إنها تبدأ بعتاب على حادث وقع أو حوادث:
nindex.php?page=treesubj&link=29032_18470_30945_32215_34153nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=2يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ .
وتثني باستنكار لهذا الفعل وهذا الخلق في صيغة تضخم هذا الاستنكار:
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=3كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون؟ ..
والمقت الذي يكبر
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=3عند الله .. هو أكبر المقت وأشد البغض وأنكر النكر.. وهذا غاية التفظيع لأمر، وبخاصة في ضمير المؤمن، الذي ينادى بإيمانه، والذي يناديه ربه الذي آمن به.
والآية الثالثة تشير إلى الموضوع المباشر الذي قالوا فيه ما لم يفعلوا.. وهو الجهاد.. وتقرر ما يحبه الله فيه ويرضاه:
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=4إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ..
فليس هو مجرد القتال. ولكنه هو القتال في سبيله. والقتال في تضامن مع الجماعة المسلمة داخل الصف. والقتال في ثبات وصمود
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=4صفا كأنهم بنيان مرصوص ..
إن القرآن - كما قلنا في مناسبات متعددة في هذا الجزء - كان يبني أمة. كان يبنيها لتقوم على أمانة دينه في الأرض، ومنهجه في الحياة، ونظامه في الناس. ولم يكن بد أن يبني نفوسها أفرادا ويبنيها جماعة، ويبنيها عملا واقعا.. كلها في آن واحد.. فالمسلم لا يبنى فردا إلا في جماعة. ولا يتصور الإسلام قائما إلا في محيط جماعة منظمة ذات ارتباط، وذات نظام، وذات هدف جماعي منوط في الوقت ذاته بكل فرد فيها. هو إقامة هذا المنهج الإلهي في الضمير وفي العمل مع إقامته في الأرض. وهو لا يقوم في الأرض إلا في مجتمع يعيش ويتحرك ويعمل وينتج في حدود ذلك المنهج الإلهي.
والإسلام على شدة ما عني بالضمير الفردي وبالتبعة الفردية - ليس دين أفراد منعزلين، كل واحد منهم يعبد الله في صومعة.. إن هذا لا يحقق الإسلام في ضمير الفرد ذاته، ولا يحققه بطبيعة الحال في حياته.
[ ص: 3553 ] ولم يجئ الإسلام لينعزل هذه العزلة. إنما جاء ليحكم حياة البشرية ويصرفها. ويهيمن على كل نشاط فردي وجماعي في كل اتجاه. والبشرية لا تعيش أفرادا إنما تعيش جماعات وأمما. والإسلام جاء ليحكمها وهي كذلك. وهو مبني على أساس أن البشر يعيشون هكذا. ومن ثم فإن آدابه وقواعده ونظمه كلها مصوغة على هذا الأساس. وحين يوجه اهتمامه إلى ضمير الفرد فهو يصوغ هذا الضمير على أساس أنه يعيش في جماعة. وهو والجماعة التي يعيشون فيها يتجهون إلى الله، ويقوم - فيها - على أمانة دينه في الأرض، ومنهجه في الحياة، ونظامه في الناس.
ومنذ اليوم الأول للدعوة قام مجتمع إسلامي - أو جماعة مسلمة - ذات قيادة مطاعة هي قيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذات التزامات جماعية بين أفرادها، وذات كيان يميزها عن سائر الجماعات حولها، وذات آداب تتعلق بضمير الإنسان مراعى فيها - في الوقت ذاته - حياة هذه الجماعة.. وذلك كله قبل أن تقوم الدولة المسلمة في
المدينة. بل إن قيام تلك الجماعة كان هو وسيلة إقامة الدولة في
المدينة. .
وننظر في هذه الآيات الثلاث فنرى امتزاج الخلق الفردي بالحاجة الجماعية، في ظل العقيدة الدينية، وطبيعتها التي تقتضي تحقيقها في الحياة البشرية في صورة نظام يقوم عليه من يحرسه ويتولاه.
إن الآيتين الأوليين تتضمنان العقاب من الله سبحانه والاستنكار لأن يقول الذين آمنوا ما لا يفعلون..
وهما بهذا ترسمان الجانب الأصيل في شخصية المسلم.. الصدق.. والاستقامة. وأن يكون باطنه كظاهره، وأن يطابق فعله قوله.. إطلاقا.. وفي حدود أبعد مدى من موضوع القتال الذي يجيء في الآية الثالثة.
وهذه السمة في شخصية المسلم يدق القرآن عليها كثيرا، وتتابعها السنة في تكرار يزيدها توكيدا: يقول الله تعالى منددا باليهود:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=44أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب. أفلا تعقلون؟ .. ويقول تعالى منددا بالمنافقين:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=81ويقولون: طاعة. فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول .. ويقول فيهم كذلك:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=204ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=205وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد .. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=650032 "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. ولعل الحديث الذي سنذكره هنا من أدق وألطف التوجيهات النبوية الكريمة في هذا الاتجاه.. روى الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد nindex.php?page=showalam&ids=11998وأبو داود عن
عبد الله بن عامر بن ربيعة قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=676262أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وأنا صبي، فذهبت لأخرج لألعب. فقالت أمي: يا عبد الله تعال أعطك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: - "وما أردت أن تعطيه!" فقالت: تمرا. فقال: "أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة".. ولعله استقاء من هذا النبع النبوي الطاهر الرائق امتنع الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - من الرواية من رجل سافر إليه مسافات شاسعة ليأخذ عنه حديثا. حينما وجده يضم حجره ويدعو بغلته يوهمها بطعام وحجره فارغ! فتحرج أن يروي عنه، وقد كذب على بغلته!
فهذا بناء أخلاقي دقيق نظيف لضمير المسلم وشخصيته التي تليق بمن يقوم أمينا على منهج الله في الأرض.
[ ص: 3554 ] وهو الأمر الذي تقرره هذه السورة. وهذه حلقة من حلقات التربية في الجماعة المسلمة التي يعدها الله لتقوم على هذا الأمر.
فإذا جئنا للموضوع المباشر الذي كانت هذه الآيات تواجهه عند نزولها.. وهو موضوع الجهاد.. فإننا نقف أمام موضوعات شتى للحديث والملاحظة والعبرة.
نقف أولا أمام النفس البشرية التي تلم بها لحظات الضعف الطارئة، فلا يعصمها منها إلا عون الله، وإلا التذكير الدائم، والتوجيه الدائم، والتربية الدائمة.. فهؤلاء جماعة من المسلمين قيل في بعض الروايات: إنهم من
المهاجرين الذين كانوا يتمنون أن يأذن الله لهم في القتال وهم في
مكة من شدة الحماس والاندفاع. وكانوا يؤمرون بكف أيديهم وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=77فلما كتب عليهم القتال في
المدينة في الوقت المناسب الذي قدره الله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=77إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب! .. أو هم جماعة من المسلمين في
المدينة كانوا يسألون عن أحب الأعمال إلى الله ليفعلوه فلما أمروا بالجهاد كرهوه!
وهذه الوقفة كفيلة بأن تفتح أعيننا على ضرورة الموالاة للنفس البشرية بالتقوية والتثبيت والتوجيه; وهي تواجه التكاليف الشاقة، لتستقيم في طريقها، وتتغلب على لحظات ضعفها، وتتطلع دائما إلى الأفق البعيد. كما تلهمنا أن نتواضع في طلب التكاليف وتمنيها ونحن في حالة العافية! فلعلنا لا نقوى على ما نقترح على الله حين يكلفنا إياه! وهؤلاء جماعة من المسلمين الأوائل يضعفون ويقولون ما لا يفعلون; حتى يعاتبهم الله هذا العتاب الشديد، وينكر عليهم هذا الإنكار المخيف!
ونقف ثانية أمام حب الله للذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص.. نقف أمام هذا الإغراء القوي العميق على القتال في سبيل الله.. وأول ما يسجل هنا أنه كان لمواجهة حالة تقاعس وتخلف وكراهية للقتال. ولكن هذا السبب الغريب في الحادث المحدود لا ينفي أن الحض عام، وأن وراءه حكمة دائمة.
إن الإسلام لا يتشهى القتال، ولا يريده حبا فيه. ولكنه يفرضه لأن الواقع يحتمه، ولأن الهدف الذي وراءه كبير. فالإسلام يواجه البشرية بالمنهج الإلهي في صورته الأخيرة المستقرة. وهذا المنهج - ولو أنه يلبي الفطرة المستقيمة - إلا أنه يكلف النفوس جهدا لتسمو إلى مستواه، ولتستقر على هذا المستوى الرفيع. وهناك قوى كثيرة في هذه الأرض لا تحب لهذا المنهج أن يستقر، لأنه يسلبها كثيرا من الامتيازات، التي تستند إلى قيم باطلة زائفة، يحاربها هذا المنهج ويقضي عليها حين يستقر في حياة البشر. وهذه القوى تستغل ضعف النفوس عن البقاء في المستوى الإيماني وتكاليفه، كما تستغل جهل العقول، وموروثات الأجيال، لتعارض هذا المنهج وتقف في طريقه. والشر عارم. والباطل متبجح. والشيطان لئيم! ومن ثم يتعين على حملة الإيمان وحراس المنهج أن يكونوا أقوياء ليغلبوا عملاء الشر وأعوان الشيطان. أقوياء في أخلاقهم، وأقوياء في قتال خصومهم على السواء. ويتعين عليهم أن يقاتلوا عند ما يصبح القتال هو الأداة الوحيدة لضمان حرية الدعوة للمنهج الجديد، وحرية الاعتقاد به، وحرية العمل وفق نظامه المرسوم.
وهم يقاتلون في سبيل الله.. لا في سبيل ذواتهم أو عصبيتهم من أي لون.. عصبية الجنس وعصبية الأرض وعصبية العشيرة وعصبية البيت.. في سبيل الله وحده، لتكون كلمة الله هي العليا. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول:
nindex.php?page=hadith&LINKID=650120 "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" [ ص: 3555 ] وكلمة الله هي التعبير عن إرادته. وإرادته الظاهرة لنا - نحن البشر - هي التي تتفق مع الناموس الذي يسير عليه الكون كله. الكون الذي يسبح بحمد ربه. ومنهج الله في صورته الأخيرة التي جاء بها الإسلام هو الذي يتناسق مع ذلك الناموس; ويجعل الكون كله - والناس من ضمنه - يحكمون بشريعة الله. لا بشريعة يضعها سواه.
ولم يكن بد أن يقاومه أفراد، وأن تقاومه طبقات، وأن تقاومه دول. ولم يكن بد كذلك أن يمضي الإسلام في وجه هذه المقاومة; ولم يكن بد أن يكتب الجهاد على المسلمين لنصرة هذا المنهج، وتحقيق كلمة الله في الأرض. ولهذا أحب الله - سبحانه - الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص. .
ونقف ثالثا أمام الحالة التي يحب الله للمجاهدين أن يقاتلوا وهم عليها:
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=4صفا كأنهم بنيان مرصوص .. فهو تكليف فردي في ذاته، ولكنه فردي في صورة جماعية. في جماعة ذات نظام. ذلك أن الذين يواجهون الإسلام يواجهونه بقوى جماعية، ويؤلبون عليه تجمعات ضخمة; فلا بد لجنود الإسلام أن يواجهوا أعداءه صفا. صفا سويا منتظما، وصفا متينا راسخا ، ذلك إلى أن طبيعة هذا الدين حين يغلب ويهيمن أن يهيمن على جماعة، وأن ينشئ مجتمعا متماسكا.. متناسقا. فصورة الفرد المنعزل الذي يعبد وحده، ويجاهد وحده، ويعيش وحده، صورة بعيدة عن طبيعة هذا الدين، وعن مقتضياته في حالة الجهاد، وفي حالة الهيمنة بعد ذلك على الحياة.
وهذه الصورة التي يحبها الله للمؤمنين ترسم لهم طبيعة دينهم، وتوضح لهم معالم الطريق، وتكشف لهم عن طبيعة التضامن الوثيق الذي يرسمه التعبير القرآني المبدع:
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=4صفا كأنهم بنيان مرصوص .. بنيان تتعاون لبناته وتتضام وتتماسك، وتؤدي كل لبنة دورها، وتسد ثغرتها، لأن البنيان كله ينهار إذا تخلت منه لبنة عن مكانها. تقدمت أو تأخرت سواء. وإذا تخلت منه لبنة عن أن تمسك بأختها تحتها أو فوقها أو على جانبيها سواء.. إنه التعبير المصور للحقيقة لا لمجرد التشبيه العام. التعبير المصور لطبيعة الجماعة، ولطبيعة ارتباطات الأفراد في الجماعة. ارتباط الشعور، وارتباط الحركة، داخل النظام المرسوم، المتجه إلى هدف مرسوم.
بعدئذ يذكر قصة هذا المنهج الإلهي ومراحلها في الرسالات قبل الإسلام.
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=5وإذ قال موسى لقومه: يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم؟ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، والله لا يهدي القوم الفاسقين. nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=6وإذ قال عيسى ابن مريم: يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ..
وإيذاء بني إسرائيل
لموسى - وهو منقذهم من
فرعون وملئه، ورسولهم وقائدهم ومعلمهم - إيذاء متطاول متعدد الألوان، وجهاده في تقويم اعوجاجهم جهاد مضن عسير شاق. ويذكر القرآن في قصص بني إسرائيل صورا شتى من ذلك الإيذاء ومن هذا العناء.
