[ ص: 3571 ] (63)
nindex.php?page=treesubj&link=28889سورة المنافقون مدنية
وآياتها إحدى عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
nindex.php?page=treesubj&link=18697_32879_1970_23467_30723_32315_32360_30565_30881_30514_32944_30196_19228_19229_19240_28842_30563_30569_29034nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=1إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون (1)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=2اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون (2)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=3ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (3)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=4وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون (4)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=5وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون (5)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=6سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين (6)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=7هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون (7)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=8يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون (8)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=9يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون (9)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=10وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين (10)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=11ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون (11)
[ ص: 3572 ] هذه السورة التي تحمل هذا الاسم الخاص "المنافقون" الدال على موضوعها.. ليست هي السورة الوحيدة التي فيها ذكر النفاق والمنافقين، ووصف أحوالهم ومكائدهم. فلا تكاد تخلو سورة مدنية من ذكر المنافقين تلميحا أو تصريحا. ولكن هذه السورة تكاد تكون مقصورة على الحديث عن المنافقين، والإشارة إلى بعض الحوادث والأقوال التي وقعت منهم ورويت عنهم.
وهي تتضمن حملة عنيفة على أخلاق المنافقين وأكاذيبهم ودسائسهم ومناوراتهم، وما في نفوسهم من البغض والكيد للمسلمين، ومن اللؤم والجبن وانطماس البصائر والقلوب.
وليس في السورة عدا هذا إلا لفتة في نهايتها إلى الذين آمنوا لتحذيرهم من كل ما يلصق بهم صفة من صفات المنافقين، ولو من بعيد. وأدنى درجات النفاق عدم التجرد لله، والغفلة عن ذكره اشتغالا بالأموال والأولاد، والتقاعس عن البذل في سبيل الله حتى يأتي اليوم الذي لا ينفع فيه البذل والصدقات.
وحركة النفاق التي بدأت بدخول الإسلام المدينة، واستمرت إلى قرب وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تنقطع في أي وقت تقريبا، وإن تغيرت مظاهرها ووسائلها بين الحين والحين.. هذه الحركة ذات أثر واضح في سيرة هذه الفترة التاريخية وفي أحداثها; وقد شغلت من جهد المسلمين ووقتهم وطاقتهم قدرا كبيرا; وورد ذكرها في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف مرات كثيرة تدل على ضخامة هذه الحركة، وأثرها البالغ في حياة الدعوة في ذلك الحين.
وقد ورد عن هذه الحركة فصل جيد في كتاب: "سيرة الرسول: صور مقتبسة من القرآن الكريم" لمؤلفه الأستاذ
"محمد عزة دروزة" نقتطف منه فقرات كاشفة:
"وعلة ظهور تلك الحركة في
المدينة واضحة، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون الأولون في
مكة لم يكونوا من القوة والنفوذ في حالة تستدعي وجود فئة من الناس ترهبهم أو ترجو خيرهم، فتتملقهم وتتزلف إليهم في الظاهر، وتتآمر عليهم وتكيد لهم وتمكر بهم في الخفاء، كما كان شأن المنافقين بوجه عام. ولقد كان أهل
مكة وزعماؤها خاصة يناوئون النبي جهارا، ويتناولون من استطاعوا من المسلمين بالأذى الشديد، ويقاومون الدعوة بكل وسيلة دون ما تحرز أو تحفظ; وكانت القوة لهم حتى اضطر المسلمون إلى الهجرة فرارا بدينهم ودمهم إلى
الحبشة أولا، ثم إلى
يثرب; وحتى فتن بعضهم عن دينه بالعنف والإكراه، أو بالإغراء والتهويش; وحتى تزلزل بعضهم وتبرم ونافق المشركين، وحتى مات بعض من ناله الأذى ممن ثبت على دينه نتيجة للتعذيب ..."
