الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما لغطت ألسنة بشأن سلمان الفارسي، وتحدثوا عن الفارسية والعربية، بحكم إيحاءات القومية الضيقة، ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضربته الحاسمة في هذا الأمر فقال: "سلمان منا أهل البيت" فتجاوز به - بقيم السماء وميزانها - كل آفاق النسب الذي يستعزون به، وكل حدود القومية الضيقة التي يتحمسون لها.. وجعله من أهل البيت رأسا!

                                                                                                                                                                                                                                      ولما وقع بين أبي ذر الغفاري وبلال بن رباح - رضي الله عنهما - ما أفلت معه لسان أبي ذر بكلمة " يا بن السوداء " .. غضب لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبا شديدا وألقاها في وجه أبي ذر عنيفة مخيفة: [ ص: 3828 ] "يا أبا ذر طف الصاع ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل". ففرق في الأمر إلى جذوره البعيدة.. إما إسلام فهي قيم السماء وموازين السماء. وإما جاهلية فهي قيم الأرض وموازين الأرض!

                                                                                                                                                                                                                                      ووصلت الكلمة النبوية بحرارتها إلى قلب أبي ذر الحساس; فانفعل لها أشد الانفعال، ووضع جبهته على الأرض يقسم ألا يرفعها حتى يطأها بلال. تكفيرا عن قولته الكبيرة!

                                                                                                                                                                                                                                      وكان الميزان الذي ارتفع به بلال هو ميزان السماء.. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام منفعة عندك. فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة". فقال: ما عملت في الإسلام عملا أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورا تاما في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي .

                                                                                                                                                                                                                                      وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عن عمار بن ياسر وقد استأذن عليه: "ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب" .. وقال عنه: "ملئ عمار - رضي الله عنه - إيمانا إلى مشاشه".. وعن حذيفة - رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إني لا أدري ما بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي - وأشار إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما - واهتدوا بهدي عمار. وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه".

                                                                                                                                                                                                                                      وكان ابن مسعود يحسبه الغريب عن المدينة من أهل بيت رسول الله.. عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حينا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كثرة دخولهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولزومهم له.

                                                                                                                                                                                                                                      وجليبيب - وهو رجل من الموالي - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب له بنفسه ليزوجه امرأة من الأنصار. فلما تأبى أبواها قالت هي: أتريدون أن تردوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه. فرضيا وزوجاها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد افتقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الوقعة التي استشهد فيها بعد فترة قصيرة من زواجه.. عن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مغزى له، فأفاء الله عليه. فقال لأصحابه: "هل تفقدون من أحد؟" قالوا: نعم فلانا وفلانا وفلانا. ثم قال: "هل تفقدون من أحد؟" قالوا: نعم. فلانا وفلانا وفلانا. ثم قال: "هل تفقدون من أحد؟" فقالوا: لا. قال: "لكني أفقد جليبيبا" فطلبوه، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه. فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقف عليه، ثم قال: "قتل سبعة ثم قتلوه. هذا مني وأنا منه. هذا مني وأنا منه". ثم وضعه على ساعديه، ليس له سرير إلا ساعدا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فحفر له، ووضع في قبره ولم يذكر غسلا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3829 ] بذلك التوجيه الإلهي وبهذا الهدي النبوي كان الميلاد للبشرية على هذا النحو الفريد. ونشأ المجتمع الرباني الذي يتلقى قيمه وموازينه من السماء، طليقا من قيود الأرض، بينما هو يعيش على الأرض.. وكانت هذه هي المعجزة الكبرى للإسلام. المعجزة التي لا تتحقق إلا بإرادة إله، وبعمل رسول. والتي تدل بذاتها على أن هذا الدين من عند الله، وأن الذي جاء به للناس رسول!

                                                                                                                                                                                                                                      وكان من تدبير الله لهذا الأمر أن يليه بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحبه الأول أبو بكر، وصاحبه الثاني عمر.. أقرب اثنين لإدراك طبيعة هذا الأمر، وأشد اثنين انطباعا بهدي رسول الله، وأعمق اثنين حبا لرسول الله، وحرصا على تتبع مواضع حبه ومواقع خطاه.