كانوا يتسخطون على
موسى وهو يحاول مع
فرعون إنقاذهم، ويتعرض لبطشه وجبروته وهم آمنون بذلتهم له! فكانوا يقولون له لائمين متبرمين:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=129أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ! كأنهم لا يرون في رسالته
[ ص: 3556 ] خيرا، أو كأنما يحملونه تبعة هذا الأذى الأخير!
وما كاد ينقذهم من ذل
فرعون باسم الله الواحد الذي أنقذهم من
فرعون وأغرقه وهم ينظرون.. حتى مالوا إلى عبادة
فرعون وقومه..
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=138فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة .. وما كاد يذهب لميقات ربه على الجبل ليتلقى الألواح، حتى أضلهم
السامري: nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=88فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا: هذا إلهكم وإله موسى فنسي! ..
ثم جعلوا يتسخطون على طعامهم في الصحراء: المن والسلوى. فقالوا:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=61يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها !
وفي حادث البقرة التي كلفوا ذبحها ظلوا يماحكون ويتعللون ويسيئون الأدب مع نبيهم وربهم وهم يقولون:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=68ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ..
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=69ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ..
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=70ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا ..
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=71فذبحوها وما كادوا يفعلون !
ثم طلبوا يوم عطلة مقدسا فلما كتب عليهم السبت اعتدوا فيه.
وأمام الأرض المقدسة التي بشرهم الله بدخولها وقفوا متخاذلين يصعرون خدهم في الوقت ذاته
لموسى: nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=22قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون .. فلما كرر عليهم التحضيض والتشجيع تبجحوا وكفروا:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=24قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ..
ذلك إلى إعنات
موسى بالأسئلة والاقتراحات والعصيان والتمرد، والاتهام الشخصي بالباطل كما جاء في بعض الأحاديث.
وتذكر الآية هنا قول
موسى لهم في عتاب ومودة:
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=5يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم؟ ..
وهم كانوا يعلمون عن يقين.. إنما هي لهجة العتاب والتذكير..
وكانت النهاية أنهم زاغوا بعد ما بذلت لهم كل أسباب الاستقامة، فزادهم الله زيغا، وأزاغ قلوبهم فلم تعد صالحة للهدى. وضلوا فكتب الله عليهم الضلال أبدا:
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=5والله لا يهدي القوم الفاسقين ..
وبهذا انتهت قوامتهم على دين الله، فلم يعودوا يصلحون لهذا الأمر، وهم على هذا الزيغ والضلال.
ثم جاء
عيسى بن مريم. جاء يقول لبني إسرائيل:
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=6يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم ..
فلم يقل لهم: إنه الله، ولا إنه ابن الله، ولا إنه أقنوم من أقانيم الله.
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=6مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ..
في هذه الصيغة التي تصور حلقات الرسالة المترابطة، يسلم بعضها إلى بعض، وهي متماسكة في حقيقتها، واحدة في اتجاهها، ممتدة من السماء إلى الأرض، حلقة بعد حلقة في السلسلة الطويلة المتصلة.. وهي الصورة اللائقة بعمل الله ومنهجه. فهو منهج واحد في أصله، متعدد في صوره، وفق استعداد البشرية وحاجاتها وطاقاتها، ووفق تجاربها ورصيدها من المعرفة حتى تبلغ مرحلة الرشد العقلي والشعوري، فتجيء الحلقة الأخيرة في الصورة الأخيرة كاملة شاملة، تخاطب العقل الراشد، في ضوء تلك التجارب، وتطلق هذا العقل يعمل في حدوده،
[ ص: 3557 ] داخل نطاق المنهج المرسوم للإنسان في جملته، المتفق مع طاقاته واستعداداته.
وبشارة
المسيح بأحمد ثابتة بهذا النص، سواء تضمنت الأناجيل المتداولة هذه البشارة أم لم تتضمنها. فثابت أن الطريقة التي كتبت بها هذه الأناجيل والظروف التي أحاطت بها لا تجعلها هي المرجع في هذا الشأن.
وقد قرئ القرآن على اليهود والنصارى في
الجزيرة العربية وفيه:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .. وأقر بعض المخلصين من علمائهم الذين أسلموا
nindex.php?page=showalam&ids=106كعبد الله بن سلام بهذه الحقيقة، التي كانوا يتواصون بتكتمها!
كما أنه ثابت من الروايات التاريخية أن اليهود كانوا ينتظرون مبعث نبي قد أظلهم زمانه، وكذلك بعض الموحدين المنعزلين من أحبار النصارى في
الجزيرة العربية. ولكن اليهود كانوا يريدونه منهم. فلما شاء الله أن يكون من الفرع الآخر من ذرية
إبراهيم، كرهوا هذا وحاربوه!
وعلى أية حال فالنص القرآني بذاته هو الفيصل في مثل هذه الأخبار. وهو القول الأخير..
ويبدو أن الآيات التالية في السورة جاءت على الأكثر بصدد استقبال بني إسرائيل - اليهود والنصارى - للنبي الذي بشرت به كتبهم. والتنديد بهذا الاستقبال، وكيدهم للدين الجديد الذي قدر الله أن يظهره على الدين كله، وأن يكون هو الدين الأخير!
إِنَّهَا تَبْدَأُ بِعِتَابٍ عَلَى حَادِثِ وَقْعٍ أَوْ حَوَادِثَ:
nindex.php?page=treesubj&link=29032_18470_30945_32215_34153nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=2يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ؟ .
وَتُثَنِّي بِاسْتِنْكَارٍ لِهَذَا الْفِعْلِ وَهَذَا الْخُلُقِ فِي صِيغَةٍ تُضَخِّمُ هَذَا الِاسْتِنْكَارَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=3كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ؟ ..
وَالْمَقْتُ الَّذِي يَكْبُرُ
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=3عِنْدَ اللَّهِ .. هُوَ أَكْبَرُ الْمَقْتِ وَأَشَدُّ الْبُغْضِ وَأَنْكَرُ النُّكْرِ.. وَهَذَا غَايَةُ التَّفْظِيعِ لِأَمْرٍ، وَبِخَاصَّةٍ فِي ضَمِيرِ الْمُؤْمِنِ، الَّذِي يُنَادَى بِإِيمَانِهِ، وَالَّذِي يُنَادِيهِ رَبُّهُ الَّذِي آمَنَ بِهِ.
وَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ تُشِيرُ إِلَى الْمَوْضُوعِ الْمُبَاشِرِ الَّذِي قَالُوا فِيهِ مَا لَمْ يَفْعَلُوا.. وَهُوَ الْجِهَادُ.. وَتُقَرِّرُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فِيهِ وَيَرْضَاهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=4إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ..
فَلَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ الْقِتَالِ. وَلَكِنَّهُ هُوَ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِهِ. وَالْقِتَالُ فِي تَضَامُنٍ مَعَ الْجَمَاعَةِ الْمُسْلِمَةِ دَاخِلَ الصَّفِّ. وَالْقِتَالُ فِي ثَبَاتٍ وَصُمُودٍ
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=4صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ..
إِنَّ الْقُرْآنَ - كَمَا قُلْنَا فِي مُنَاسَبَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي هَذَا الْجُزْءِ - كَانَ يَبْنِي أُمَّةً. كَانَ يَبْنِيهَا لِتَقُومَ عَلَى أَمَانَةِ دِينِهِ فِي الْأَرْضِ، وَمَنْهَجِهِ فِي الْحَيَاةِ، وَنِظَامِهِ فِي النَّاسِ. وَلَمْ يَكُنْ بُدَّ أَنْ يَبْنِيَ نُفُوسَهَا أَفْرَادًا وَيَبْنِيَهَا جَمَاعَةً، وَيَبْنِيَهَا عَمَلًا وَاقِعًا.. كُلُّهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ.. فَالْمُسْلِمُ لَا يُبْنَى فَرَدًا إِلَّا فِي جَمَاعَةٍ. وَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِسْلَامُ قَائِمًا إِلَّا فِي مُحِيطِ جَمَاعَةٍ مُنَظَّمَةٍ ذَاتِ ارْتِبَاطٍ، وَذَاتِ نِظَامٍ، وَذَاتِ هَدَفٍ جَمَاعِيٍّ مَنُوطٍ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ بِكُلِّ فَرْدٍ فِيهَا. هُوَ إِقَامَةُ هَذَا الْمَنْهَجِ الْإِلَهِيِّ فِي الضَّمِيرِ وَفِي الْعَمَلِ مَعَ إِقَامَتِهِ فِي الْأَرْضِ. وَهُوَ لَا يَقُومُ فِي الْأَرْضِ إِلَّا فِي مُجْتَمَعٍ يَعِيشُ وَيَتَحَرَّكُ وَيَعْمَلُ وَيُنْتِجُ فِي حُدُودِ ذَلِكَ الْمَنْهَجِ الْإِلَهِيِّ.
وَالْإِسْلَامُ عَلَى شِدَّةِ مَا عُنِي بِالضَّمِيرِ الْفَرْدِيِّ وَبِالتَّبِعَةِ الْفَرْدِيَّةِ - لَيْسَ دِينَ أَفْرَادٍ مُنْعَزِلِينَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعْبُدُ اللَّهَ فِي صَوْمَعَةٍ.. إِنَّ هَذَا لَا يُحَقِّقُ الْإِسْلَامَ فِي ضَمِيرِ الْفَرْدِ ذَاتِهِ، وَلَا يُحَقِّقُهُ بِطَبِيعَةِ الْحَالِ فِي حَيَاتِهِ.
[ ص: 3553 ] وَلَمْ يَجِئِ الْإِسْلَامُ لِيَنْعَزِلَ هَذِهِ الْعُزْلَةَ. إِنَّمَا جَاءَ لِيَحْكُمَ حَيَاةَ الْبَشَرِيَّةِ وَيَصْرِفَهَا. وَيُهَيْمِنَ عَلَى كُلِّ نَشَاطٍ فَرْدِيٍّ وَجَمَاعِيٍّ فِي كُلِّ اتِّجَاهٍ. وَالْبَشَرِيَّةُ لَا تَعِيشُ أَفْرَادًا إِنَّمَا تَعِيشُ جَمَاعَاتٍ وَأُمَمًا. وَالْإِسْلَامُ جَاءَ لِيَحْكُمَهَا وَهِيَ كَذَلِكَ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَسَاسِ أَنَّ الْبَشَرَ يَعِيشُونَ هَكَذَا. وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ آدَابَهُ وَقَوَاعِدَهُ وَنُظُمَهُ كُلَّهَا مَصُوغَةٌ عَلَى هَذَا الْأَسَاسِ. وَحِينَ يُوَجِّهُ اهْتِمَامَهُ إِلَى ضَمِيرِ الْفَرْدِ فَهُوَ يَصُوغُ هَذَا الضَّمِيرَ عَلَى أَسَاسِ أَنَّهُ يَعِيشُ فِي جَمَاعَةٍ. وَهُوَ وَالْجَمَاعَةُ الَّتِي يَعِيشُونَ فِيهَا يَتَّجِهُونَ إِلَى اللَّهِ، وَيَقُومُ - فِيهَا - عَلَى أَمَانَةِ دِينِهِ فِي الْأَرْضِ، وَمَنْهَجِهِ فِي الْحَيَاةِ، وَنِظَامِهِ فِي النَّاسِ.
وَمُنْذُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِلدَّعْوَةِ قَامَ مُجْتَمَعٌ إِسْلَامِيٌّ - أَوْ جَمَاعَةٌ مُسْلِمَةٌ - ذَاتُ قِيَادَةٍ مُطَاعَةٍ هِيَ قِيَادَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَاتُ الْتِزَامَاتٍ جَمَاعِيَّةٍ بَيْنَ أَفْرَادِهَا، وَذَاتِ كِيَانٍ يُمَيِّزُهَا عَنْ سَائِرِ الْجَمَاعَاتِ حَوْلَهَا، وَذَاتِ آدَابٍ تَتَعَلَّقُ بِضَمِيرِ الْإِنْسَانِ مُرَاعًى فِيهَا - فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ - حَيَاةُ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ.. وَذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ الدَّوْلَةُ الْمُسْلِمَةُ فِي
الْمَدِينَةِ. بَلْ إِنَّ قِيَامَ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ كَانَ هُوَ وَسِيلَةَ إِقَامَةِ الدَّوْلَةِ فِي
الْمَدِينَةِ. .
وَنَنْظُرُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فَنَرَى امْتِزَاجَ الْخُلُقِ الْفَرْدِيِّ بِالْحَاجَةِ الْجَمَاعِيَّةِ، فِي ظِلِّ الْعَقِيدَةِ الدِّينِيَّةِ، وَطَبِيعَتِهَا الَّتِي تَقْتَضِي تَحْقِيقَهَا فِي الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ فِي صُورَةِ نِظَامٍ يَقُومُ عَلَيْهِ مَنْ يَحْرُسُهُ وَيَتَوَلَّاهُ.
إِنَّ الْآيَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ تَتَضَمَّنَانِ الْعِقَابَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالِاسْتِنْكَارَ لِأَنْ يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَا يَفْعَلُونَ..
وَهُمَا بِهَذَا تَرْسُمَانِ الْجَانِبَ الْأَصِيلَ فِي شَخْصِيَّةِ الْمُسْلِمِ.. الصِّدْقُ.. وَالِاسْتِقَامَةُ. وَأَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ كَظَاهِرِهِ، وَأَنْ يُطَابِقَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ.. إِطْلَاقًا.. وَفِي حُدُودِ أَبْعَدِ مَدًى مِنْ مَوْضُوعِ الْقِتَالِ الَّذِي يَجِيءُ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ.
وَهَذِهِ السِّمَةُ فِي شَخْصِيَّةِ الْمُسْلِمِ يَدُقُّ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا كَثِيرًا، وَتُتَابِعُهَا السُّنَّةُ فِي تَكْرَارٍ يَزِيدُهَا تَوْكِيدًا: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مُنَدِّدًا بِالْيَهُودِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=44أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ .. وَيَقُولُ تَعَالَى مُنَدِّدًا بِالْمُنَافِقِينَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=81وَيَقُولُونَ: طَاعَةٌ. فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ .. وَيَقُولُ فِيهِمْ كَذَلِكَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=204وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=205وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ .. وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=650032 "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ". وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ هُنَا مِنْ أَدَقِّ وَأَلْطَفِ التَّوْجِيهَاتِ النَّبَوِيَّةِ الْكَرِيمَةِ فِي هَذَا الِاتِّجَاهِ.. رَوَى الْإِمَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدُ nindex.php?page=showalam&ids=11998وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=676262أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وَأَنَا صَبِيٌّ، فَذَهَبْتُ لِأَخْرُجَ لِأَلْعَبَ. فَقَالَتْ أُمِّي: يَا عَبْدَ اللَّهِ تَعَالَ أُعْطِكَ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: - "وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيَهُ!" فَقَالَتْ: تَمْرًا. فَقَالَ: "أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تَفْعَلِي كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةً".. وَلَعَلَّهُ اسْتِقَاءٌ مِنْ هَذَا النَّبْعِ النَّبَوِيِّ الطَّاهِرِ الرَّائِقِ امْتَنَعَ الْإِمَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنَ الرِّوَايَةِ مِنْ رَجُلٍ سَافَرَ إِلَيْهِ مَسَافَاتٍ شَاسِعَةً لِيَأْخُذَ عَنْهُ حَدِيثًا. حِينَمَا وَجَدَهُ يَضُمُّ حِجْرَهُ وَيَدْعُو بَغْلَتَهُ يُوهِمُهَا بِطَعَامٍ وَحِجْرُهُ فَارِغٌ! فَتَحَرَّجَ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ، وَقَدْ كَذَبَ عَلَى بَغْلَتِهِ!
فَهَذَا بِنَاءٌ أَخْلَاقِيٌّ دَقِيقٌ نَظِيفٌ لِضَمِيرِ الْمُسْلِمِ وَشَخْصِيَّتِهِ الَّتِي تَلِيقُ بِمَنْ يَقُومُ أَمِينًا عَلَى مَنْهَجِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ.
[ ص: 3554 ] وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي تُقَرِّرُهُ هَذِهِ السُّورَةُ. وَهَذِهِ حَلْقَةٌ مِنْ حَلَقَاتِ التَّرْبِيَةِ فِي الْجَمَاعَةِ الْمُسْلِمَةِ الَّتِي يُعِدُّهَا اللَّهُ لِتَقُومَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ.
فَإِذَا جِئْنَا لِلْمَوْضُوعِ الْمُبَاشِرِ الَّذِي كَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ تُوَاجِهُهُ عِنْدَ نُزُولِهَا.. وَهُوَ مَوْضُوعُ الْجِهَادِ.. فَإِنَّنَا نَقِفُ أَمَامَ مَوْضُوعَاتٍ شَتَّى لِلْحَدِيثِ وَالْمُلَاحَظَةِ وَالْعِبْرَةِ.
نَقِفُ أَوَّلًا أَمَامَ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي تُلِمُّ بِهَا لَحَظَاتُ الضَّعْفِ الطَّارِئَةُ، فَلَا يَعْصِمُهَا مِنْهَا إِلَّا عَوْنُ اللَّهِ، وَإِلَّا التَّذْكِيرُ الدَّائِمُ، وَالتَّوْجِيهُ الدَّائِمُ، وَالتَّرْبِيَةُ الدَّائِمَةُ.. فَهَؤُلَاءِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قِيلَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: إِنَّهُمْ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ وَهُمْ فِي
مَكَّةَ مِنْ شِدَّةِ الْحَمَاسِ وَالِانْدِفَاعِ. وَكَانُوا يُؤْمَرُونَ بِكَفِّ أَيْدِيهِمْ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=77فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ فِي
الْمَدِينَةِ فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=77إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَقَالُوا: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ؟ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ! .. أَوْ هُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي
الْمَدِينَةِ كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ لِيَفْعَلُوهُ فَلَمَّا أُمِرُوا بِالْجِهَادِ كَرِهُوهُ!
وَهَذِهِ الْوَقْفَةُ كَفِيلَةٌ بِأَنْ تَفْتَحَ أَعْيُنَنَا عَلَى ضَرُورَةِ الْمُوَالَاةِ لِلنَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ بِالتَّقْوِيَةِ وَالتَّثْبِيتِ وَالتَّوْجِيهِ; وَهِيَ تُوَاجِهُ التَّكَالِيفَ الشَّاقَّةَ، لِتَسْتَقِيمَ فِي طَرِيقِهَا، وَتَتَغَلَّبَ عَلَى لَحَظَاتِ ضَعْفِهَا، وَتَتَطَلَّعَ دَائِمًا إِلَى الْأُفُقِ الْبَعِيدِ. كَمَا تُلْهِمُنَا أَنْ نَتَوَاضَعَ فِي طَلَبِ التَّكَالِيفِ وَتَمَنِّيهَا وَنَحْنُ فِي حَالَةِ الْعَافِيَةِ! فَلَعَلَّنَا لَا نَقْوَى عَلَى مَا نَقْتَرِحُ عَلَى اللَّهِ حِينَ يُكَلِّفُنَا إِيَّاهُ! وَهَؤُلَاءِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَائِلِ يَضْعُفُونَ وَيَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ; حَتَّى يُعَاتِبَهُمُ اللَّهُ هَذَا الْعِتَابَ الشَّدِيدَ، وَيُنْكِرَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْإِنْكَارَ الْمُخِيفَ!
وَنَقِفُ ثَانِيَةً أَمَامَ حُبِّ اللَّهِ لِلَّذِينِ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ.. نَقِفُ أَمَامَ هَذَا الْإِغْرَاءِ الْقَوِيِّ الْعَمِيقِ عَلَى الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. وَأَوَّلُ مَا يُسَجَّلُ هُنَا أَنَّهُ كَانَ لِمُوَاجَهَةِ حَالَةِ تَقَاعُسٍ وَتَخَلُّفٍ وَكَرَاهِيَةٍ لِلْقِتَالِ. وَلَكِنَّ هَذَا السَّبَبَ الْغَرِيبَ فِي الْحَادِثِ الْمَحْدُودِ لَا يَنْفِي أَنَّ الْحَضَّ عَامٌّ، وَأَنَّ وَرَاءَهُ حِكْمَةً دَائِمَةً.
إِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَتَشَهَّى الْقِتَالَ، وَلَا يُرِيدُهُ حُبًّا فِيهِ. وَلَكِنَّهُ يَفْرِضُهُ لِأَنَّ الْوَاقِعَ يُحَتِّمُهُ، وَلِأَنَّ الْهَدَفَ الَّذِي وَرَاءَهُ كَبِيرٌ. فَالْإِسْلَامُ يُوَاجِهُ الْبَشَرِيَّةَ بِالْمَنْهَجِ الْإِلَهِيِّ فِي صُورَتِهِ الْأَخِيرَةِ الْمُسْتَقِرَّةِ. وَهَذَا الْمَنْهَجُ - وَلَوْ أَنَّهُ يُلَبِّي الْفِطْرَةَ الْمُسْتَقِيمَةَ - إِلَّا أَنَّهُ يُكَلِّفُ النُّفُوسَ جُهْدًا لِتَسْمُوَ إِلَى مُسْتَوَاهُ، وَلِتَسْتَقِرَّ عَلَى هَذَا الْمُسْتَوَى الرَّفِيعِ. وَهُنَاكَ قُوًى كَثِيرَةٌ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ لَا تُحِبُّ لِهَذَا الْمَنْهَجِ أَنْ يَسْتَقِرَّ، لِأَنَّهُ يَسْلُبُهَا كَثِيرًا مِنَ الِامْتِيَازَاتِ، الَّتِي تَسْتَنِدُ إِلَى قِيَمٍ بَاطِلَةِ زَائِفَةٍ، يُحَارِبُهَا هَذَا الْمَنْهَجُ وَيَقْضِي عَلَيْهَا حِينَ يَسْتَقِرُّ فِي حَيَاةِ الْبَشَرِ. وَهَذِهِ الْقُوَى تَسْتَغِلُّ ضَعْفَ النُّفُوسِ عَنِ الْبَقَاءِ فِي الْمُسْتَوَى الْإِيمَانِيِّ وَتَكَالِيفِهِ، كَمَا تَسْتَغِلُّ جَهْلَ الْعُقُولِ، وَمَوْرُوثَاتِ الْأَجْيَالِ، لِتُعَارِضَ هَذَا الْمَنْهَجَ وَتَقِفَ فِي طَرِيقِهِ. وَالشَّرُّ عَارِمٌ. وَالْبَاطِلُ مُتَبَجِّحٌ. وَالشَّيْطَانُ لَئِيمٌ! وَمِنْ ثَمَّ يَتَعَيَّنُ عَلَى حَمَلَةِ الْإِيمَانِ وَحُرَّاسِ الْمَنْهَجِ أَنْ يَكُونُوا أَقْوِيَاءَ لِيَغْلِبُوا عُمَلَاءَ الشَّرِّ وَأَعْوَانَ الشَّيْطَانِ. أَقْوِيَاءَ فِي أَخْلَاقِهِمْ، وَأَقْوِيَاءَ فِي قِتَالِ خُصُومِهِمْ عَلَى السَّوَاءِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَاتِلُوا عِنْدَ مَا يُصْبِحُ الْقِتَالُ هُوَ الْأَدَاةَ الْوَحِيدَةَ لِضَمَانِ حُرِّيَّةِ الدَّعْوَةِ لِلْمَنْهَجِ الْجَدِيدِ، وَحُرِّيَّةِ الِاعْتِقَادِ بِهِ، وَحُرِّيَّةِ الْعَمَلِ وَفْقَ نِظَامِهِ الْمَرْسُومِ.
وَهُمْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. لَا فِي سَبِيلِ ذَوَاتِهِمْ أَوْ عَصَبِيَّتِهِمْ مِنْ أَيِّ لَوْنٍ.. عَصَبِيَّةِ الْجِنْسِ وَعَصَبِيَّةِ الْأَرْضِ وَعَصَبِيَّةِ الْعَشِيرَةِ وَعَصَبِيَّةِ الْبَيْتِ.. فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَحْدَهُ، لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا. وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=650120 "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" [ ص: 3555 ] وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ التَّعْبِيرُ عَنْ إِرَادَتِهِ. وَإِرَادَتُهُ الظَّاهِرَةُ لَنَا - نَحْنُ الْبَشَرَ - هِيَ الَّتِي تَتَّفِقُ مَعَ النَّامُوسِ الَّذِي يَسِيرُ عَلَيْهِ الْكَوْنُ كُلُّهُ. الْكَوْنُ الَّذِي يُسَبِّحُ بِحَمْدِ رَبِّهِ. وَمَنْهَجُ اللَّهِ فِي صُورَتِهِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ هُوَ الَّذِي يَتَنَاسَقُ مَعَ ذَلِكَ النَّامُوسِ; وَيَجْعَلُ الْكَوْنَ كُلَّهُ - وَالنَّاسُ مِنْ ضِمْنِهِ - يَحْكُمُونَ بِشَرِيعَةِ اللَّهِ. لَا بِشَرِيعَةٍ يَضَعُهَا سِوَاهُ.
وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ أَنْ يُقَاوِمَهُ أَفْرَادٌ، وَأَنْ تُقَاوِمَهُ طَبَقَاتٌ، وَأَنْ تُقَاوِمَهُ دُوَلٌ. وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ كَذَلِكَ أَنْ يَمْضِيَ الْإِسْلَامُ فِي وَجْهِ هَذِهِ الْمُقَاوَمَةِ; وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ أَنْ يُكْتَبَ الْجِهَادُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِنُصْرَةِ هَذَا الْمَنْهَجِ، وَتَحْقِيقِ كَلِمَةِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ. وَلِهَذَا أَحَبَّ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ. .