"أما في
المدينة فقد كان الأمر مختلفا جدا. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - استطاع قبل أن يهاجر إليها أن يكسب أنصارا أقوياء من
الأوس والخزرج; ولم يهاجر إلا بعد أن استوثق من موقفه، ولم يبق تقريبا بيت عربي فيها لم يدخله الإسلام. ففي هذه الحالة لم يكن من الهين أن يقف الذين لم يؤمنوا به - إما عن جهالة وغباء، وإما عن غيظ وحقد وعناد، لأنهم رأوا في قدوم النبي حدا لنفوذهم وسلطانهم - موقف الجحود والعداء العلني للنبي والمسلمين من
المهاجرين والأنصار; وكان للعصبية في الوقت نفسه أثر غير قليل في عدم الوقوف هذا الموقف، لأن سواد
الأوس والخزرج أصبحوا أنصار النبي، ومرتبطين به بمواثيق الدفاع والنصر، إلى أن جلهم قد حسن إسلامهم، وغدوا يرون في النبي رسول الله، وقائدهم الأعلى الواجب الطاعة، ومرشدهم الأعظم الواجب الاتباع، فلم يكن يسع الذين ظلت تغلبهم نزعة الشرك، ويتحكم فيهم مرض القلب والمكابرة والحقد، ويحملهم ذلك على مناوأة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته ونفوذه - أن يظهروا علنا في نزعتهم
[ ص: 3573 ] وعدائهم، ولم يكن أمامهم إلا التظاهر بالإسلام، والقيام بأركانه، والتضامن مع قبائلهم. وجعل مكرهم وكيدهم ودسهم ومؤامراتهم بأسلوب المراوغة والخداع والتمويه، وإذا كانوا وقفوا أحيانا مواقف علنية فيها كيد ودس، وعليها طابع من النفاق بارز، فإنما كان هذا منهم في بعض الظروف والأزمات الحادة التي كانت تحدق بالنبي والمسلمين، والتي كانوا يتخذونها حجة لتلك المواقف بداعي المصلحة والمنطق والاحتياط; ولم يكونوا على كل حال يعترفون بالكفر أو النفاق، غير أن نفاقهم وكفرهم ومواقفهم في الكيد والدس والتآمر لم تكن لتخفى على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمخلصين من أصحابه من
المهاجرين والأنصار، كما أن المواقف العلنية التي كانوا يقفونها في فرص الأزمات كانت مما تزيد كفرهم ونفاقهم فضيحة ومقتا. وقد كانت الآيات القرآنية توجه إليهم كذلك الفضائح المرة بعد المرة، وتدل عليهم بما يفعلون أو يمكرون، وتدمغهم بشرورهم وخبثهم ومكايدهم، وتحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين منهم في كل ظرف ومناسبة.
"ولقد كانت مواقف المنافقين ومكايدهم بعيدة المدى والأثر على ما تلهم الآيات المدنية، حتى لكأنه نضال قوي، يذكر بما كان من نضال بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وزعماء
مكة، وإن اختلفت الأدوار والنتائج إذ إن النبي لم يلبث أن أخذ مركزه يتوطد وقوته تزداد، ودائرة الإسلام تتسع، وصار صاحب سلطان وأمر نافذ وجانب عزيز; وإذ لم يكن المنافقون كتلة متضامنة ذات شخصية خاصة بارزة، وكان ضعفهم وضآلة عددهم وشأنهم يسيران سيرا متناسبا عكسيا مع ما كان من تزايد قوة النبي - صلى الله عليه وسلم - واتساع دائرة الإسلام، وتوطد عزته وسلطانه.
"ويكفيك لأجل أن تشعر بخطورة الدور الذي قام به المنافقون، وخاصة في أوائل العهد، أن تلاحظ أن المنافقين كانوا أقوياء نسبيا بعصبياتهم التي كانت ما تزال قوية الأثر في نفوس سواد قبائلهم، كما أنهم لم يكونوا مفضوحين فضيحة تامة، ولم يكن الإسلام قد رسخ في هذا السواد رسوخا كافيا; وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان محوطا بالمشركين الجاحدين من كل جانب، وأهل
مكة خصومه الألداء،وهم قبلة
الجزيرة يتربصون به الدوائر، ويتحينون كل فرصة ووسيلة للقضاء عليه; واليهود في
المدينة وحولها قد تنكروا له منذ عهد مبكر وتطيروا به، ثم جاهروه بالكفر والعداء والمكر; ولم يلبث أن انعقد بينهم وبين المنافقين حلف طبيعي على توحيد المسعى، والتضامن في موقف المعارضة والكيد، حتى ليمكن القول: إن المنافقين لم يقووا ويثبتوا ويكن منهم ذلك الأذى الشديد والاستمرار في الكيد والدس إلا بسبب ما لقوه من اليهود من تعضيد، وما انعقد بينهم من تضامن وتواثق، ولم يضعف شأنهم ويخف خطرهم إلا بعد أن مكن الله للنبي من هؤلاء وأظهره عليهم، وكفاه شرهم".
وهذه السورة تبدأ بوصف طريقتهم في مداراة ما في قلوبهم من الكفر، وإعلانهم الإسلام والشهادة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو رسول الله. وحلفهم كذبا ليصدقهم المسلمون، واتخاذهم هذه الأيمان وقاية وجنة يخفون وراءها حقيقة أمرهم، ويخدعون المسلمين فيهم:
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=1 "إذا جاءك المنافقون قالوا: نشهد إنك لرسول الله - والله يعلم إنك لرسوله - والله يشهد إن المنافقين لكاذبون. nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=2اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله، إنهم ساء ما كانوا يعملون ..
[ ص: 3574 ] فهم كانوا يجيئون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيشهدون بين يديه برسالته شهادة باللسان، لا يقصدون بها وجه الحق، إنما يقولونها للتقية، وليخفوا أمرهم وحقيقتهم على المسلمين. فهم كاذبون في أنهم جاءوا ليشهدوا هذه الشهادة، فقد جاءوا ليخدعوا المسلمين بها، ويداروا أنفسهم بقولها. ومن ثم يكذبهم الله في شهادتهم بعد التحفظ الذي يثبت حقيقة الرسالة:
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=1والله يعلم إنك لرسوله .. والله يشهد إن المنافقين لكاذبون .
والتعبير من الدقة والاحتياط بصورة تثير الانتباه. فهو يبادر بتثبيت الرسالة قبل تكذيب مقالة المنافقين. ولولا هذا التحفظ لأوهم ظاهر العبارة تكذيب المنافقين في موضوع شهادتهم وهو الرسالة. وليس هذا هو المقصود. إنما المقصود تكذيب إقرارهم فهم لا يقرون الرسالة حقا ولا يشهدون بها خالصي الضمير!
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=2اتخذوا أيمانهم جنة .. وهي توحي بأنهم كانوا يحلفون الأيمان كلما انكشف أمرهم، أو عرف عنهم كيد أو تدبير، أو نقلت عنهم مقالة سوء في المسلمين. كانوا يحلفون ليتقوا ما يترتب على افتضاح أمر من أمورهم، فيجعلون أيمانهم وقاية وجنة يحتمون وراءها، ليواصلوا كيدهم ودسهم وإغواءهم للمخدوعين فيهم.
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=2فصدوا عن سبيل الله .. صدوا أنفسهم وصدوا غيرهم مستعينين بتلك الأيمان الكاذبة:
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=2إنهم ساء ما كانوا يعملون .. وهل أسوأ من الكذب للخداع والتضليل!؟
[ ص: 3571 ] (63)
nindex.php?page=treesubj&link=28889سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ مَدَنِيَّةٌ
وَآيَاتُهَا إِحْدَى عَشْرَةَ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
nindex.php?page=treesubj&link=18697_32879_1970_23467_30723_32315_32360_30565_30881_30514_32944_30196_19228_19229_19240_28842_30563_30569_29034nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=1إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=2اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=3ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=4وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=5وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=6سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=7هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=8يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=9يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=10وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ (10)
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=11وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
[ ص: 3572 ] هَذِهِ السُّورَةُ الَّتِي تَحْمِلُ هَذَا الِاسْمَ الْخَاصَّ "الْمُنَافِقُونَ" الدَّالَّ عَلَى مَوْضُوعِهَا.. لَيْسَتْ هِيَ السُّورَةَ الْوَحِيدَةَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ النِّفَاقِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَوَصْفُ أَحْوَالِهِمْ وَمَكَائِدِهِمْ. فَلَا تَكَادُ تَخْلُو سُورَةٌ مَدَنَيَّةٌ مِنْ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ تَلْمِيحًا أَوْ تَصْرِيحًا. وَلَكِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تَكَادُ تَكُونُ مَقْصُورَةً عَلَى الْحَدِيثِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، وَالْإِشَارَةِ إِلَى بَعْضِ الْحَوَادِثِ وَالْأَقْوَالِ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْهُمْ وَرُوِيَتْ عَنْهُمْ.
وَهِيَ تَتَضَمَّنُ حَمْلَةً عَنِيفَةً عَلَى أَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ وَأَكَاذِيبِهِمْ وَدَسَائِسِهِمْ وَمُنَاوَرَاتِهِمْ، وَمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْبُغْضِ وَالْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمِنَ اللُّؤْمِ وَالْجُبْنِ وَانْطِمَاسِ الْبَصَائِرِ وَالْقُلُوبِ.
وَلَيْسَ فِي السُّورَةِ عَدَا هَذَا إِلَّا لَفْتَةٌ فِي نِهَايَتِهَا إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا لِتَحْذِيرِهِمْ مَنْ كُلِّ مَا يُلْصِقُ بِهِمْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، وَلَوْ مِنْ بَعِيدٍ. وَأَدْنَى دَرَجَاتِ النِّفَاقِ عَدَمُ التَّجَرُّدِ لِلَّهِ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِهِ اشْتِغَالًا بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَالتَّقَاعُسُ عَنِ الْبَذْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْيَوْمُ الَّذِي لَا يَنْفَعُ فِيهِ الْبَذْلُ وَالصَّدَقَاتُ.
وَحَرَكَةُ النِّفَاقِ الَّتِي بَدَأَتْ بِدُخُولِ الْإِسْلَامِ الْمَدِينَةَ، وَاسْتَمَرَّتْ إِلَى قُرْبِ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ تَنْقَطِعْ فِي أَيِّ وَقْتٍ تَقْرِيبًا، وَإِنْ تَغَيَّرَتْ مَظَاهِرُهَا وَوَسَائِلُهَا بَيْنَ الْحِينِ وَالْحِينِ.. هَذِهِ الْحَرَكَةُ ذَاتُ أَثَرٍ وَاضِحٍ فِي سِيرَةِ هَذِهِ الْفَتْرَةِ التَّارِيخِيَّةِ وَفِي أَحْدَاثِهَا; وَقَدْ شَغِلَتْ مِنْ جُهْدِ الْمُسْلِمِينَ وَوَقْتِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ قَدْرًا كَبِيرًا; وَوَرَدَ ذِكْرُهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً تَدُلُّ عَلَى ضَخَامَةِ هَذِهِ الْحَرَكَةِ، وَأَثَرِهَا الْبَالِغِ فِي حَيَاةِ الدَّعْوَةِ فِي ذَلِكَ الْحِينِ.
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ هَذِهِ الْحَرَكَةِ فَصْلٌ جَيِّدٌ فِي كِتَابِ: "سِيرَةِ الرَّسُولِ: صُوَرٌ مُقْتَبَسَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ" لِمُؤَلِّفِهِ الْأُسْتَاذِ
"مُحَمَّدُ عَزَّةَ دَرُوزَةَ" نَقْتَطِفُ مِنْهُ فِقْرَاتٍ كَاشِفَةً:
"وَعِلَّةُ ظُهُورِ تِلْكَ الْحَرَكَةِ فِي
الْمَدِينَةِ وَاضِحَةٌ، فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ الْأَوَّلُونَ فِي
مَكَّةَ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْقُوَّةِ وَالنُّفُوذِ فِي حَالَةٍ تَسْتَدْعِي وُجُودَ فِئَةٍ مِنَ النَّاسِ تَرْهَبُهُمْ أَوْ تَرْجُو خَيْرَهُمْ، فَتَتَمَلَّقُهُمْ وَتَتَزَلَّفُ إِلَيْهِمْ فِي الظَّاهِرِ، وَتَتَآمَرُ عَلَيْهِمْ وَتَكِيدُ لَهُمْ وَتَمْكُرُ بِهِمْ فِي الْخَفَاءِ، كَمَا كَانَ شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ بِوَجْهٍ عَامٍّ. وَلَقَدْ كَانَ أَهْلُ
مَكَّةَ وَزُعَمَاؤُهَا خَاصَّةً يُنَاوِئُونَ النَّبِيَّ جِهَارًا، وَيَتَنَاوَلُونَ مَنِ اسْتَطَاعُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَذَى الشَّدِيدِ، وَيُقَاوِمُونَ الدَّعْوَةَ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ دُونَ مَا تَحَرُّزٍ أَوْ تَحْفُّظٍ; وَكَانَتِ الْقُوَّةُ لَهُمْ حَتَّى اضْطُرَّ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْهِجْرَةِ فِرَارًا بِدِينِهِمْ وَدَمِهِمْ إِلَى
الْحَبَشَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ إِلَى
يَثْرِبَ; وَحَتَّى فُتِنَ بَعْضُهُمْ عَنْ دِينِهِ بِالْعُنْفِ وَالْإِكْرَاهِ، أَوْ بِالْإِغْرَاءِ وَالتَّهْوِيشِ; وَحَتَّى تَزَلْزَلَ بَعْضُهُمْ وَتَبَرَّمَ وَنَافَقَ الْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى مَاتَ بَعْضُ مَنْ نَالَهُ الْأَذَى مِمَّنْ ثَبَتَ عَلَى دِينِهِ نَتِيجَةً لِلتَّعْذِيبِ ..."
"أَمَّا فِي
الْمَدِينَةِ فَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ مُخْتَلِفًا جِدًّا. فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَطَاعَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَيْهَا أَنْ يَكْسِبَ أَنْصَارًا أَقْوِيَاءَ مِنَ
الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ; وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَّا بَعْدَ أَنِ اسْتَوْثَقَ مِنْ مَوْقِفِهِ، وَلَمْ يَبْقَ تَقْرِيبًا بَيْتٌ عَرَبِيٌّ فِيهَا لَمْ يَدْخُلْهُ الْإِسْلَامُ. فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْهَيِّنِ أَنْ يَقِفَ الَّذِينَ لَمَّ يُؤْمِنُوا بِهِ - إِمَّا عَنْ جَهَالَةٍ وَغَبَاءٍ، وَإِمَّا عَنْ غَيْظٍ وَحِقْدٍ وَعِنَادٍ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْا فِي قُدُومِ النَّبِيِّ حَدًّا لِنُفُوذِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ - مَوْقِفَ الْجُحُودِ وَالْعَدَاءِ الْعَلَنِيِّ لِلنَّبِيِّ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ; وَكَانَ لِلْعَصَبِيَّةِ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ أَثَرٌ غَيْرُ قَلِيلٍ فِي عَدَمِ الْوُقُوفِ هَذَا الْمَوْقِفَ، لِأَنَّ سَوَادَ
الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ أَصْبَحُوا أَنْصَارَ النَّبِيِّ، وَمُرْتَبِطِينَ بِهِ بِمَوَاثِيقِ الدِّفَاعِ وَالنَّصْرِ، إِلَى أَنَّ جُلَّهُمْ قَدْ حَسُنَ إِسْلَامُهُمْ، وَغَدَوْا يَرَوْنَ فِي النَّبِيِّ رَسُولَ اللَّهِ، وَقَائِدَهُمُ الْأَعْلَى الْوَاجِبَ الطَّاعَةِ، وَمُرْشِدَهُمُ الْأَعْظَمَ الْوَاجِبَ الِاتِّبَاعِ، فَلَمْ يَكُنْ يَسَعُ الَّذِينَ ظَلَّتْ تَغْلِبُهُمْ نَزْعَةُ الشِّرْكِ، وَيَتَحَكَّمُ فِيهِمْ مَرَضُ الْقَلْبِ وَالْمُكَابَرَةِ وَالْحِقْدِ، وَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى مُنَاوَأَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعْوَتِهِ وَنُفُوذِهِ - أَنْ يَظْهَرُوا عَلَنًا فِي نَزْعَتِهِمْ
[ ص: 3573 ] وَعَدَائِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ أَمَامَهُمْ إِلَّا التَّظَاهُرُ بِالْإِسْلَامِ، وَالْقِيَامُ بِأَرْكَانِهِ، وَالتَّضَامُنُ مَعَ قَبَائِلِهِمْ. وَجَعْلُ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ وَدَسِّهِمْ وَمُؤَامَرَاتِهِمْ بِأُسْلُوبِ الْمُرَاوَغَةِ وَالْخِدَاعِ وَالتَّمْوِيهِ، وَإِذَا كَانُوا وَقَفُوا أَحْيَانًا مَوَاقِفَ عَلَنِيَّةً فِيهَا كَيْدٌ وَدَسٌّ، وَعَلَيْهَا طَابَعٌ مِنَ النِّفَاقِ بَارِزٌ، فَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الظُّرُوفِ وَالْأَزَمَاتِ الْحَادَّةِ الَّتِي كَانَتْ تُحْدِقُ بِالنَّبِيِّ وَالْمُسْلِمِينَ، وَالَّتِي كَانُوا يَتَّخِذُونَهَا حَجَّةً لِتِلْكَ الْمَوَاقِفِ بِدَاعِي الْمَصْلَحَةِ وَالْمَنْطِقِ وَالِاحْتِيَاطِ; وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى كُلِّ حَالٍ يَعْتَرِفُونَ بِالْكُفْرِ أَوِ النِّفَاقِ، غَيْرَ أَنَّ نِفَاقَهُمْ وَكُفْرَهُمْ وَمَوَاقِفَهُمْ فِي الْكَيْدِ وَالدَّسِّ وَالتَّآمُرِ لَمْ تَكُنْ لِتَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُخْلِصِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، كَمَا أَنَّ الْمَوَاقِفَ الْعَلَنِيَّةَ الَّتِي كَانُوا يَقِفُونَهَا فِي فُرَصِ الْأَزَمَاتِ كَانَتْ مِمَّا تَزِيدُ كُفْرَهُمْ وَنِفَاقَهُمْ فَضِيحَةً وَمَقْتًا. وَقَدْ كَانَتِ الآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تُوَجِّهُ إِلَيْهِمْ كَذَلِكَ الْفَضَائِحَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِمْ بِمَا يَفْعَلُونَ أَوْ يَمْكُرُونَ، وَتَدْمَغُهُمْ بِشُرُورِهِمْ وَخُبْثِهِمْ وَمَكَايِدِهِمْ، وَتُحَذِّرُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ فِي كُلِّ ظَرْفٍ وَمُنَاسَبَةٍ.
"وَلَقَدْ كَانَتْ مَوَاقِفُ الْمُنَافِقِينَ وَمَكَايِدُهُمْ بَعِيدَةَ الْمَدَى وَالْأَثَرِ عَلَى مَا تُلْهِمُ الْآيَاتُ الْمَدَنِيَّةُ، حَتَّى لَكَأَنَّهُ نِضَالٌ قَوِيٌّ، يُذَكِّرُ بِمَا كَانَ مِنْ نِضَالٍ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزُعَمَاءِ
مَكَّةَ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَدْوَارُ وَالنَّتَائِجُ إِذْ إِنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَخَذَ مَرْكَزُهُ يَتَوَطَّدُ وَقُوَّتُهُ تَزْدَادُ، وَدَائِرَةُ الْإِسْلَامِ تَتَّسِعُ، وَصَارَ صَاحِبَ سُلْطَانٍ وَأَمْرٍ نَافِذٍ وَجَانِبٍ عَزِيزٍ; وَإِذْ لَمْ يَكُنِ الْمُنَافِقُونَ كُتْلَةً مُتَضَامِنَةً ذَاتَ شَخْصِيَّةٍ خَاصَّةٍ بَارِزَةٍ، وَكَانَ ضَعْفُهُمْ وَضَآلَةُ عَدَدِهِمْ وَشَأْنِهِمْ يَسِيرَانِ سَيْرًا مُتَنَاسِبًا عَكْسِيًّا مَعَ مَا كَانَ مِنْ تَزَايُدِ قُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتِّسَاعِ دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ، وَتَوَطُّدِ عِزَّتِهِ وَسُلْطَانِهِ.
"وَيَكْفِيكَ لِأَجْلِ أَنْ تَشْعُرَ بِخُطُورَةِ الدَّوْرِ الَّذِي قَامَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ، وَخَاصَّةً فِي أَوَائِلِ الْعَهْدِ، أَنْ تُلَاحِظَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا أَقْوِيَاءَ نِسْبِيًّا بِعَصَبِيَّاتِهِمُ الَّتِي كَانَتْ مَا تَزَالُ قَوِيَّةَ الْأَثَرِ فِي نُفُوسِ سَوَادِ قَبَائِلِهِمْ، كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَفْضُوحِينَ فَضِيحَةً تَامَّةً، وَلَمْ يَكُنِ الْإِسْلَامُ قَدْ رَسَخَ فِي هَذَا السَّوَادِ رُسُوخًا كَافِيًا; وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَحُوطًا بِالْمُشْرِكِينَ الْجَاحِدِينَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَأَهْلُ
مَكَّةَ خُصُومُهُ الْأَلِدَّاءُ،وَهُمْ قِبْلَةُ
الْجَزِيرَةِ يَتَرَبَّصُونَ بِهِ الدَّوَائِرَ، وَيَتَحَيَّنُونَ كُلَّ فُرْصَةٍ وَوَسِيلَةٍ لِلْقَضَاءِ عَلَيْهِ; وَالْيَهُودُ فِي
الْمَدِينَةِ وَحَوْلَهَا قَدْ تَنَكَّرُوا لَهُ مُنْذُ عَهْدٍ مُبَكِّرٍ وَتَطَيَّرُوا بِهِ، ثُمَّ جَاهَرُوهُ بِالْكُفْرِ وَالْعَدَاءِ وَالْمَكْرِ; وَلَمْ يَلْبَثْ أَنِ انْعَقَدَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ حَلِفٌ طَبِيعِيٌّ عَلَى تَوْحِيدِ الْمَسْعَى، وَالتَّضَامُنِ فِي مَوْقِفِ الْمُعَارَضَةِ وَالْكَيْدِ، حَتَّى لَيُمْكِنُ الْقَوْلُ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَقْوَوْا وَيَثْبُتُوا وَيَكُنْ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْأَذَى الشَّدِيدُ وَالِاسْتِمْرَارُ فِي الْكَيْدِ وَالدَّسِّ إِلَّا بِسَبَبِ مَا لَقُوهُ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ تَعْضِيدٍ، وَمَا انْعَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ تَضَامُنٍ وَتَوَاثُقٍ، وَلَمْ يَضْعُفْ شَأْنُهُمْ وَيَخِفَّ خَطَرُهُمْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ مَكَّنَ اللَّهُ لِلنَّبِيِّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَظْهَرَهُ عَلَيْهِمْ، وَكَفَاهُ شَرَّهُمْ".
وَهَذِهِ السُّورَةُ تَبْدَأُ بِوَصْفِ طَرِيقَتِهِمْ فِي مُدَارَاةِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَإِعْلَانِهِمُ الْإِسْلَامَ وَالشَّهَادَةَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ رَسُولُ اللَّهِ. وَحَلِفِهُمْ كَذِبًا لِيُصَدِّقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَاتِّخَاذِهِمْ هَذِهِ الْأَيْمَانَ وِقَايَةً وَجُنَّةً يُخْفُونَ وَرَاءَهَا حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ، وَيَخْدَعُونَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ:
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=1 "إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ - وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ - وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=2اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ..
[ ص: 3574 ] فَهَمْ كَانُوا يَجِيئُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَشْهَدُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِرِسَالَتِهِ شَهَادَةً بِاللِّسَانِ، لَا يَقْصِدُونَ بِهَا وَجْهَ الْحَقِّ، إِنَّمَا يَقُولُونَهَا لِلتَّقِيَّةِ، وَلِيُخْفُوا أَمْرَهُمْ وَحَقِيقَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَهُمْ كَاذِبُونَ فِي أَنَّهُمْ جَاءُوا لِيَشْهَدُوا هَذِهِ الشَّهَادَةَ، فَقَدْ جَاءُوا لِيَخْدَعُوا الْمُسْلِمِينَ بِهَا، وَيُدَارُوا أَنْفُسَهُمْ بِقَوْلِهَا. وَمِنْ ثَمَّ يُكَذِّبُهُمُ اللَّهُ فِي شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ التَّحَفُّظِ الَّذِي يُثْبِتُ حَقِيقَةَ الرِّسَالَةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=1وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ .. وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ .
وَالتَّعْبِيرُ مِنَ الدِّقَّةِ وَالِاحْتِيَاطِ بِصُورَةٍ تُثِيرُ الِانْتِبَاهَ. فَهُوَ يُبَادِرُ بِتَثْبِيتِ الرِّسَالَةِ قَبْلَ تَكْذِيبِ مَقَالَةِ الْمُنَافِقِينَ. وَلَوْلَا هَذَا التَّحَفُّظُ لَأَوْهَمَ ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ تَكْذِيبَ الْمُنَافِقِينَ فِي مَوْضُوعِ شَهَادَتِهِمْ وَهُوَ الرِّسَالَةُ. وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ. إِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَكْذِيبُ إِقْرَارِهِمْ فَهُمْ لَا يُقِرُّونَ الرِّسَالَةَ حَقًّا وَلَا يَشْهَدُونَ بِهَا خَالِصِي الضَّمِيرِ!
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=2اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً .. وَهِيَ تُوحِي بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْلِفُونَ الْأَيْمَانَ كُلَّمَا انْكَشَفَ أَمْرُهُمْ، أَوْ عُرِفَ عَنْهُمْ كَيْدٌ أَوْ تَدْبِيرٌ، أَوْ نُقِلَتْ عَنْهُمْ مَقَالَةُ سُوءٍ فِي الْمُسْلِمِينَ. كَانُوا يَحْلِفُونَ لِيَتَّقُوا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى افْتِضَاحِ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِهِمْ، فَيَجْعَلُونَ أَيْمَانَهُمْ وِقَايَةً وَجُنَّةً يَحْتَمُونَ وَرَاءَهَا، لِيُوَاصِلُوا كَيْدَهُمْ وَدَسَّهُمْ وَإِغْوَاءَهُمْ لِلْمَخْدُوعِينَ فِيهِمْ.
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=2فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ .. صَدُّوا أَنْفُسَهُمْ وَصَدُّوا غَيْرَهُمْ مُسْتَعِينِينَ بِتِلْكَ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=2إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .. وَهَلْ أَسْوَأُ مِنَ الْكَذِبِ لِلْخِدَاعِ وَالتَّضْلِيلِ!؟