nindex.php?page=treesubj&link=29023_29680_30387_30415_34135nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=17إن المتقين في جنات ونعيم. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=18فاكهين بما آتاهم ربهم، ووقاهم ربهم عذاب الجحيم ..
ومجرد الوقاية من عذاب الجحيم الذي عرضت مشاهده في هذه السورة فضل ونعمة. فكيف ومعه جنات ونعيم ؟ وهم يلتذون ما آتاهم ربهم ويتفكهون؟
ومع النعيم ولذته التهنئة والتكريم:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=19كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون ..
وهذا بذاته متاع أكرم. وهم ينادون هذا النداء العلوي، ويعلن استحقاقهم لما هم فيه:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=20متكئين على سرر مصفوفة .. منسقة يجدون فيها لذة التجمع بإخوانهم في هذا النعيم:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=20وزوجناهم بحور [ ص: 3397 ] عين
.. وهذه تمثل أمتع ما يجول في خواطر البشر من متاع جميل.
ويمضي التكريم خطوة فإذا ذريتهم المؤمنة تجتمع إليهم في هذا النعيم، زيادة في الرعاية والعناية. ولو كانت أعمال الذرية أقل من مستوى مقام المتقين، ما دامت هذه الذرية مؤمنة. وذلك دون أن ينقص شيء من أعمال الآباء ودرجاتهم. ودون إخلال بفردية التبعة وحساب كل بعمله الذي كسبه، إنما هو فضل الله على الجميع:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=21والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم. وما ألتناهم من عملهم من شيء. كل امرئ بما كسب رهين ..
ويستطرد المشهد بعرض ألوان المناعم واللذائذ في ذلك النعيم. فإذا فاكهة ولحم مما يشتهون. وإذا هم يتعاطون فيها كأسا ليست كخمر الدنيا تطلق اللغو والهذر من الشفاه والألسنة، وتشيع الإثم والمعصية في الحس والجوارح. إنما هي مصفاة مبرأة:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=23لا لغو فيها ولا تأثيم .. وهم يتجاذبونها بينهم ويتعاطونها مجتمعين، زيادة في الإيناس واللذة والنعيم. في حين يقوم على خدمتهم ويطوف بالكأس عليهم غلمان صباح أبرياء، فيهم نظافة، وفيهم صيانة، وفيهم نداوة:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=24كأنهم لؤلؤ مكنون مما يضاعف إيناس المجلس اللطيف في الجوارح والقلوب.
واستكمالا لجو المشهد المأنوس يعرض سمرهم فيما بينهم، وتذاكرهم ماضيهم، وأسباب ما هم فيه من أمن ورضى ورخاء ورغد وأنس ونعيم. فيكشف للقلوب عن سر هذا المتاع، ويشير إلى الطريق المؤدي إلى هذا النعيم:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=25وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=26قالوا: إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=27فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=28إنا كنا من قبل ندعوه، إنه هو البر الرحيم ..
السر إذن أنهم عاشوا على حذر من هذا اليوم. عاشوا في خشية من لقاء ربهم. عاشوا مشفقين من حسابه. عاشوا كذلك وهم في أهلهم، حيث الأمان الخادع. ولكنهم لم ينخدعوا. وحيث المشغلة الملهية. ولكنهم لم ينشغلوا.
عندئذ من الله عليهم ووقاهم عذاب السموم، الذي يتخلل الأجسام كالسم الحار اللاذع! وقاهم هذا العذاب منة منه وفضلا، لما علم من تقواهم وخشيتهم وإشفاقهم. وهم يعرفون هذا. ويعرفون أن العمل لا يدخل صاحبه الجنة إلا بمنة من الله وفضل. فما يبلغ العمل أكثر من أن يشهد لصاحبه أنه بذل جهده، ورغب فيما عند الله. وهذا هو المؤهل لفضل الله.
وقد كانوا مع الإشفاق والحذر والتقوى يدعون الله:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=28إنا كنا من قبل ندعوه .. وهم يعرفون من صفاته البر بعباده والرحمة بعبيده:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=28إنه هو البر الرحيم ..
وكذلك ينكشف سر الوصول في تناجي هؤلاء الناجين المكرمين في دار النعيم.