                                                                                                                                                                                                                                      حفظ أبو بكر - رضي الله عنه - عن صاحبه - صلى الله عليه وسلم - ما أراده في أمر أسامة. فكان أول عمل له بعد توليه الخلافة هو إنفاذه بعث أسامة، على رأس الجيش الذي أعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسار يودعه بنفسه إلى ظاهر المدينة. أسامة راكب وأبو بكر الخليفة راجل. فيستحيي أسامة الفتى الحدث أن يركب والخليفة الشيخ يمشي. فيقول: " يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن " .. فيقسم الخليفة: "والله لا تنزل. ووالله لا أركب. وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة؟"..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يرى أبو بكر أنه في حاجة إلى عمر. وقد حمل عبء الخلافة الثقيل. ولكن عمر إنما هو جندي في جيش أسامة. وأسامة هو الأمير. فلا بد من استئذانه فيه. فإذا الخليفة يقول: "إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل".. يا لله! إن رأيت أن تعينني فافعل.. إنها آفاق عوال، لا يرقى إليها الناس إلا بإرادة الله، على يدي رسول من عند الله!

                                                                                                                                                                                                                                      ثم تمضي عجلة الزمن فنرى عمر بن الخطاب خليفة يولي عمار بن ياسر على الكوفة.

                                                                                                                                                                                                                                      ويقف بباب عمر سهيل بن عمرو بن الحارث بن هشام، وأبو سفيان بن حرب، وجماعة من كبراء قريش من الطلقاء! فيأذن قبلهم لصهيب وبلال. لأنهما كانا من السابقين إلى الإسلام ومن أهل بدر. فتورم أنف أبي سفيان، ويقول بانفعال الجاهلية: "لم أر كاليوم قط. يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه!".. فيقول له صاحبه - وقد استقرت في حسه حقيقة الإسلام - : "أيها القوم. إني والله أرى الذي في وجوهكم. إن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم. دعي القوم إلى الإسلام ودعيتم. فأسرعوا وأبطأتم. فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم؟".

                                                                                                                                                                                                                                      ويفرض عمر لأسامة بن زيد أكبر مما يفرض لعبد الله بن عمر. حتى إذا سأله عبد الله عن سر ذلك قال له: "يا بني. كان زيد - رضي الله عنه - أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبيك! وكان أسامة - رضي الله عنه - أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك! فآثرت حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حبي".. يقولها عمر وهو يعلم أن حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كان مقوما بميزان السماء!

                                                                                                                                                                                                                                      ويرسل عمر عمارا ليحاسب خالد بن الوليد - القائد المظفر صاحب النسب العريق - فيلببه بردائه.. ويروى أنه أوثقه بشال عمامته حتى ينتهي من حسابه فتظهر براءته فيفك وثاقه ويعممه بيده.. وخالد لا يرى في هذا [ ص: 3830 ] كله بأسا. فإنما هو عمار صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السابق إلى الإسلام الذي قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال!

                                                                                                                                                                                                                                      وعمر هو الذي يقول عن أبي بكر - رضي الله عنهما - هو سيدنا وأعتق سيدنا. يعني بلالا. الذي كان مملوكا لأمية بن خلف. وكان يعذبه عذابا شديدا. حتى اشتراه منه أبو بكر وأعتقه.. وعنه يقول عمر بن الخطاب.. عن بلال.. سيدنا!

                                                                                                                                                                                                                                      وعمر هو الذي قال: "ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته" يقول هذا، وهو لم يستخلف عثمان ولا عليا، ولا طلحة ولا الزبير.. إنما جعل الشورى في الستة بعده ولم يستخلف أحدا بذاته!