وَنَقِفُ ثَالِثًا أَمَامَ الْحَالَةِ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا وَهُمْ عَلَيْهَا:
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=4صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ .. فَهُوَ تَكْلِيفٌ فَرْدِيٌّ فِي ذَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ فَرْدِيٌّ فِي صُورَةٍ جَمَاعِيَّةٍ. فِي جَمَاعَةٍ ذَاتِ نِظَامٍ. ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ يُوَاجِهُونَ الْإِسْلَامَ يُوَاجِهُونَهُ بِقُوًى جَمَاعِيَّةٍ، وَيُؤَلِّبُونَ عَلَيْهِ تَجَمُّعَاتٍ ضَخْمَةً; فَلَا بُدَّ لِجُنُودِ الْإِسْلَامِ أَنْ يُوَاجِهُوا أَعْدَاءَهُ صَفًّا. صَفًّا سَوِيًّا مُنْتَظِمًا، وَصَفًّا مَتِينًا رَاسِخًا ، ذَلِكَ إِلَى أَنَّ طَبِيعَةَ هَذَا الدِّينِ حِينَ يَغْلِبُ وَيُهَيْمِنُ أَنْ يُهَيْمِنَ عَلَى جَمَاعَةٍ، وَأَنْ يُنْشِئَ مُجْتَمَعًا مُتَمَاسِكًا.. مُتَنَاسِقًا. فَصُورَةُ الْفَرْدِ الْمُنْعَزِلِ الَّذِي يَعْبُدُ وَحْدَهُ، وَيُجَاهِدُ وَحْدَهُ، وَيَعِيشُ وَحْدَهُ، صُورَةٌ بَعِيدَةٌ عَنْ طَبِيعَةِ هَذَا الدِّينِ، وَعَنْ مُقْتَضَيَاتِهِ فِي حَالَةِ الْجِهَادِ، وَفِي حَالَةِ الْهَيْمَنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْحَيَاةِ.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ تَرْسُمُ لَهُمْ طَبِيعَةَ دِينِهِمْ، وَتُوَضِّحُ لَهُمْ مَعَالِمَ الطَّرِيقِ، وَتَكْشِفُ لَهُمْ عَنْ طَبِيعَةِ التَّضَامُنِ الْوَثِيقِ الَّذِي يَرْسُمُهُ التَّعْبِيرُ الْقُرْآنِيُّ الْمُبْدِعُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=4صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ .. بُنْيَانٌ تَتَعَاوَنُ لَبِنَاتُهُ وَتَتَضَامُّ وَتَتَمَاسَكُ، وَتُؤَدِّي كُلُّ لَبِنَةٍ دَوْرَهَا، وَتَسُدُّ ثُغْرَتَهَا، لِأَنَّ الْبُنْيَانَ كُلَّهُ يَنْهَارُ إِذَا تَخَلَّتْ مِنْهُ لَبِنَةٌ عَنْ مَكَانِهَا. تَقَدَّمَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ سَوَاءً. وَإِذَا تَخَلَّتْ مِنْهُ لَبِنَةٌ عَنْ أَنْ تُمْسِكَ بِأُخْتِهَا تَحْتَهَا أَوْ فَوْقَهَا أَوْ عَلَى جَانِبَيْهَا سَوَاءً.. إِنَّهُ التَّعْبِيرُ الْمُصَوِّرُ لِلْحَقِيقَةِ لَا لِمُجَرَّدِ التَّشْبِيهِ الْعَامِّ. التَّعْبِيرُ الْمُصَوِّرُ لِطَبِيعَةِ الْجَمَاعَةِ، وَلِطَبِيعَةِ ارْتِبَاطَاتِ الْأَفْرَادِ فِي الْجَمَاعَةِ. ارْتِبَاطِ الشُّعُورِ، وَارْتِبَاطِ الْحَرَكَةِ، دَاخِلَ النِّظَامِ الْمَرْسُومِ، الْمُتَّجِهِ إِلَى هَدَفٍ مَرْسُومٍ.
بَعْدَئِذٍ يَذْكُرُ قِصَّةَ هَذَا الْمَنْهَجِ الْإِلَهِيِّ وَمَرَاحِلَهَا فِي الرِّسَالَاتِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=5وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ: يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ؟ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهِ قُلُوبَهُمْ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=6وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنَ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ..
وَإِيذَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
لِمُوسَى - وَهُوَ مُنْقِذُهُمْ مِنْ
فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَرَسُولُهُمْ وَقَائِدُهُمْ وَمُعَلِّمُهُمْ - إِيذَاءٌ مُتَطَاوِلٌ مُتَعَدِّدُ الْأَلْوَانِ، وَجِهَادُهُ فِي تَقْوِيمِ اعْوِجَاجِهِمْ جِهَادٌ مُضْنٍ عَسِيرٌ شَاقٌّ. وَيَذْكُرُ الْقُرْآنُ فِي قَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ صُوَرًا شَتَّى مِنْ ذَلِكَ الْإِيذَاءِ وَمِنْ هَذَا الْعَنَاءِ.
كَانُوا يَتَسَخَّطُونَ عَلَى
مُوسَى وَهُوَ يُحَاوِلُ مَعَ
فِرْعَوْنَ إِنْقَاذَهُمْ، وَيَتَعَرَّضُ لِبَطْشِهِ وَجَبَرُوتِهِ وَهُمْ آمِنُونَ بِذِلَّتِهِمْ لَهُ! فَكَانُوا يَقُولُونَ لَهُ لَائِمِينَ مُتَبَرِّمِينَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=129أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ! كَأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ فِي رِسَالَتِهِ
[ ص: 3556 ] خَيْرًا، أَوْ كَأَنَّمَا يُحَمِّلُونَهُ تَبِعَةَ هَذَا الْأَذَى الْأَخِيرِ!
وَمَا كَادَ يُنْقِذُهُمْ مِنْ ذُلِّ
فِرْعَوْنَ بِاسْمِ اللَّهِ الْوَاحِدِ الَّذِي أَنْقَذَهُمْ مِنْ
فِرْعَوْنَ وَأَغْرَقَهُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ.. حَتَّى مَالُوا إِلَى عِبَادَةِ
فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ..
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=138فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا: يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ .. وَمَا كَادَ يَذْهَبُ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ عَلَى الْجَبَلِ لِيَتَلَقَّى الْأَلْوَاحَ، حَتَّى أَضَلَّهُمُ
السَّامِرِيُّ: nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=88فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ! ..
ثُمَّ جَعَلُوا يَتَسَخَّطُونَ عَلَى طَعَامِهِمْ فِي الصَّحْرَاءِ: الْمَنِّ وَالسَّلْوَى. فَقَالُوا:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=61يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا !
وَفِي حَادِثِ الْبَقَرَةِ الَّتِي كُلِّفُوا ذَبْحَهَا ظَلُّوا يُمَاحِكُونَ وَيَتَعَلَّلُونَ وَيُسِيئُونَ الْأَدَبَ مَعَ نَبِيِّهِمْ وَرَبِّهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=68ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=69ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا ..
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=70ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ..
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=71فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ !
ثُمَّ طَلَبُوا يَوْمَ عُطْلَةٍ مُقَدَّسًا فَلَمَّا كَتَبَ عَلَيْهِمُ السَّبْتَ اعْتَدَوْا فِيهِ.
وَأَمَامَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي بَشَّرَهُمُ اللَّهُ بِدُخُولِهَا وَقَفُوا مُتَخَاذِلِينَ يَصُعِّرُونَ خَدَّهُمْ فِي الْوَقْتِ ذَاتَهِ
لِمُوسَى: nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=22قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ، وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ .. فَلَمَّا كَرَّرَ عَلَيْهِمُ التَّحْضِيضَ وَالتَّشْجِيعَ تَبَجَّحُوا وَكَفَرُوا:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=24قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ ..
ذَلِكَ إِلَى إِعْنَاتِ
مُوسَى بِالْأَسْئِلَةِ وَالِاقْتِرَاحَاتِ وَالْعِصْيَانِ وَالتَّمَرُّدِ، وَالِاتِّهَامِ الشَّخْصِيِّ بِالْبَاطِلِ كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ.
وَتَذْكُرُ الْآيَةُ هُنَا قَوْلَ
مُوسَى لَهُمْ فِي عِتَابٍ وَمَوَدَّةٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=5يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ؟ ..
وَهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ عَنْ يَقِينٍ.. إِنَّمَا هِيَ لَهْجَةُ الْعِتَابِ وَالتَّذْكِيرِ..
وَكَانَتِ النِّهَايَةُ أَنَّهُمْ زَاغُوا بَعْدَ مَا بُذِلَتْ لَهُمْ كُلُّ أَسْبَابِ الِاسْتِقَامَةِ، فَزَادَهُمُ اللَّهُ زَيْغًا، وَأَزَاغَ قُلُوبَهُمْ فَلَمْ تَعُدْ صَالِحَةً لِلْهُدَى. وَضَلُّوا فَكَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَ أَبَدًا:
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=5وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ..
وَبِهَذَا انْتَهَتْ قِوَامَتُهُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ، فَلَمْ يَعُودُوا يَصْلُحُونَ لِهَذَا الْأَمْرِ، وَهُمْ عَلَى هَذَا الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ.
ثُمَّ جَاءَ
عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ. جَاءَ يَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=6يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ..
فَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ: إِنَّهُ اللَّهُ، وَلَا إِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، وَلَا إِنَّهُ أُقْنُومٌ مِنْ أَقَانِيمِ اللَّهِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=6مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنَ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ..
فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ الَّتِي تُصَوِّرُ حَلَقَاتِ الرِّسَالَةِ الْمُتَرَابِطَةِ، يُسَلَّمُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَهِيَ مُتَمَاسِكَةٌ فِي حَقِيقَتِهَا، وَاحِدَةٌ فِي اتِّجَاهِهَا، مُمْتَدَّةٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، حَلْقَةٌ بَعْدَ حَلْقَةٍ فِي السِّلْسِلَةِ الطَّوِيلَةِ الْمُتَّصِلَةِ.. وَهِيَ الصُّورَةُ اللَّائِقَةُ بِعَمَلِ اللَّهِ وَمَنْهَجِهِ. فَهُوَ مَنْهَجٌ وَاحِدٌ فِي أَصْلِهِ، مُتَعَدِّدٌ فِي صُوَرِهِ، وَفْقَ اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِيَّةِ وَحَاجَاتِهَا وَطَاقَاتِهَا، وَوَفْقَ تَجَارِبِهَا وَرَصِيدِهَا مِنَ الْمَعْرِفَةِ حَتَّى تَبْلُغَ مَرْحَلَةَ الرُّشْدِ الْعَقْلِيِّ وَالشُّعُورِيِّ، فَتَجِيءُ الْحَلْقَةُ الْأَخِيرَةُ فِي الصُّورَةِ الْأَخِيرَةِ كَامِلَةً شَامِلَةً، تُخَاطِبُ الْعَقْلَ الرَّاشِدَ، فِي ضَوْءِ تِلْكَ التَّجَارِبِ، وَتُطْلِقُ هَذَا الْعَقْلَ يَعْمَلُ فِي حُدُودِهِ،
[ ص: 3557 ] دَاخِلَ نِطَاقِ الْمَنْهَجِ الْمَرْسُومِ لِلْإِنْسَانِ فِي جُمْلَتِهِ، الْمُتَّفِقِ مَعَ طَاقَاتِهِ وَاسْتِعْدَادَاتِهِ.
وَبِشَارَةِ
الْمَسِيحِ بِأَحْمَدَ ثَابِتَةٌ بِهَذَا النَّصِّ، سَوَاءٌ تَضَمَّنَتِ الْأَنَاجِيلُ الْمُتَدَاوَلَةُ هَذِهِ الْبِشَارَةَ أَمْ لَمْ تَتَضَمَّنْهَا. فَثَابِتٌ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الَّتِي كُتِبَتْ بِهَا هَذِهِ الْأَنَاجِيلُ وَالظُّرُوفُ الَّتِي أَحَاطَتْ بِهَا لَا تَجْعَلُهَا هِيَ الْمَرْجِعَ فِي هَذَا الشَّأْنِ.
وَقَدْ قُرِئَ الْقُرْآنُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي
الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَفِيهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ .. وَأَقَرَّ بَعْضَ الْمُخْلِصِينَ مِنْ عُلَمَائِهِمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا
nindex.php?page=showalam&ids=106كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ، الَّتِي كَانُوا يَتَوَاصَوْنَ بِتَكَتُّمِهَا!
كَمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ مِنَ الرِّوَايَاتِ التَّارِيخِيَّةِ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ مَبْعَثَ نَبِيٍّ قَدْ أَظَلَّهُمْ زَمَانُهُ، وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْمُوَحِّدِينَ الْمُنْعَزِلِينَ مِنْ أَحْبَارِ النَّصَارَى فِي
الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَلَكِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُرِيدُونَهُ مِنْهُمْ. فَلَمَّا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْفَرْعِ الْآخَرِ مِنْ ذُرِّيَّةِ
إِبْرَاهِيمَ، كَرِهُوا هَذَا وَحَارَبُوهُ!
وَعَلَى أَيَّةِ حَالٍ فَالنَّصُّ الْقُرْآنِيُّ بِذَاتِهِ هُوَ الْفَيْصَلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ. وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَخِيرُ..
وَيَبْدُو أَنَّ الْآيَاتِ التَّالِيَةَ فِي السُّورَةِ جَاءَتْ عَلَى الْأَكْثَرِ بِصَدَدِ اسْتِقْبَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ - الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - لِلنَّبِيِّ الَّذِي بَشَّرَتْ بِهِ كُتُبُهُمْ. وَالتَّنْدِيدُ بِهَذَا الِاسْتِقْبَالِ، وَكَيْدُهُمْ لِلدِّينِ الْجَدِيدِ الَّذِي قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَأَنْ يَكُونَ هُوَ الدِّينَ الْأَخِيرَ!