والآن وقد تلقى الحس سياط العذاب العنيف في الشوط الأول; وتلقى هتاف النعيم الرغيد في الشوط الثاني; وتوفزت بهذا وذلك حساسيته لتلقي الحقائق.. فإن السياق يعاجله بحملة سريعة الإيقاعات. يطارده فيها بالحقائق الصادعة، ويتعقب وساوسه في مسارب نفسه في صورة استفهامات استنكارية، وتحديات قوية، لا يثبت لها الكيان البشري حين تصل إليه من أي طريق
:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=29فذكر. فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=30أم يقولون: شاعر نتربص به ريب المنون؟ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=31قل: تربصوا [ ص: 3398 ] فإني معكم من المتربصين. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=32أم تأمرهم أحلامهم بهذا؟ أم هم قوم طاغون؟ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=33أم يقولون: تقوله؟ بل لا يؤمنون. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=34فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=35أم خلقوا من غير شيء؟ أم هم الخالقون؟ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=36أم خلقوا السماوات والأرض؟ بل لا يوقنون. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=37أم عندهم خزائن ربك؟ أم هم المصيطرون؟ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=38أم لهم سلم يستمعون فيه؟ فليأت مستمعهم بسلطان مبين. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=39أم له البنات ولكم البنون؟ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=40أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون؟ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=41أم عندهم الغيب فهم يكتبون؟ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=42أم يريدون كيدا؟ فالذين كفروا هم المكيدون. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=43أم لهم إله غير الله؟ سبحان الله عما يشركون. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=44وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا: سحاب مركوم ..
"فذكر".. والخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - ليظل في تذكيره لا يثنيه سوء أدبهم معه، وسوء اتهامهم له. وقد كانوا يقولون عنه مرة: إنه كاهن. ويقولون عنه مرة: إنه مجنون. ويجمع بين الوصفين عندهم ما كان شائعا بينهم أن الكهان يتلقون عن الشياطين. وأن الشيطان كذلك يتخبط بعض الناس، فيصابون بالجنون. فالشيطان هو العامل المشترك بين الوصفين: كاهن أو مجنون! وكان يحملهم على وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الوصف أو ذاك، أو بقولهم إنه شاعر أو ساحر. كان يحملهم على هذا كله موقفهم مبهوتين أمام القرآن الكريم المعجز الذي يبدههم بما لم يعهدوا من القول، وهم أهل القول! ولما كانوا لا يريدون - لعلة في نفوسهم - أن يعترفوا أنه من عند الله، فقد احتاجوا أن يعللوا مصدره المتفوق على البشر. فقالوا:
إنه من إيحاء الجن أو بمساعدتهم. فصاحبه إما كاهن يتلقى من الجن، أو ساحر يستعين بهم، أو شاعر له رئي من الجن، أو مجنون به مس من الشيطان ينطقه بهذا القول العجيب!
وإنها لقولة فظيعة شنيعة. فالله - سبحانه - يسلي رسوله عنها، ويصغر من شأنها في نفسه. وهو يشهد له أنه محوط بنعمة ربه، التي لا تكون معها كهانة ولا جنون:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=29فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون ..
ثم يستنكر قولهم: إنه شاعر:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=30أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون؟ .. وقد قالوها. وقال بعضهم لبعض: اصبروا عليه، واثبتوا على ما أنتم فيه، حتى يأتيه الموت، فيريحنا منه! وتواصوا أن يتربصوا به الموت المريح. ومن ثم يلقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليهم في تهديد ملفوف:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=31قل: تربصوا. فإني معكم من المتربصين .. وستعلمون من تكون له العاقبة، ومن ينتهي به التربص إلى النصر والظهور.
ولقد كان شيوخ
قريش يلقبون بذوي الحلوم. أو ذوي الأحلام. إشارة إلى رجاحة عقولهم وحكمتهم في تصريف الأمور. فهو يتهكم بهم وبأحلامهم تجاه الإسلام. وموقفهم منه ينافي الحكمة والعقل، فيسأل في تهكم: أهذه الأوصاف التي يصفون بها
محمدا - صلى الله عليه وسلم - وتلك المواقف التي يقفونها من رسالته كانت من وحي أحلامهم؟ أم أنهم طغاة ظالمون لا يقفون عند ما تمليه الأحلام والعقول:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=32أم تأمرهم أحلامهم بهذا؟ أم هم قوم طاغون !
وفي السؤال الأول تهكم لاذع. وفي السؤال الثاني اتهام مزر. وواحد منهما لا بد لاحق بهم في موقفهم المريب!
ولقد تطاولت ألسنتهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتهموه بافتراء ما يقول. فهو هنا يسأل في استنكار: إن كانوا يقولون: تقوله: كأن هذه الكلمة لا يمكن أن تقال. فهو يسأل عنها في استنكار:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=33أم يقولون تقوله؟ .. ويبادر ببيان علة هذا القول الغريب:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=33بل لا يؤمنون . فعدم استشعار قلوبهم للإيمان، هو الذي ينطقهم بمثل هذا القول; بعد أن يحجبهم عن إدراك حقيقة هذا القرآن. ولو أدركوها لعلموا أنه ليس من صنع بشر; وأنه لا يحمله إلا صادق أمين.
[ ص: 3399 ] وما دامت قلوبهم لا تستشعر حقيقة هذا التنزيل; فهو يتحداهم إذن ببرهان الواقع الذي لا يقبل المراء:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=34فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين .
وقد تكرر هذا التحدي في القرآن الكريم; وتلقاه المنكرون عاجزين، ووقفوا تجاهه صاغرين. وكذلك يقف أمامه كل أحد إلى يوم الدين.
إن في هذا القرآن سرا خاصا، يشعر به كل من يواجه نصوصه ابتداء، قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها. إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن. يشعر أن هنالك شيئا ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير. وأن هنالك عنصرا ما ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن. يدركه بعض الناس واضحا ويدركه بعض الناس غامضا، ولكنه على كل حال موجود. هذا العنصر الذي ينسكب في الحس، يصعب تحديد مصدره: أهو العبارة ذاتها؟ أهو المعنى الكامن فيها؟ أهو الصور والظلال التي تشعها؟ أهو الإيقاع القرآني الخاص المتميز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة؟ أهي هذه العناصر كلها مجتمعة؟ أم إنها هي وشيء آخر وراءها غير محدود؟!
ذلك سر مودع في كل نص قرآني، يشعر به كل من يواجه نصوص هذا القرآن ابتداء.. ثم تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبر والنظر والتفكير في بناء القرآن كله:
في التصور الكامل الصحيح الذي ينشئه في الحس والقلب والعقل. التصور لحقيقة الوجود الإنساني، وحقيقة الوجود كله، وللحقيقة الأولى التي تنبع منها كل حقيقة. حقيقة الله سبحانه.
nindex.php?page=treesubj&link=29023_29680_30387_30415_34135nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=17إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=18فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ، وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ..
وَمُجَرَّدُ الْوِقَايَةِ مِنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ الَّذِي عُرِضَتْ مَشَاهِدُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَضْلٌ وَنِعْمَةٌ. فَكَيْفَ وَمَعَهُ جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ؟ وَهُمْ يَلْتَذُّونَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَيَتَفَكَّهُونَ؟
وَمَعَ النَّعِيمِ وَلَذَّتِهِ التَّهْنِئَةُ وَالتَّكْرِيمُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=19كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ..
وَهَذَا بِذَاتِهِ مَتَاعٌ أَكْرَمُ. وَهُمْ يُنَادَوْنَ هَذَا النِّدَاءَ الْعُلْوِيَّ، وَيُعْلِنُ اسْتِحْقَاقَهُمْ لِمَا هُمْ فِيهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=20مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ .. مُنَسَّقَةٍ يَجِدُونَ فِيهَا لَذَّةَ التَّجَمُّعِ بِإِخْوَانِهِمْ فِي هَذَا النَّعِيمِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=20وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ [ ص: 3397 ] عِينٍ
.. وَهَذِهِ تُمَثِّلُ أَمْتَعَ مَا يَجُولُ فِي خَوَاطِرِ الْبَشَرِ مِنْ مَتَاعٍ جَمِيلٍ.
وَيَمْضِي التَّكْرِيمُ خُطْوَةً فَإِذَا ذُرِّيَّتُهُمُ الْمُؤْمِنَةُ تَجْتَمِعُ إِلَيْهِمْ فِي هَذَا النَّعِيمِ، زِيَادَةً فِي الرِّعَايَةِ وَالْعِنَايَةِ. وَلَوْ كَانَتْ أَعْمَالُ الذُّرِّيَّةِ أَقَلَّ مِنْ مُسْتَوَى مَقَامِ الْمُتَّقِينَ، مَا دَامَتْ هَذِهِ الذُّرِّيَّةُ مُؤْمِنَةً. وَذَلِكَ دُونَ أَنْ يَنْقُصَ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْآبَاءِ وَدَرَجَاتِهِمْ. وَدُونَ إِخْلَالٍ بِفَرْدِيَّةِ التَّبِعَةِ وَحِسَابِ كُلٍّ بِعَمَلِهِ الَّذِي كَسَبَهُ، إِنَّمَا هُوَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَى الْجَمِيعِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=21وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتُهُمْ. وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ..
وَيَسْتَطْرِدُ الْمَشْهَدُ بِعَرْضِ أَلْوَانِ الْمَنَاعِمِ وَاللَّذَائِذِ فِي ذَلِكَ النَّعِيمِ. فَإِذَا فَاكِهَةٌ وَلَحْمٌ مِمَّا يَشْتَهُونَ. وَإِذَا هُمْ يَتَعَاطَوْنَ فِيهَا كَأْسًا لَيْسَتْ كَخَمْرِ الدُّنْيَا تُطْلِقُ اللَّغْوَ وَالْهَذْرَ مِنَ الشِّفَاهِ وَالْأَلْسِنَةِ، وَتُشِيعُ الْإِثْمَ وَالْمَعْصِيَةَ فِي الْحِسِّ وَالْجَوَارِحِ. إِنَّمَا هِيَ مَصْفَاةٌ مُبَرَّأَةٌ:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=23لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ .. وَهُمْ يَتَجَاذَبُونَهَا بَيْنَهُمْ وَيَتَعَاطَوْنَهَا مُجْتَمَعِينَ، زِيَادَةً فِي الْإِينَاسِ وَاللَّذَّةِ وَالنَّعِيمِ. فِي حِينِ يَقُومُ عَلَى خِدْمَتِهِمْ وَيَطُوفُ بِالْكَأْسِ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ صِبَاحٌ أَبْرِيَاءَ، فِيهِمْ نَظَافَةٌ، وَفِيهِمْ صِيَانَةٌ، وَفِيهِمْ نَدَاوَةٌ:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=24كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ مِمَّا يُضَاعِفُ إِينَاسَ الْمَجْلِسِ اللَّطِيفِ فِي الْجَوَارِحِ وَالْقُلُوبِ.
وَاسْتِكْمَالًا لِجَوِّ الْمَشْهَدِ الْمَأْنُوسِ يَعْرِضُ سَمَرَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَتَذَاكُرَهُمْ مَاضِيَهُمْ، وَأَسْبَابَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَمْنٍ وَرِضًى وَرَخَاءٍ وَرَغَدٍ وَأُنْسٍ وَنَعِيمٍ. فَيَكْشِفُ لِلْقُلُوبِ عَنْ سِرِّ هَذَا الْمَتَاعِ، وَيُشِيرُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُؤَدِّي إِلَى هَذَا النَّعِيمِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=25وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=26قَالُوا: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=27فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=28إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ..
السِّرُّ إِذَنْ أَنَّهُمْ عَاشُوا عَلَى حَذَرٍ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ. عَاشُوا فِي خَشْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ. عَاشُوا مُشْفِقِينَ مِنْ حِسَابِهِ. عَاشُوا كَذَلِكَ وَهُمْ فِي أَهْلِهِمْ، حَيْثُ الْأَمَانُ الْخَادِعُ. وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَنْخَدِعُوا. وَحَيْثُ الْمَشْغَلَةُ الْمُلْهِيَةُ. وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَنْشَغِلُوا.
عِنْدَئِذٍ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ السَّمُومِ، الَّذِي يَتَخَلَّلُ الْأَجْسَامَ كَالسُّمِّ الْحَارِّ اللَّاذِعِ! وَقَاهُمْ هَذَا الْعَذَابَ مِنَّةً مِنْهُ وَفَضْلًا، لِمَا عَلِمَ مِنْ تَقْوَاهُمْ وَخَشْيَتِهِمْ وَإِشْفَاقِهِمْ. وَهُمْ يَعْرِفُونَ هَذَا. وَيَعْرِفُونَ أَنَّ الْعَمَلَ لَا يُدْخِلُ صَاحِبَهُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِمِنَّةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ. فَمَا يَبْلُغُ الْعَمَلُ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ لِصَاحِبِهِ أَنَّهُ بَذَلَ جُهْدَهُ، وَرَغِبَ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ. وَهَذَا هُوَ الْمُؤَهِّلُ لِفَضْلِ اللَّهِ.
وَقَدْ كَانُوا مَعَ الْإِشْفَاقِ وَالْحَذَرِ وَالتَّقْوَى يَدْعُونَ اللَّهَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=28إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ .. وَهُمْ يَعْرِفُونَ مِنْ صِفَاتِهِ الْبِرَّ بِعِبَادِهِ وَالرَّحْمَةَ بِعَبِيدِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=28إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ..
وَكَذَلِكَ يَنْكَشِفُ سِرُّ الْوُصُولِ فِي تَنَاجِي هَؤُلَاءِ النَّاجِينَ الْمُكْرَمِينَ فِي دَارِ النَّعِيمِ.
وَالْآنَ وَقَدْ تَلَقَّى الْحِسُّ سِيَاطَ الْعَذَابِ الْعَنِيفِ فِي الشَّوْطِ الْأَوَّلِ; وَتَلَقَّى هُتَافَ النَّعِيمِ الرَّغِيدِ فِي الشَّوْطِ الثَّانِي; وَتَوَفَّزَتْ بِهَذَا وَذَلِكَ حَسَاسِيَتُهُ لِتَلَقِّي الْحَقَائِقِ.. فَإِنَّ السِّيَاقَ يُعَاجِلُهُ بِحَمْلَةٍ سَرِيعَةِ الْإِيقَاعَاتِ. يُطَارِدُهُ فِيهَا بِالْحَقَائِقِ الصَّادِعَةِ، وَيَتَعَقَّبُ وَسَاوِسَهُ فِي مَسَارِبِ نَفْسِهِ فِي صُورَةِ اسْتِفْهَامَاتٍ اسْتِنْكَارِيَّةٍ، وَتَحَدِّيَاتٍ قَوِيَّةٍ، لَا يَثْبُتُ لَهَا الْكِيَانُ الْبَشَرِيُّ حِينَ تَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ أَيِّ طَرِيقٍ
:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=29فَذَكِّرْ. فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=30أَمْ يَقُولُونَ: شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ؟ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=31قُلْ: تَرَبَّصُوا [ ص: 3398 ] فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=32أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا؟ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ؟ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=33أَمْ يَقُولُونَ: تَقَوَّلَهُ؟ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=34فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=35أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؟ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ؟ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=36أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ؟ بَلْ لا يُوقِنُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=37أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ؟ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ؟ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=38أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ؟ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=39أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ؟ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=40أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ؟ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=41أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ؟ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=42أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا؟ فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=43أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ؟ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=44وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا: سَحَابٌ مَرْكُومٌ ..
"فَذَكِّرْ".. وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَظَلَّ فِي تَذْكِيرِهِ لَا يُثْنِيهِ سُوءُ أَدَبِهِمْ مَعَهُ، وَسُوءُ اتِّهَامِهِمْ لَهُ. وَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ عَنْهُ مَرَّةً: إِنَّهُ كَاهِنٌ. وَيَقُولُونَ عَنْهُ مَرَّةً: إِنَّهُ مَجْنُونٌ. وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ عِنْدَهُمْ مَا كَانَ شَائِعًا بَيْنَهُمْ أَنَّ الْكُهَّانَ يَتَلَقَّوْنَ عَنِ الشَّيَاطِينِ. وَأَنَّ الشَّيْطَانَ كَذَلِكَ يَتَخَبَّطُ بَعْضَ النَّاسِ، فَيُصَابُونَ بِالْجُنُونِ. فَالشَّيْطَانُ هُوَ الْعَامِلُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ: كَاهِنٌ أَوْ مَجْنُونٌ! وَكَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى وَصْفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الْوَصْفِ أَوْ ذَاكَ، أَوْ بِقَوْلِهِمْ إِنَّهُ شَاعِرٌ أَوْ سَاحِرٌ. كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى هَذَا كُلِّهِ مَوْقِفُهُمْ مَبْهُوتِينَ أَمَامَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الْمُعْجِزِ الَّذِي يَبْدَهُهُمْ بِمَا لَمْ يَعْهَدُوا مِنَ الْقَوْلِ، وَهُمْ أَهْلُ الْقَوْلِ! وَلَمَّا كَانُوا لَا يُرِيدُونَ - لِعِلَّةٍ فِي نُفُوسِهِمْ - أَنْ يَعْتَرِفُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَقَدِ احْتَاجُوا أَنْ يُعَلِّلُوا مَصْدَرَهُ الْمُتَفَوِّقَ عَلَى الْبَشَرِ. فَقَالُوا:
إِنَّهُ مِنْ إِيحَاءِ الْجِنِّ أَوْ بِمُسَاعَدَتِهِمْ. فَصَاحِبُهُ إِمَّا كَاهِنٌ يَتَلَقَّى مِنَ الْجِنِّ، أَوْ سَاحِرٌ يَسْتَعِينُ بِهِمْ، أَوْ شَاعِرٌ لَهُ رِئْيٌ مِنَ الْجِنِّ، أَوْ مَجْنُونٌ بِهِ مَسٌّ مِنَ الشَّيْطَانِ يُنْطِقُهُ بِهَذَا الْقَوْلِ الْعَجِيبِ!
وَإِنَّهَا لَقَوْلَةٌ فَظِيعَةٌ شَنِيعَةٌ. فَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ - يُسَلِّي رَسُولَهُ عَنْهَا، وَيُصَغِّرُ مِنْ شَأْنِهَا فِي نَفْسِهِ. وَهُوَ يَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ مَحُوطٌ بِنِعْمَةِ رَبِّهِ، الَّتِي لَا تَكُونُ مَعَهَا كِهَانَةٌ وَلَا جُنُونٌ:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=29فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ..
ثُمَّ يَسْتَنْكِرُ قَوْلَهُمْ: إِنَّهُ شَاعِرٌ:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=30أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ؟ .. وَقَدْ قَالُوهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اصْبِرُوا عَلَيْهِ، وَاثْبُتُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ، حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ، فَيُرِيحَنَا مِنْهُ! وَتَوَاصَوْا أَنْ يَتَرَبَّصُوا بِهِ الْمَوْتَ الْمُرِيحَ. وَمِنْ ثَمَّ يُلَقَّنُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ فِي تَهْدِيدٍ مَلْفُوفٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=31قُلْ: تَرَبَّصُوا. فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ .. وَسَتَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ، وَمَنْ يَنْتَهِي بِهِ التَّرَبُّصُ إِلَى النَّصْرِ وَالظُّهُورِ.
وَلَقَدْ كَانَ شُيُوخُ
قُرَيْشٍ يُلَقَّبُونَ بِذَوِي الْحُلُومِ. أَوْ ذَوِي الْأَحْلَامِ. إِشَارَةً إِلَى رَجَاحَةِ عُقُولِهِمْ وَحِكْمَتِهِمْ فِي تَصْرِيفِ الْأُمُورِ. فَهُوَ يَتَهَكَّمُ بِهِمْ وَبِأَحْلَامِهِمْ تُجَاهَ الْإِسْلَامِ. وَمَوْقِفُهُمْ مِنْهُ يُنَافِي الْحِكْمَةَ وَالْعَقْلَ، فَيَسْأَلُ فِي تَهَكُّمٍ: أَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الَّتِي يَصِفُونَ بِهَا
مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتِلْكَ الْمَوَاقِفُ الَّتِي يَقِفُونَهَا مِنْ رِسَالَتِهِ كَانَتْ مِنْ وَحْيِ أَحْلَامِهِمْ؟ أَمْ أَنَّهُمْ طُغَاةٌ ظَالِمُونَ لَا يَقِفُونَ عِنْدَ مَا تُمْلِيهِ الْأَحْلَامُ وَالْعُقُولُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=32أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا؟ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ !
وَفِي السُّؤَالِ الْأَوَّلِ تَهَكُّمٌ لَاذِعٌ. وَفِي السُّؤَالِ الثَّانِي اتِّهَامٌ مُزْرٍ. وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لَا بُدَّ لَاحِقٌ بِهِمْ فِي مَوْقِفِهِمُ الْمُرِيبِ!
وَلَقَدْ تَطَاوَلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَّهَمُوهُ بِافْتِرَاءِ مَا يَقُولُ. فَهُوَ هُنَا يَسْأَلُ فِي اسْتِنْكَارٍ: إِنْ كَانُوا يَقُولُونَ: تَقَوَّلَهُ: كَأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُقَالَ. فَهُوَ يَسْأَلُ عَنْهَا فِي اسْتِنْكَارٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=33أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ؟ .. وَيُبَادِرُ بِبَيَانِ عِلَّةِ هَذَا الْقَوْلِ الْغَرِيبِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=33بَلْ لا يُؤْمِنُونَ . فَعَدَمُ اسْتِشْعَارِ قُلُوبِهِمْ لِلْإِيمَانِ، هُوَ الَّذِي يُنْطِقُهُمْ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ; بَعْدَ أَنْ يَحْجُبَهُمْ عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَةِ هَذَا الْقُرْآنِ. وَلَوْ أَدْرَكُوهَا لَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُنْعِ بَشَرٍ; وَأَنَّهُ لَا يَحْمِلُهُ إِلَّا صَادِقٌ أَمِينٌ.
[ ص: 3399 ] وَمَا دَامَتْ قُلُوبُهُمْ لَا تَسْتَشْعِرُ حَقِيقَةَ هَذَا التَّنْزِيلِ; فَهُوَ يَتَحَدَّاهُمْ إِذَنْ بِبُرْهَانِ الْوَاقِعِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْمِرَاءَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=34فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ .
وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا التَّحَدِّي فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ; وَتَلَقَّاهُ الْمُنْكِرُونَ عَاجِزِينَ، وَوَقَفُوا تُجَاهَهُ صَاغِرِينَ. وَكَذَلِكَ يَقِفُ أَمَامَهُ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
إِنَّ فِي هَذَا الْقُرْآنِ سِرًّا خَاصًّا، يَشْعُرُ بِهِ كُلُّ مَنْ يُوَاجِهُ نُصُوصَهُ ابْتِدَاءً، قَبْلَ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ مَوَاضِعِ الْإِعْجَازِ فِيهَا. إِنَّهُ يَشْعُرُ بِسُلْطَانٍ خَاصٍّ فِي عِبَارَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ. يَشْعُرُ أَنَّ هُنَالِكَ شَيْئًا مَا وَرَاءَ الْمَعَانِي الَّتِي يُدْرِكُهَا الْعَقْلُ مِنَ التَّعْبِيرِ. وَأَنَّ هُنَالِكَ عُنْصُرًا مَا يَنْسَكِبُ فِي الْحِسِّ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِمَاعِ لِهَذَا الْقُرْآنِ. يُدْرِكُهُ بَعْضُ النَّاسِ وَاضِحًا وَيُدْرِكُهُ بَعْضُ النَّاسِ غَامِضًا، وَلَكِنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَوْجُودٌ. هَذَا الْعُنْصُرُ الَّذِي يَنْسَكِبُ فِي الْحِسِّ، يَصْعُبُ تَحْدِيدُ مَصْدَرِهِ: أَهْوَ الْعِبَارَةَ ذَاتُهَا؟ أَهْوَ الْمَعْنَى الْكَامِنُ فِيهَا؟ أَهْوَ الصُّوَرُ وَالظِّلَالُ الَّتِي تُشِعُّهَا؟ أَهْوَ الْإِيقَاعُ الْقُرْآنِيُّ الْخَاصُّ الْمُتَمَيِّزُ مِنْ إِيقَاعِ سَائِرِ الْقَوْلِ الْمَصُوغِ مِنَ اللُّغَةِ؟ أَهِيَ هَذِهِ الْعَنَاصِرُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً؟ أَمْ إِنَّهَا هِيَ وَشَيْءٌ آخَرُ وَرَاءَهَا غَيْرُ مَحْدُودٍ؟!
ذَلِكَ سِرٌّ مُودَعٌ فِي كُلِّ نَصٍّ قُرْآنِيٍّ، يَشْعَرُ بِهِ كُلُّ مَنْ يُوَاجِهُ نُصُوصَ هَذَا الْقُرْآنِ ابْتِدَاءً.. ثُمَّ تَأْتِي وَرَاءَهُ الْأَسْرَارُ الْمُدْرَكَةُ بِالتَّدَبُّرِ وَالنَّظَرِ وَالتَّفْكِيرِ فِي بِنَاءِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ:
فِي التَّصَوُّرِ الْكَامِلِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُنْشِئُهُ فِي الْحِسِّ وَالْقَلْبِ وَالْعَقْلِ. التَّصَوُّرُ لِحَقِيقَةِ الْوُجُودِ الْإِنْسَانِيِّ، وَحَقِيقَةِ الْوُجُودِ كُلِّهِ، وَلِلْحَقِيقَةِ الْأُولَى الَّتِي تَنْبُعُ مِنْهَا كُلُّ حَقِيقَةٍ. حَقِيقَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.