفسه كالشمع يصرفه في يده، كيف يشاء من غير إحماء بنار، ولا ضرب بمطرقة. أو جعلناه بالنسبة إلى قوته التي آتيناها إياه لينا، كالشمع بالنسبة إلى سائر القوى البشرية.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية