فأما القاعدة الثانية - قاعدة تلقي الشريعة من مصدر واحد:
nindex.php?page=treesubj&link=29030_19860_21368_28328_30532_34090_8586nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=7وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا .. فهي كذلك تمثل النظرية الدستورية الإسلامية. فسلطان القانون في الإسلام مستمد من أن هذا التشريع جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرآنا أو سنة. والأمة كلها والإمام معها لا تملك أن تخالف عما جاء به الرسول. فإذا شرعت ما يخالفه لم يكن لتشريعها هذا سلطان، لأنه فقد السند الأول الذي يستمد منه السلطان.. وهذه النظرية تخالف جميع النظريات البشرية الوضعية، بما فيها تلك التي تجعل الأمة مصدر السلطات، بمعنى أن للأمة أن تشرع لنفسها ما تشاء، وكل ما تشرعه فهو ذو سلطان. فمصدر السلطات في الإسلام هو شرع الله الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والأمة تقوم على هذه الشريعة وتحرسها وتنفذها - والإمام نائب عن الأمة في هذا - وفي هذا تنحصر حقوق الأمة. فليس لها أن تخالف عما آتاها الرسول في أي تشريع.
فأما حين لا توجد نصوص فيما جاء به الرسول بخصوص أمر يعرض للأمة فسبيلها أن تشرع له بما لا يخالف أصلا من أصول ما جاء به الرسول. وهذا لا ينقض تلك النظرية، إنما هو فرع عنها. فالمرجع في أي تشريع هو أن يتبع ما جاء به الرسول إن كان هناك نص. وألا يخالف أصلا من أصوله فيما لا نص فيه. وتنحصر سلطة الأمة - والإمام النائب عنها - في هذه الحدود. وهو نظام فريد لا يماثله نظام آخر مما عرفته البشرية من نظم وضعية. وهو نظام يربط التشريع للناس بناموس الكون كله. وينسق بين ناموس الكون الذي وضعه الله له والقانون الذي يحكم البشر وهو من الله. كي لا يصطدم قانون البشر بناموس الكون، فيشقى الإنسان أو يتحطم أو تذهب جهوده أدراج الرياح!
وتربط الآية هاتين القاعدتين في قلوب المؤمنين بمصدرهما الأول.. وهو الله.. فتدعوهم إلى التقوى وتخوفهم عقاب الله:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=7واتقوا الله إن الله شديد العقاب .. وهذا هو الضمان الأكبر الذي لا احتيال عليه، ولا هروب منه. فقد علم المؤمنون أن الله مطلع على السرائر، خبير بالأعمال، وإليه المرجع والمآب. وعلموا أنه شديد العقاب. وعلموا أنهم مكلفون ألا يكون المال دولة بينهم، وأن يأخذوا ما آتاهم الرسول عن رضى وطاعة، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه في غير ترخص ولا تساهل وأمامهم يوم عصيب..
ولقد كان توزيع ذلك الفيء - فيء
بني النضير - على
المهاجرين وحدهم عدا رجلين من
الأنصار إجراء خاصا بهذا الفيء، تحقيقا لقاعدة:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=7كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم .. فأما الحكم العام، فهو أن
[ ص: 3526 ] يكون للفقراء عامة. من
المهاجرين ومن
الأنصار وممن يأتي بعدهم من الأجيال. وهذا ما تضمنته الآيات التالية في السياق.
ولكن القرآن لا يذكر الأحكام جافة مجردة، إنما يوردها في جو حي يتجاوب فيه الأحياء. ومن ثم أحاط كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث بصفاتها الواقعية الحية التي تصور طبيعتها وحقيقتها; وتقرر الحكم حيا يتعامل مع هؤلاء الأحياء:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون ..
وهي صورة صادقة تبرز فيها أهم الملامح المميزة
للمهاجرين.. أخرجوا إخراجا من ديارهم وأموالهم. أكرههم على الخروج الأذى والاضطهاد والتنكر من قرابتهم وعشيرتهم في
مكة. لا لذنب إلا أن يقولوا ربنا الله ... وقد خرجوا تاركين ديارهم وأموالهم
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8يبتغون فضلا من الله ورضوانا اعتمادهم على الله في فضله ورضوانه. لا ملجأ لهم سواه، ولا جناب لهم إلا حماه.. وهم مع أنهم مطاردون قليلون
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8وينصرون الله ورسوله .. بقلوبهم وسيوفهم في أحرج الساعات وأضيق الأوقات.
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8أولئك هم الصادقون .. الذين قالوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وصدقوها بعملهم. وكانوا صادقين مع الله في أنهم اختاروه. وصادقين مع رسوله في أنهم اتبعوه. وصادقين مع الحق في أنهم كانوا صورة منه تدب على الأرض ويراها الناس!
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ..
وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة
للأنصار. هذه المجموعة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلاما طائرة ورؤى مجنحة ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق..
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم .. أي
دار الهجرة. يثرب مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد تبوأها
الأنصار قبل
المهاجرين. كما تبوأوا فيها الإيمان. وكأنه منزل لهم ودار. وهو تعبير ذو ظلال. وهو أقرب ما يصور موقف
الأنصار من الإيمان. لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه ويطمئنون له، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار.
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا .. ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال
الأنصار للمهاجرين. بهذا الحب الكريم. وبهذا البذل السخي. وبهذه المشاركة الرضية. وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء. حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة. لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد
المهاجرين! nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا .. مما يناله
المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع، ومن مال يختصون به كهذا الفيء، فلا يجدون في أنفسهم شيئا من هذا. ولا يقول: حسدا ولا ضيقا. إنما يقول: "شيئا". مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم، فلا تجد شيئا أصلا.
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة .. والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا. وقد بلغ إليها
الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيرا. وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديما وحديثا.
[ ص: 3527 ] nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون .. فهذا الشح. شح النفس. هو المعوق عن كل خير. لأن الخير بذل في صورة من الصور. بذل في المال. وبذل في العاطفة. وبذل في الجهد. وبذل في الحياة عند الاقتضاء. وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائما أن يأخذ ولا يهم مرة أن يعطي. ومن يوق شح نفسه، فقد وقي هذا المعوق عن الخير، فانطلق إليه معطيا باذلا كريما. وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه.
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=10والذين جاءوا من بعدهم، يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا. ربنا إنك رءوف رحيم ..
وهذه الصورة الثالثة النظيفة الرضية الواعية. وهي تبرز أهم ملامح التابعين. كما تبرز أخص خصائص الأمة المسلمة على الإطلاق في جميع الأوطان والأزمان.
هؤلاء الذين يجيئون بعد
المهاجرين والأنصار - ولم يكونوا قد جاءوا بعد عند نزول الآية في
المدينة، إنما كانوا قد جاءوا في علم الله وفي الحقيقة القائمة في هذا العلم المطلق من حدود الزمان والمكان - سمة نفوسهم أنها تتوجه إلى ربها في طلب المغفرة، لا لذاتها ولكن كذلك لسلفها الذين سبقوا بالإيمان; وفي طلب براءة القلب من الغل للذين آمنوا على وجه الإطلاق، ممن يربطهم معهم رباط الإيمان. مع الشعور برأفة الله، ورحمته، ودعائه بهذه الرحمة، وتلك الرأفة:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=10ربنا إنك رءوف رحيم ..
وتتجلى من وراء تلك النصوص طبيعة هذه الأمة المسلمة وصورتها الوضيئة في هذا الوجود. تتجلى الآصرة القوية الوثيقة التي تربط أول هذه الأمة بآخرها، وآخرها بأولها، في تضامن وتكافل وتواد وتعاطف. وشعور بوشيجة القربى العميقة التي تتخطى الزمان والمكان والجنس والنسب; وتتفرد وحدها في القلوب، تحرك المشاعر خلال القرون الطويلة، فيذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة، كما يذكر أخاه الحي، أو أشد، في إعزاز وكرامة وحب. ويحسب السلف حساب الخلف. ويمضي الخلف على آثار السلف. صفا واحدا وكتيبة واحدة على مدار الزمان واختلاف الأوطان، تحت راية الله تغذ السير صعدا إلى الأفق الكريم، متطلعة إلى ربها الواحد الرؤوف الرحيم.
إنها صورة باهرة، تمثل حقيقة قائمة; كما تمثل أرفع وأكرم مثال للبشرية يتصوره قلب كريم. صورة تبدو كرامتها ووضاءتها على أتمها حين تقرن مثلا إلى صورة الحقد الذميم والهدم اللئيم التي تمثلها وتبشر بها الشيوعية في إنجيل كارل ماركس. صورة الحقد الذي ينغل في الصدور، وينخر في الضمير، على الطبقات، وعلى أجيال البشرية السابقة، وعلى أممها الحاضرة التي لا تعتنق الحقد الطبقي الذميم. وعلى الإيمان والمؤمنين من كل أمة وكل دين!
صورتان لا التقاء بينهما في لمحة ولا سمة، ولا لمسة ولا ظل. صورة ترفع البشرية إلى أعلى مراقيها; وصورة تهبط بها إلى أدنى دركاتها. صورة تمثل الأجيال من وراء الزمان والمكان والجنس والوطن والعشيرة والنسب متضامنة مترابطة متكافلة متوادة متعارفة صاعدة في طريقها إلى الله، بريئة الصدور من الغل، طاهرة القلوب من الحقد، وصورة تمثل البشرية أعداء متناحرين يلقى بعضهم بعضا بالحقد والدخل والدغل والغش والخداع والالتواء. حتى وهم في المعبد يقيمون الصلاة. فالصلاة ليست سوى أحبولة، والدين كله ليس إلا فخا ينصبه رأس المال للكادحين!
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=10ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا. ربنا إنك رءوف رحيم ..
[ ص: 3528 ] هذه هي قافلة الإيمان. وهذا هو دعاء الإيمان. وإنها لقافلة كريمة. وإنه لدعاء كريم.
وحين ينتهي السياق من رسم هذه الصورة الوضيئة، ورفعها على الأفق في إطار النور. يعود إلى الحادث الذي نزلت فيه السورة، ليرسم صورة لفريق آخر ممن اشتركوا فيها. فريق المنافقين:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=11ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، ولا نطيع فيكم أحدا أبدا، وإن قوتلتم لننصرنكم، والله يشهد إنهم لكاذبون. nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=12لئن أخرجوا لا يخرجون معهم، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم، ولئن نصروهم ليولن الأدبار، ثم لا ينصرون. nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=13لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون. nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=14لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون. nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=15كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم، ولهم عذاب أليم. nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=16كمثل الشيطان إذ قال للإنسان: اكفر. فلما كفر قال: إني بريء منك، إني أخاف الله رب العالمين. nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=17فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها، وذلك جزاء الظالمين ..
وهي حكاية لما قاله المنافقون ليهود
بني النضير، ثم لم يفوا به، وخذلوهم فيه، حتى أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب. ولكن في كل جملة قرآنية لفتة تقرر حقيقة، وتمس قلبا، وتبعث انفعالا، وتقر مقوما من مقومات التربية والمعرفة والإيمان العميق.
وأول لفتة هي تقرير القرابة بين المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=11ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب . فأهل الكتاب هؤلاء كفروا. والمنافقون إخوانهم ولو أنهم يلبسون رداء الإسلام!
ثم هذا التوكيد الشديد في وعد المنافقين لإخوانهم:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=11لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا، وإن قوتلتم لننصرنكم ..
والله الخبير بحقيقتهم يقرر غير ما يقررون، ويؤكد غير ما يؤكدون:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=11والله يشهد إنهم لكاذبون. nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=12لئن أخرجوا لا يخرجون معهم، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم، ولئن نصروهم ليولن الأدبار. ثم لا ينصرون ..
وكان ما شهد به الله. وكذب ما أعلنوه لإخوانهم وقرروه!
ثم يقرر حقيقة قائمة في نفوس المنافقين وإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=13لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله. ذلك بأنهم قوم لا يفقهون .
فهم يرهبون المؤمنين أشد مما يرهبون الله. ولو خافوا الله ما خافوا أحدا من عباده. فإنما هو خوف واحد ورهبة واحدة. ولا يجتمع في قلب خوف من الله وخوف من شيء سواه. فالعزة لله جميعا، وكل قوى الكون خاضعة لأمره،
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=56ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها فمم يخاف إذن ذلك الذي يخاف الله؟ ولكن الذين لا يفقهون هذه الحقيقة يخافون عباد الله أشد مما يخافون الله..
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=13ذلك بأنهم قوم لا يفقهون ..
وهكذا يكشف عن حقيقة القوم الواقعة. ويقرر في الوقت ذاته تلك الحقيقة المجردة. ويمضي يقرر حالة قائمة في نفوس المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب، تنشأ من حقيقتهم السابقة، ورهبتهم للمؤمنين أشد من رهبتهم لله.
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=14لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر. بأسهم بينهم شديد. تحسبهم جميعا وقلوبهم [ ص: 3529 ] شتى. ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ..
وما تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في "تشخيص" حالة المنافقين وأهل الكتاب حيثما التقى المؤمنون بهم في أي زمان وفي أي مكان. بشكل واضح للعيان. ولقد شهدت الاشتباكات الأخيرة في الأرض المقدسة بين المؤمنين الفدائيين وبين اليهود مصداق هذا الخبر بصورة عجيبة. فما كانوا يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة في أرض
فلسطين. فإذا انكشفوا لحظة واحدة ولوا الأدبار كالجرذان. حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداء. وسبحان العليم الخبير!
وتبقى الملامح النفسية الأخرى
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=14بأسهم بينهم شديد ..
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=14تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى على خلاف المؤمنين الذين تتضامن أجيالهم، وتجمعهم آصرة الإيمان من وراء فواصل الزمان والمكان، والجنس والوطن والعشيرة..
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=14ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ..
والمظاهر قد تخدع فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم، ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض، كما نرى تجمع المنافقين أحيانا في معسكر واحد. ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم إنما هو مظهر خارجي خادع. وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخداع. فيبدو من ورائه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور، وينكشف الحال عن نزاع في داخل المعسكر الواحد، قائم على اختلاف المصالح وتفرق الأهواء، وتصادم الاتجاهات. وما صدق المؤمنون مرة، وتجمعت قلوبهم على الله حقا إلا وانكشف المعسكر الآخر أمامهم عن هذه الاختلافات وهذا التضارب وهذا الرياء الذي لا يمثل حقيقة الحال. وما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا مظهر التماسك بين أهل الباطل يتفسخ وينهار، وينكشف عن الخلاف الحاد والشقاق والكيد والدس في القلوب الشتيتة المتفرقة!
إنما ينال المنافقون والذين كفروا من أهل الكتاب.. من المسلمين.. عند ما تتفرق قلوب المسلمين، فلا يعودون يمثلون حقيقة المؤمنين التي عرضتها الآية في المقطع السابق في هذه السورة. فأما في غير هذه الحالة فالمنافقون أضعف وأعجز، وهم والذين كفروا من أهل الكتاب متفرقو الأهواء والمصالح والقلوب
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=14بأسهم بينهم شديد ..
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=14تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ..
والقرآن يقر هذه الحقيقة في قلوب المؤمنين، ليهون فيها من شأن أعدائهم; ويرفع منها هيبة هؤلاء الأعداء ورهبتهم. فهو إيحاء قائم على حقيقة; وتعبئة روحية ترتكن إلى حق ثابت. ومتى أخذ المسلمون قرآنهم مأخذ الجد هان عليهم أمر عدوهم وعدو الله، وتجمعت قلوبهم في الصف الواحد، فلم تقف لهم قوة في الحياة.
فَأَمَّا الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ - قَاعِدَةُ تَلَقِّي الشَّرِيعَةِ مِنْ مَصْدَرٍ وَاحِدٍ:
nindex.php?page=treesubj&link=29030_19860_21368_28328_30532_34090_8586nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=7وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا .. فَهِيَ كَذَلِكَ تُمَثِّلُ النَّظَرِيَّةَ الدُّسْتُورِيَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ. فَسُلْطَانُ الْقَانُونِ فِي الْإِسْلَامِ مُسْتَمَدٌّ مِنْ أَنَّ هَذَا التَّشْرِيعَ جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرْآنًا أَوْ سُنَّةً. وَالْأُمَّةُ كُلُّهَا وَالْإِمَامُ مَعَهَا لَا تَمْلِكُ أَنْ تُخَالِفَ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. فَإِذَا شَرَّعَتْ مَا يُخَالِفُهُ لَمْ يَكُنْ لِتَشْرِيعِهَا هَذَا سُلْطَانٌ، لِأَنَّهُ فَقَدَ السَّنَدَ الْأَوَّلَ الَّذِي يُسْتَمَدُّ مِنْهُ السُّلْطَانُ.. وَهَذِهِ النَّظَرِيَّةُ تُخَالِفُ جَمِيعَ النَّظَرِيَّاتِ الْبَشَرِيَّةِ الْوَضْعِيَّةِ، بِمَا فِيهَا تِلْكَ الَّتِي تَجْعَلُ الْأُمَّةُ مَصْدَرَ السُّلُطَاتِ، بِمَعْنَى أَنَّ لِلْأُمَّةِ أَنْ تُشَرِّعَ لِنَفْسِهَا مَا تَشَاءُ، وَكُلُّ مَا تُشَرِّعُهُ فَهُوَ ذُو سُلْطَانٍ. فَمَصْدَرُ السُّلُطَاتِ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ شَرْعُ اللَّهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأُمَّةُ تَقُومُ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَتَحْرُسُهَا وَتُنَفِّذُهَا - وَالْإِمَامُ نَائِبٌ عَنِ الْأُمَّةِ فِي هَذَا - وَفِي هَذَا تَنْحَصِرُ حُقُوقُ الْأُمَّةِ. فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُخَالِفَ عَمَّا آتَاهَا الرَّسُولُ فِي أَيِّ تَشْرِيعٍ.
فَأَمَّا حِينَ لَا تُوجَدُ نُصُوصٌ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ بِخُصُوصِ أَمْرٍ يَعْرِضُ لِلْأُمَّةِ فَسَبِيلُهَا أَنْ تُشَرِّعَ لَهُ بِمَا لَا يُخَالِفُ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَهَذَا لَا يَنْقُضُ تِلْكَ النَّظَرِيَّةَ، إِنَّمَا هُوَ فَرْعٌ عَنْهَا. فَالْمَرْجِعُ فِي أَيِّ تَشْرِيعِ هُوَ أَنْ يُتَّبَعَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ. وَأَلَّا يُخَالِفَ أَصْلًا مِنْ أُصُولِهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ. وَتَنْحَصِرُ سُلْطَةُ الْأُمَّةِ - وَالْإِمَامِ النَّائِبِ عَنْهَا - فِي هَذِهِ الْحُدُودِ. وَهُوَ نِظَامٌ فَرِيدٌ لَا يُمَاثِلُهُ نِظَامٌ آخَرُ مِمَّا عَرَفَتْهُ الْبَشَرِيَّةُ مِنْ نُظُمٍ وَضْعِيَّةٍ. وَهُوَ نِظَامٌ يَرْبُطُ التَّشْرِيعَ لِلنَّاسِ بِنَامُوسِ الْكَوْنِ كُلِّهِ. وَيُنَسِّقُ بَيْنَ نَامُوسِ الْكَوْنِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ لَهُ وَالْقَانُونِ الَّذِي يَحْكُمُ الْبَشَرَ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ. كَيْ لَا يَصْطَدِمَ قَانُونُ الْبَشَرِ بِنَامُوسِ الْكَوْنِ، فَيَشْقَى الْإِنْسَانُ أَوْ يَتَحَطَّمُ أَوْ تَذْهَبُ جُهُودُهُ أَدْرَاجَ الرِّيَاحِ!
وَتَرْبُطُ الْآيَةُ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَصْدَرِهِمَا الْأَوَّلِ.. وَهُوَ اللَّهُ.. فَتَدْعُوهُمْ إِلَى التَّقْوَى وَتُخَوِّفُهُمْ عِقَابَ اللَّهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=7وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ .. وَهَذَا هُوَ الضَّمَانُ الْأَكْبَرُ الَّذِي لَا احْتِيَالَ عَلَيْهِ، وَلَا هُرُوبَ مِنْهُ. فَقَدْ عَلِمَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى السَّرَائِرِ، خَبِيرٌ بِالْأَعْمَالِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. وَعَلِمُوا أَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ. وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ أَلَّا يَكُونَ الْمَالُ دُولَةً بَيْنَهُمْ، وَأَنْ يَأْخُذُوا مَا آتَاهُمُ الرَّسُولُ عَنْ رِضًى وَطَاعَةٍ، وَأَنْ يَنْتَهُوا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ فِي غَيْرِ تَرَخُّصٍ وَلَا تَسَاهُلٍ وَأَمَامَهُمْ يَوْمٌ عَصِيبٌ..
وَلَقَدْ كَانَ تَوْزِيعُ ذَلِكَ الْفَيْءِ - فَيْءِ
بَنِي النَّضِيرِ - عَلَى
الْمُهَاجِرِينَ وَحْدَهُمْ عَدَا رَجُلَيْنِ مِنَ
الْأَنْصَارِ إِجْرَاءً خَاصًّا بِهَذَا الْفَيْءِ، تَحْقِيقًا لِقَاعِدَةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=7كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ .. فَأَمَّا الْحُكْمُ الْعَامُّ، فَهُوَ أَنْ
[ ص: 3526 ] يَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ عَامَّةً. مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَمِنَ
الْأَنْصَارِ وَمِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَجْيَالِ. وَهَذَا مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَاتُ التَّالِيَةُ فِي السِّيَاقِ.
وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَذْكُرُ الْأَحْكَامَ جَافَّةً مُجَرَّدَةً، إِنَّمَا يُورِدُهَا فِي جَوٍّ حَيٍّ يَتَجَاوَبُ فِيهِ الْأَحْيَاءُ. وَمِنْ ثَمَّ أَحَاطَ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثِ بِصِفَاتِهَا الْوَاقِعِيَّةِ الْحَيَّةِ الَّتِي تُصَوِّرُ طَبِيعَتَهَا وَحَقِيقَتَهَا; وَتُقَرِّرُ الْحُكْمَ حَيًّا يَتَعَامَلُ مَعَ هَؤُلَاءِ الْأَحْيَاءِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، وَيَنْصُرُونَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ، أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ..
وَهِيَ صُورَةٌ صَادِقَةٌ تَبْرُزُ فِيهَا أَهَمُّ الْمَلَامِحِ الْمُمَيِّزَةِ
لِلْمُهَاجِرِينَ.. أُخْرِجُوا إِخْرَاجًا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. أَكْرَهَهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ الْأَذَى وَالِاضْطِهَادُ وَالتَّنَكُّرُ مِنْ قَرَابَتِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ فِي
مَكَّةَ. لَا لِذَنْبٍ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ... وَقَدْ خَرَجُوا تَارِكِينَ دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا اعْتِمَادُهُمْ عَلَى اللَّهِ فِي فَضْلِهِ وَرِضْوَانِهِ. لَا مَلْجَأَ لَهُمْ سِوَاهُ، وَلَا جَنَابَ لَهُمْ إِلَّا حِمَاهُ.. وَهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ مُطَارَدُونَ قَلِيلُونَ
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ .. بِقُلُوبِهِمْ وَسُيُوفِهِمْ فِي أَحْرَجِ السَّاعَاتِ وَأَضْيَقِ الْأَوْقَاتِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ .. الَّذِينَ قَالُوا كَلِمَةَ الْإِيمَانِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَصَدَّقُوهَا بِعَمَلِهِمْ. وَكَانُوا صَادِقِينَ مَعَ اللَّهِ فِي أَنَّهُمُ اخْتَارُوهُ. وَصَادِقِينَ مَعَ رَسُولِهِ فِي أَنَّهُمُ اتَّبَعُوهُ. وَصَادِقِينَ مَعَ الْحَقِّ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا صُورَةً مِنْهُ تَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ وَيَرَاهَا النَّاسُ!
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يُحِبُّونَ مِنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ..
وَهَذِهِ كَذَلِكَ صُورَةٌ وَضِيئَةٌ صَادِقَةٌ تُبْرِزُ أَهَمَّ الْمَلَامِحِ الْمُمَيِّزَةِ
لِلْأَنْصَارِ. هَذِهِ الْمَجْمُوعَةُ الَّتِي تَفَرَّدَتْ بِصِفَاتٍ، وَبَلَغَتْ إِلَى آفَاقٍ، لَوْلَا أَنَّهَا وَقَعَتْ بِالْفِعْلِ، لَحَسِبَهَا النَّاسُ أَحْلَامًا طَائِرَةً وَرُؤًى مُجَنَّحَةً وَمُثُلًا عُلْيَا قَدْ صَاغَهَا خَيَالٌ مُحَلِّقٌ..
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ .. أَيْ
دَارَ الْهِجْرَةِ. يَثْرِبَ مَدِينَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ تَبَوَّأَهَا
الْأَنْصَارُ قَبْلَ
الْمُهَاجِرِينَ. كَمَا تَبَوَّأُوا فِيهَا الْإِيمَانَ. وَكَأَنَّهُ مَنْزِلٌ لَهُمْ وَدَارٌ. وَهُوَ تَعْبِيرٌ ذُو ظِلَالٍ. وَهُوَ أَقْرَبُ مَا يُصَوِّرُ مَوْقِفَ
الْأَنْصَارِ مِنَ الْإِيمَانِ. لَقَدْ كَانَ دَارَهُمْ وَنُزُلَهُمْ وَوَطَنَهُمُ الَّذِي تَعِيشُ فِيهِ قُلُوبُهُمْ، وَتَسْكُنُ إِلَيْهِ أَرْوَاحُهُمْ، وَيَثُوبُونَ إِلَيْهِ وَيَطْمَئِنُّونَ لَهُ، كَمَا يَثُوبُ الْمَرْءُ وَيَطْمَئِنُّ إِلَى الدَّارِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا .. وَلَمْ يَعْرِفْ تَارِيخُ الْبَشَرِيَّةِ كُلُّهُ حَادِثًا جَمَاعِيًّا كَحَادِثِ اسْتِقْبَالِ
الْأَنْصَارِ لِلْمُهَاجِرِينَ. بِهَذَا الْحُبِّ الْكَرِيمِ. وَبِهَذَا الْبَذْلِ السَّخِيِّ. وَبِهَذِهِ الْمُشَارَكَةِ الرَّضِيَّةِ. وَبِهَذَا التَّسَابُقِ إِلَى الْإِيوَاءِ وَاحْتِمَالِ الْأَعْبَاءِ. حَتَّى لَيُرْوَى أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ مُهَاجِرٌ فِي دَارِ أَنْصَارِيٍّ إِلَّا بِقُرْعَةٍ. لِأَنَّ عَدَدَ الرَّاغِبِينَ فِي الْإِيوَاءِ الْمُتَزَاحِمِينَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ
الْمُهَاجِرِينَ! nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا .. مِمَّا يَنَالُهُ
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ مَقَامٍ مُفَضَّلٍ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَمَنْ مَالٍ يَخْتَصُّونَ بِهِ كَهَذَا الْفَيْءِ، فَلَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ شَيْئًا مِنْ هَذَا. وَلَا يَقُولُ: حَسَدًا وَلَا ضِيقًا. إِنَّمَا يَقُولُ: "شَيْئًا". مِمَّا يُلْقِي ظِلَالَ النَّظَافَةِ الْكَامِلَةِ لِصُدُورِهِمْ وَالْبَرَاءَةِ الْمُطْلَقَةِ لِقُلُوبِهِمْ، فَلَا تَجِدُ شَيْئًا أَصْلًا.
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ .. وَالْإِيثَارُ عَلَى النَّفْسِ مَعَ الْحَاجَةِ قِمَّةٌ عُلْيَا. وَقَدْ بَلَغَ إِلَيْهَا
الْأَنْصَارُ بِمَا لَمْ تَشْهَدِ الْبَشَرِيَّةُ لَهُ نَظِيرًا. وَكَانُوا كَذَلِكَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَفِي كُلِّ حَالَةٍ بِصُورَةٍ خَارِقَةٍ لِمَأْلُوفِ الْبَشَرِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.
[ ص: 3527 ] nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .. فَهَذَا الشُّحُّ. شَحُّ النَّفْسِ. هُوَ الْمُعَوِّقُ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ. لِأَنَّ الْخَيْرَ بَذْلٌ فِي صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ. بَذْلٌ فِي الْمَالِ. وَبَذْلٌ فِي الْعَاطِفَةِ. وَبَذْلٌ فِي الْجُهْدِ. وَبَذْلٌ فِي الْحَيَاةِ عِنْدَ الِاقْتِضَاءِ. وَمَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْنَعَ الْخَيْرَ شَحِيحٌ يَهِمُّ دَائِمًا أَنْ يَأْخُذَ وَلَا يَهِمُّ مَرَّةً أَنْ يُعْطِيَ. وَمَنْ يُوقَ شَحَّ نَفْسِهِ، فَقَدْ وُقِيَ هَذَا الْمُعَوِّقَ عَنِ الْخَيْرِ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ مُعْطِيًا بَاذِلًا كَرِيمًا. وَهَذَا هُوَ الْفَلَاحُ فِي حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ.
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=10وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا. رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ..
وَهَذِهِ الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ النَّظِيفَةُ الرَّضِيَّةُ الْوَاعِيَةُ. وَهِيَ تُبْرِزُ أَهَمَّ مَلَامِحِ التَّابِعِينَ. كَمَا تُبْرِزُ أَخَصَّ خَصَائِصِ الْأُمَّةِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي جَمِيعِ الْأَوْطَانِ وَالْأَزْمَانِ.
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَجِيئُونَ بَعْدَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - وَلَمْ يَكُونُوا قَدْ جَاءُوا بَعْدُ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ فِي
الْمَدِينَةِ، إِنَّمَا كَانُوا قَدْ جَاءُوا فِي عِلْمِ اللَّهِ وَفِي الْحَقِيقَةِ الْقَائِمَةِ فِي هَذَا الْعِلْمِ الْمُطْلَقِ مِنْ حُدُودِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ - سِمَةُ نُفُوسِهِمْ أَنَّهَا تَتَوَجَّهُ إِلَى رَبِّهَا فِي طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، لَا لِذَاتِهَا وَلَكِنْ كَذَلِكَ لِسَلَفِهَا الَّذِينَ سَبَقُوا بِالْإِيمَانِ; وَفِي طَلَبِ بَرَاءَةِ الْقَلْبِ مِنَ الْغِلِّ لِلَّذِينِ آمَنُوا عَلَى وَجْهِ الْإِطْلَاقِ، مِمَّنْ يَرْبُطُهُمْ مَعَهُمْ رِبَاطُ الْإِيمَانِ. مَعَ الشُّعُورِ بِرَأْفَةِ اللَّهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَدُعَائِهِ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ، وَتِلْكَ الرَّأْفَةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=10رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ..
وَتَتَجَلَّى مِنْ وَرَاءِ تِلْكَ النُّصُوصِ طَبِيعَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُسْلِمَةِ وَصُورَتُهَا الْوَضِيئَةُ فِي هَذَا الْوُجُودِ. تَتَجَلَّى الْآصِرَةُ الْقَوِيَّةُ الْوَثِيقَةُ الَّتِي تَرْبُطُ أَوَّلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِآخِرِهَا، وَآخِرَهَا بِأَوَّلِهَا، فِي تَضَامُنٍ وَتَكَافُلٍ وَتَوَادٍّ وَتَعَاطُفٍ. وَشُعُورٍ بِوَشِيجَةِ الْقُرْبَى الْعَمِيقَةِ الَّتِي تَتَخَطَّى الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ وَالْجِنْسَ وَالنَّسَبَ; وَتَتَفَرَّدُ وَحْدَهَا فِي الْقُلُوبِ، تُحَرِّكُ الْمَشَاعِرَ خِلَالَ الْقُرُونِ الطَّوِيلَةِ، فَيَذْكُرُ الْمُؤْمِنُ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ بَعْدَ الْقُرُونِ الْمُتَطَاوِلَةِ، كَمَا يَذْكُرُ أَخَاهُ الْحَيَّ، أَوْ أَشَدَّ، فِي إِعْزَازٍ وَكَرَامَةٍ وَحُبٍّ. وَيَحْسَبُ السَّلَفُ حِسَابَ الْخَلَفِ. وَيَمْضِي الْخَلَفُ عَلَى آثَارِ السَّلَفِ. صَفًّا وَاحِدًا وَكَتِيبَةً وَاحِدَةً عَلَى مَدَارِ الزَّمَانِ وَاخْتِلَافِ الْأَوْطَانِ، تَحْتَ رَايَةِ اللَّهِ تَغُذُّ السَّيْرَ صُعُدًا إِلَى الْأُفُقِ الْكَرِيمِ، مُتَطَلِّعَةً إِلَى رَبِّهَا الْوَاحِدِ الرَّؤُوفِ الرَّحِيمِ.
إِنَّهَا صُورَةٌ بَاهِرَةٌ، تُمَثِّلُ حَقِيقَةً قَائِمَةً; كَمَا تُمَثِّلُ أَرْفَعَ وَأَكْرَمَ مِثَالٍ لِلْبَشَرِيَّةِ يَتَصَوَّرُهُ قَلْبٌ كَرِيمٌ. صُورَةٌ تَبْدُو كَرَامَتُهَا وَوَضَاءَتُهَا عَلَى أَتَمِّهَا حِينَ تُقْرَنُ مَثَلًا إِلَى صُورَةِ الْحِقْدِ الذَّمِيمِ وَالْهَدْمِ اللَّئِيمِ الَّتِي تُمَثِّلُهَا وَتُبَشِّرُ بِهَا الشُّيُوعِيَّةُ فِي إِنْجِيلِ كَارْلِ مَارْكِسَ. صُورَةُ الْحِقْدِ الَّذِي يَنْغُلُ فِي الصُّدُورِ، وَيَنْخُرُ فِي الضَّمِيرِ، عَلَى الطَّبَقَاتِ، وَعَلَى أَجْيَالِ الْبَشَرِيَّةِ السَّابِقَةِ، وَعَلَى أُمَمِهَا الْحَاضِرَةِ الَّتِي لَا تَعْتَنِقُ الْحِقْدَ الطَّبَقِيَّ الذَّمِيمَ. وَعَلَى الْإِيمَانِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ كُلِّ أُمَّةِ وَكُلِّ دِينٍ!
صُورَتَانِ لَا الْتِقَاءَ بَيْنَهُمَا فِي لَمْحَةٍ وَلَا سِمَةٍ، وَلَا لَمْسَةٍ وَلَا ظِلٍّ. صُورَةٌ تَرْفَعُ الْبَشَرِيَّةَ إِلَى أَعْلَى مَرَاقِيهَا; وَصُورَةٌ تَهْبِطُ بِهَا إِلَى أَدْنَى دَرَكَاتِهَا. صُورَةٌ تُمَثِّلُ الْأَجْيَالَ مِنْ وَرَاءِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْجِنْسِ وَالْوَطَنِ وَالْعَشِيرَةِ وَالنَّسَبِ مُتَضَامِنَةً مُتَرَابِطَةً مُتَكَافِلَةً مُتَوَادَّةً مُتَعَارِفَةً صَاعِدَةً فِي طَرِيقِهَا إِلَى اللَّهِ، بَرِيئَةَ الصُّدُورِ مِنَ الْغِلِّ، طَاهِرَةَ الْقُلُوبِ مِنَ الْحِقْدِ، وَصُورَةٌ تُمَثِّلُ الْبَشَرِيَّةَ أَعْدَاءً مُتَنَاحِرِينَ يَلْقَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْحِقْدِ وَالدَّخَلِ وَالدَّغَلِ وَالْغِشِّ وَالْخِدَاعِ وَالِالْتِوَاءِ. حَتَّى وَهُمْ فِي الْمَعْبَدِ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ. فَالصَّلَاةُ لَيْسَتْ سِوَى أُحْبُولَةٍ، وَالدِّينُ كُلُّهُ لَيْسَ إِلَّا فَخًّا يَنْصِبُهُ رَأْسُ الْمَالِ لِلْكَادِحِينَ!
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=10رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا. رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ..
[ ص: 3528 ] هَذِهِ هِيَ قَافِلَةُ الْإِيمَانِ. وَهَذَا هُوَ دُعَاءُ الْإِيمَانِ. وَإِنَّهَا لَقَافِلَةٌ كَرِيمَةٌ. وَإِنَّهُ لَدُعَاءٌ كَرِيمٌ.
وَحِينَ يَنْتَهِي السِّيَاقُ مِنْ رَسْمِ هَذِهِ الصُّورَةِ الْوَضِيئَةِ، وَرَفْعِهَا عَلَى الْأُفُقِ فِي إِطَارِ النُّورِ. يَعُودُ إِلَى الْحَادِثِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ السُّورَةُ، لِيَرْسُمَ صُورَةً لِفَرِيقٍ آخَرَ مِمَّنِ اشْتَرَكُوا فِيهَا. فَرِيقِ الْمُنَافِقِينَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=11أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=12لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ، ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=13لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=14لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ، بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=15كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=16كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ: اكْفُرْ. فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=17فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا، وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ..
وَهِيَ حِكَايَةٌ لِمَا قَالَهُ الْمُنَافِقُونَ لِيَهُودِ
بَنِي النَّضِيرِ، ثُمَّ لَمْ يَفُوا بِهِ، وَخَذَلُوهُمْ فِيهِ، حَتَّى أَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ. وَلَكِنْ فِي كُلِّ جُمْلَةٍ قُرْآنِيَّةٍ لَفْتَةٌ تُقَرِّرُ حَقِيقَةً، وَتَمَسُّ قَلْبًا، وَتَبْعَثُ انْفِعَالًا، وَتُقِرُّ مُقَوِّمًا مِنْ مُقَوِّمَاتِ التَّرْبِيَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ الْعَمِيقِ.
وَأَوَّلُ لَفْتَةٍ هِيَ تَقْرِيرُ الْقَرَابَةِ بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=11أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . فَأَهْلُ الْكِتَابِ هَؤُلَاءِ كَفَرُوا. وَالْمُنَافِقُونَ إِخْوَانُهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ يَلْبَسُونَ رِدَاءَ الْإِسْلَامِ!
ثُمَّ هَذَا التَّوْكِيدُ الشَّدِيدُ فِي وَعْدِ الْمُنَافِقِينَ لِإِخْوَانِهِمْ:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=11لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ..
وَاللَّهُ الْخَبِيرُ بِحَقِيقَتِهِمْ يُقَرِّرُ غَيْرَ مَا يُقَرِّرُونَ، وَيُؤَكِّدُ غَيْرَ مَا يُؤَكِّدُونَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=11وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=12لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ. ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ..
وَكَانَ مَا شَهِدَ بِهِ اللَّهُ. وَكَذَّبَ مَا أَعْلَنُوهُ لِإِخْوَانِهِمْ وَقَرَّرُوهُ!
ثُمَّ يُقَرِّرُ حَقِيقَةً قَائِمَةً فِي نُفُوسِ الْمُنَافِقِينَ وَإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=13لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ .
فَهُمْ يَرْهَبُونَ الْمُؤْمِنِينَ أَشَدَّ مِمَّا يَرْهَبُونَ اللَّهَ. وَلَوْ خَافُوا اللَّهَ مَا خَافُوا أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ. فَإِنَّمَا هُوَ خَوْفٌ وَاحِدٌ وَرَهْبَةٌ وَاحِدَةٌ. وَلَا يَجْتَمِعُ فِي قَلْبٍ خَوْفٌ مِنَ اللَّهِ وَخَوْفٌ مِنْ شَيْءٍ سِوَاهُ. فَالْعِزَّةُ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَكُلُّ قُوَى الْكَوْنِ خَاضِعَةٌ لِأَمْرِهِ،
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=56مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا فَمِمَّ يَخَافُ إِذَنْ ذَلِكَ الَّذِي يَخَافُ اللَّهُ؟ وَلَكِنَّ الَّذِينَ لَا يَفْقَهُونَ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ يَخَافُونَ عِبَادَ اللَّهِ أَشَدَّ مِمَّا يَخَافُونَ اللَّهَ..
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=13ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ..
وَهَكَذَا يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ الْقَوْمِ الْوَاقِعَةِ. وَيُقَرِّرُ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ الْمُجَرَّدَةَ. وَيَمْضِي يُقَرِّرُ حَالَةً قَائِمَةً فِي نُفُوسِ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، تَنْشَأُ مِنْ حَقِيقَتِهِمُ السَّابِقَةِ، وَرَهْبَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ أَشَدَّ مِنْ رَهْبَتِهِمْ لِلَّهِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=14لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ. بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ. تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ [ ص: 3529 ] شَتَّى. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ..
وَمَا تَزَالُ الْأَيَّامُ تَكْشِفُ حَقِيقَةَ الْإِعْجَازِ فِي "تَشْخِيصِ" حَالَةِ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ حَيْثُمَا الْتَقَى الْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ فِي أَيِّ زَمَانٍ وَفِي أَيِّ مَكَانٍ. بِشَكْلٍ وَاضِحٍ لِلْعِيَانِ. وَلَقَدْ شَهِدَتِ الاشْتِبَاكَاتُ الْأَخِيرَةُ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الْفِدَائِيِّينَ وَبَيْنَ الْيَهُودِ مِصْدَاقَ هَذَا الْخَبَرِ بِصُورَةٍ عَجِيبَةٍ. فَمَا كَانُوا يُقَاتِلُونَهُمْ إِلَّا فِي الْمُسْتَعْمَرَاتِ الْمُحَصَّنَةِ فِي أَرْضِ
فِلَسْطِينَ. فَإِذَا انْكَشَفُوا لَحْظَةً وَاحِدَةً وَلَّوًا الْأَدْبَارَ كَالْجِرْذَانِ. حَتَّى لَكَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمُ ابْتِدَاءً. وَسُبْحَانَ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ!
وَتَبْقَى الْمَلَامِحُ النَّفْسِيَّةُ الْأُخْرَى
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=14بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=14تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى عَلَى خِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَتَضَامَنُ أَجْيَالُهُمْ، وَتَجْمَعُهُمْ آصِرَةُ الْإِيمَانِ مِنْ وَرَاءِ فَوَاصِلِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَالْجِنْسِ وَالْوَطَنِ وَالْعَشِيرَةِ..
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=14ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ..
وَالْمَظَاهِرُ قَدْ تَخْدَعُ فَنَرَى تَضَامُنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَنَرَى عَصَبِيَّتَهُمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، كَمَا نَرَى تَجَمُّعَ الْمُنَافِقِينَ أَحْيَانًا فِي مُعَسْكَرٍ وَاحِدٍ. وَلَكِنَّ الْخَبَرَ الصَّادِقَ مِنَ السَّمَاءِ يَأْتِينَا بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ فِي حَقِيقَتِهِمْ إِنَّمَا هُوَ مَظْهَرٌ خَارِجِيٌّ خَادِعٌ. وَبَيْنَ الْحِينِ وَالْحِينِ يَنْكَشِفُ هَذَا السِّتَارُ الْخَدَّاعُ. فَيَبْدُو مِنْ وَرَائِهِ صِدْقُ الْخَبَرِ فِي دُنْيَا الْوَاقِعِ الْمَنْظُورِ، وَيَنْكَشِفُ الْحَالُ عَنْ نِزَاعٍ فِي دَاخِلِ الْمُعَسْكَرِ الْوَاحِدِ، قَائِمٍ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ وَتَفَرُّقِ الْأَهْوَاءِ، وَتَصَادُمِ الِاتِّجَاهَاتِ. وَمَا صَدَقَ الْمُؤْمِنُونَ مَرَّةً، وَتَجَمَّعَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى اللَّهِ حَقًّا إِلَّا وَانْكَشَفَ الْمُعَسْكَرَ الْآخَرَ أَمَامَهُمْ عَنْ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ وَهَذَا التَّضَارُبَ وَهَذَا الرِّيَاءَ الَّذِي لَا يُمَثِّلُ حَقِيقَةَ الْحَالِ. وَمَا صَبَرَ الْمُؤْمِنُونَ وَثَبَتُوا إِلَّا وَشَهِدُوا مَظْهَرَ التَّمَاسُكِ بَيْنَ أَهْلِ الْبَاطِلِ يَتَفَسَّخُ وَيَنْهَارُ، وَيَنْكَشِفُ عَنِ الْخِلَافِ الْحَادِّ وَالشِّقَاقِ وَالْكَيْدِ وَالدَّسِّ فِي الْقُلُوبِ الشَّتِيتَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ!
إِنَّمَا يَنَالُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.. مِنَ الْمُسْلِمِينَ.. عِنْدَ مَا تَتَفَرَّقُ قُلُوبُ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَعُودُونَ يُمَثِّلُونَ حَقِيقَةَ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي عَرَضَتْهَا الْآيَةُ فِي الْمَقْطَعِ السَّابِقِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. فَأَمَّا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَالْمُنَافِقُونَ أَضْعَفُ وَأَعْجَزُ، وَهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مُتَفَرِّقُو الْأَهْوَاءِ وَالْمَصَالِحِ وَالْقُلُوبِ
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=14بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=14تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ..
وَالْقُرْآنُ يُقِرُّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، لِيُهَوِّنَ فِيهَا مِنْ شَأْنِ أَعْدَائِهِمْ; وَيَرْفَعُ مِنْهَا هَيْبَةَ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ وَرَهْبَتَهُمْ. فَهُوَ إِيحَاءٌ قَائِمٌ عَلَى حَقِيقَةٍ; وَتَعْبِئَةٌ رُوحِيَّةٌ تَرْتَكِنُ إِلَى حَقٍّ ثَابِتٍ. وَمَتَى أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ قُرْآنَهُمْ مَأْخَذَ الْجِدِّ هَانَ عَلَيْهِمْ أَمْرُ عَدُوِّهِمْ وَعَدُوِّ اللَّهِ، وَتَجَمَّعَتْ قُلُوبُهُمْ فِي الصَّفِّ الْوَاحِدِ، فَلَمْ تَقِفْ لَهُمْ قُوَّةٌ فِي الْحَيَاةِ.