                                                                                                                                                                                                                                      وعلي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - يرسل عمارا والحسن بن علي - رضي الله عنهما - إلى أهل الكوفة يستنفرهم في الأمر الذي كان بينه وبين عائشة - رضي الله عنها - فيقول: "إني لأعلم أنها زوجة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو تتبعوها".. فيسمع له الناس في شأن عائشة أم المؤمنين، وبنت الصديق أبي بكر - رضي الله عنهم جميعا.

                                                                                                                                                                                                                                      وبلال بن رباح يرجوه أخوه في الإسلام أبو رويحة الخثعمي أن يتوسط له في الزواج من قوم من أهل اليمن. فيقول لهم: "أنا بلال بن رباح، وهذا أخي أبو رويحة، وهو امرؤ سوء في الخلق والدين. فإن شئتم أن تزوجوه فزوجوه، وإن شئتم أن تدعوا فدعوا".. فلا يدلس عليهم، ولا يخفي من أمر أخيه شيئا، ولا يذكر أنه وسيط وينسى أنه مسؤول أمام الله فيما يقول.. فيطمئن القوم إلى هذا الصدق.. ويزوجون أخاه، وحسبهم - وهو العربي ذو النسب - أن يكون بلال المولى الحبشي وسيطه!

                                                                                                                                                                                                                                      واستقرت تلك الحقيقة الكبيرة في المجتمع الإسلامي، وظلت مستقرة بعد ذلك آمادا طويلة على الرغم من عوامل الانتكاس الكثيرة. "وقد كان عبد الله بن عباس يذكر ويذكر معه مولاه عكرمة. وكان عبد الله ابن عمر يذكر ويذكر معه مولاه نافع. وأنس بن مالك ومعه مولاه ابن سيرين. وأبو هريرة ومعه مولاه عبد الرحمن بن هرمز. وفي البصرة كان الحسن البصري. وفي مكة كان مجاهد بن جبر، وعطاء بن رباح، وطاووس بن كيسان هم الفقهاء. وفي مصر تولى الفتيا يزيد بن أبي حبيب في أيام عمر بن عبد العزيز وهو مولى أسود من دنقلة"..

                                                                                                                                                                                                                                      وظل ميزان السماء يرجح بأهل التقوى ولو تجردوا من قيم الأرض كلها.. في اعتبار أنفسهم وفي اعتبار الناس من حولهم. ولم يرفع هذا الميزان من الأرض إلا قريبا جدا بعد أن طغت الجاهلية طغيانا شاملا في أنحاء الأرض جميعا. وأصبح الرجل يقوم برصيده من الدولارات في أمريكا زعيمة الدول الغربية. وأصبح الإنسان كله لا يساوي الآلة في المذهب المادي المسيطر في روسيا زعيمة الدول الشرقية. أما أرض المسلمين فقد سادت فيها الجاهلية الأولى، التي جاء الإسلام ليرفعها من وهدتها; وانطلقت فيها نعرات كان الإسلام قد قضى عليها. وحطمت ذلك الميزان الإلهي وارتدت إلى قيم جاهلية زهيدة لا تمت بصلة إلى الإيمان والتقوى..

                                                                                                                                                                                                                                      ولم يعد هنالك إلا أمل يناط بالدعوة الإسلامية أن تنقذ البشرية كلها مرة أخرى من الجاهلية; وأن يتحقق [ ص: 3831 ] على يديها ميلاد جديد للإنسان كالميلاد الذي شهدته أول مرة، والذي جاء ذلك الحادث الذي حكاه مطلع هذه السورة ليعلنه في تلك الآيات القليلة الحاسمة العظيمة..

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد تقرير تلك الحقيقة الكبيرة في ثنايا التعقيب على ذلك الحادث، في المقطع الأول من السورة، يعجب السياق في المقطع الثاني من أمر هذا الإنسان، الذي يعرض عن الهدى، ويستغني عن الإيمان، ويستعلي على الدعوة إلى ربه.. يعجب من أمره وكفره، وهو لا يذكر مصدر وجوده، وأصل نشأته، ولا يرى عناية الله به وهيمنته كذلك على كل مرحلة من مراحل نشأته في الأولى والآخرة; ولا يؤدي ما عليه لخالقه وكافله ومحاسبه:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية