[ ص: 3944 ] (97)
nindex.php?page=treesubj&link=28889سورة القدر مكية
وآياتها خمس
بسم الله الرحمن الرحيم
nindex.php?page=treesubj&link=34367_1264_2333_32330_28860_26777_29068nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إنا أنزلناه في ليلة القدر (1)
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=2وما أدراك ما ليلة القدر (2)
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=3ليلة القدر خير من ألف شهر (3)
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر (4)
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=5سلام هي حتى مطلع الفجر (5)
الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال. ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملإ الأعلى. ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب
محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته، وفي دلالته، وفي آثاره في حياة البشرية جميعا.
العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري:
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إنا أنزلناه في ليلة القدر. nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=2وما أدراك ما ليلة القدر؟ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=3ليلة القدر خير من ألف شهر ..
والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحدث تكاد ترف وتنير. بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود. نور الله المشرق في قرآنه:
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إنا أنزلناه في ليلة القدر ونور الملائكة والروح وهم في غدوهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض والملإ الأعلى:
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر .. ونور الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقا مع نور الوحي ونور الملائكة، وروح السلام المرفرف على الوجود وعلى الأرواح السارية في هذا الوجود:
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=5سلام هي حتى مطلع الفجر .
والليلة التي تتحدث عنها السورة هي الليلة التي جاء ذكرها في سورة الدخان:
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=3إنا أنزلناه في ليلة مباركة، إنا كنا منذرين، nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=4فيها يفرق كل أمر حكيم. nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=5أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين. nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=6رحمة من ربك إنه هو السميع العليم .. والمعروف أنها ليلة من ليالي رمضان، كما ورد في سورة البقرة:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان
.. أي التي بدأ فيها نزول القرآن على قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليبلغه إلى الناس. وفي رواية
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق أن أول الوحي بمطلع سورة العلق كان في شهر رمضان، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحنث في غار حراء.
وقد ورد في تعيين هذه الليلة آثار كثيرة. بعضها يعين الليلة السابعة والعشرين من رمضان. وبعضها يعين الليلة
[ ص: 3945 ] الواحدة والعشرين. وبعضها يعينها ليلة من الليالي العشر الأخيرة. وبعضها يطلقها في رمضان كله. فهي ليلة من ليالي رمضان على كل حال في أرجح الآثار.
واسمها: " ليلة القدر " .. قد يكون معناه التقدير والتدبير. وقد يكون معناه القيمة والمقام. وكلاهما يتفق مع ذلك الحدث الكوني العظيم. حدث القرآن والوحي والرسالة.. وليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث هذا الوجود. وليس أدل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد. وهي خير من ألف شهر. والعدد لا يفيد التحديد. في مثل هذه المواضع من القرآن. إنما هو يفيد التكثير. والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر. فكم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات.
والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري:
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=2وما أدراك ما ليلة القدر؟ وذلك بدون حاجة إلى التعلق بالأساطير التي شاعت حول هذه الليلة في أوهام العامة. فهي ليلة عظيمة باختيار الله لها لبدء تنزيل هذا القرآن. وإفاضة هذا النور على الوجود كله، وإسباغ السلام الذي فاض من روح الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية، وبما تضمنه هذا القرآن من عقيدة وتصور وشريعة وآداب تشيع السلام في الأرض والضمير . وتنزيل الملائكة
وجبريل - عليه السلام - خاصة، بإذن ربهم، ومعهم هذا القرآن - باعتبار جنسه الذي نزل في هذه الليلة - وانتشارهم فيما بين السماء والأرض في هذا المهرجان الكوني، الذي تصوره كلمات السورة تصويرا عجيبا..
وحين ننظر اليوم من وراء الأجيال المتطاولة إلى تلك الليلة المجيدة السعيدة، ونتصور ذلك المهرجان العجيب الذي شهدته الأرض في هذه الليلة، ونتدبر حقيقة الأمر الذي تم فيها، ونتملى آثاره المتطاولة في مراحل الزمان، وفي واقع الأرض، وفي تصورات القلوب والعقول.. فإننا نرى أمرا عظيما حقا. وندرك طرفا من مغزى هذه الإشارة القرآنية إلى تلك الليلة:
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=2وما أدراك ما ليلة القدر؟ ..
لقد فرق فيها من كل أمر حكيم. وقد وضعت فيها من قيم وأسس وموازين. وقد قررت فيها من أقدار أكبر من أقدار الأفراد. أقدار أمم ودول وشعوب. بل أكثر وأعظم.. أقدار حقائق وأوضاع وقلوب!
ولقد تغفل البشرية - لجهالتها ونكد طالعها - عن قدر ليلة القدر. وعن حقيقة ذلك الحدث، وعظمة هذا الأمر. وهي منذ أن جهلت هذا وأغفلته فقدت أسعد وأجمل آلاء الله عليها، وخسرت السعادة والسلام الحقيقي - سلام الضمير وسلام البيت وسلام المجتمع - الذي وهبها إياه الإسلام. ولم يعوضها عما فقدت ما فتح عليها من أبواب كل شيء من المادة والحضارة والعمارة. فهي شقية، شقية على الرغم من فيض الإنتاج وتوافر وسائل المعاش!
لقد انطفأ النور الجميل الذي أشرق في روحها مرة، وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت إلى الملإ الأعلى. وغاب السلام الذي فاض على الأرواح والقلوب. فلم يعوضها شيء عن فرحة الروح ونور السماء
[ ص: 3946 ] وطلاقة الرفرفة إلى عليين..
ونحن - المؤمنين - مأمورون أن لا ننسى ولا نغفل هذه الذكرى; وقد جعل لنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - سبيلا هينا لينا لاستحياء هذه الذكرى في أرواحنا لتظل موصولة بها أبدا، موصولة كذلك بالحدث الكوني الذي كان فيها. وذلك فيما حثنا عليه من قيام هذه الليلة من كل عام، ومن تحريها والتطلع إليها في الليالي العشر الأخيرة من رمضان.. في الصحيحين:
nindex.php?page=hadith&LINKID=651878 "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان".. وفي الصحيحين كذلك:
nindex.php?page=hadith&LINKID=651768 "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"..
والإسلام ليس شكليات ظاهرية. ومن ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القيام في هذه الليلة أن يكون
nindex.php?page=hadith&LINKID=911107 "إيمانا واحتسابا".. وذلك ليكون هذا القيام استحياء للمعاني الكبيرة التي اشتملت عليها هذه الليلة "إيمانا " وليكون تجردا لله وخلوصا "واحتسابا".. ومن ثم تنبض في القلب حقيقة معينة بهذا القيام. ترتبط بذلك المعنى الذي نزل به القرآن.
والمنهج الإسلامي في التربية يربط بين العبادة وحقائق العقيدة في الضمير، ويجعل العبادة وسيلة لاستحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حية تتخلل المشاعر ولا تقف عند حدود التفكير.
وقد ثبت أن هذا المنهج وحده هو أصلح المناهج لإحياء هذه الحقائق ومنحها الحركة في عالم الضمير وعالم السلوك. وأن الإدراك النظري وحده لهذه الحقائق بدون مساندة العبادة، وعن غير طريقها، لا يقر هذه الحقائق، ولا يحركها حركة دافعة في حياة الفرد ولا في حياة الجماعة..
وهذا الربط بين ذكرى ليلة القدر وبين القيام فيها إيمانا واحتسابا، هو طرف من هذا المنهج الإسلامي الناجح القويم.
[ ص: 3944 ] (97)
nindex.php?page=treesubj&link=28889سُورَةُ الْقَدْرِ مَكِّيَّةٌ
وَآيَاتُهَا خَمْسٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
nindex.php?page=treesubj&link=34367_1264_2333_32330_28860_26777_29068nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=2وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=3لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=5سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
الْحَدِيثُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْمَوْعُودَةِ الْمَشْهُودَةِ الَّتِي سَجَّلَهَا الْوُجُودُ كُلُّهُ فِي فَرَحٍ وَغِبْطَةٍ وَابْتِهَالٍ. لَيْلَةِ الِاتِّصَالِ الْمُطْلَقِ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالْمَلَإِ الْأَعْلَى. لَيْلَةِ بَدْءِ نُزُولِ هَذَا الْقُرْآنِ عَلَى قَلْبِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةِ ذَلِكَ الْحَدَثِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَمْ تَشْهَدِ الْأَرْضُ مِثْلَهُ فِي عَظَمَتِهِ، وَفِي دَلَالَتِهِ، وَفِي آثَارِهِ فِي حَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ جَمِيعًا.
الْعَظْمَةُ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا الْإِدْرَاكُ الْبَشَرِيُّ:
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=2وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=3لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ..
وَالنُّصُوصُ الْقُرْآنِيَّةُ الَّتِي تَذْكُرُ هَذَا الْحَدَثَ تَكَادُ تَرِفُّ وَتُنِيرُ. بَلْ هِيَ تُفِيضُ بِالنُّورِ الْهَادِئِ السَّارِي الرَّائِقِ الْوَدُودِ. نُورِ اللَّهِ الْمُشْرِقِ فِي قُرْآنِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَنُورِ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ وَهُمْ فِي غُدُوِّهِمْ وَرَوَاحِهِمْ طَوَالَ اللَّيْلَةِ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالْمَلَإِ الْأَعْلَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ .. وَنُورِ الْفَجْرِ الَّذِي تَعْرِضُهُ النُّصُوصُ مُتَنَاسِقًا مَعَ نُورِ الْوَحْيِ وَنُورِ الْمَلَائِكَةِ، وَرُوحِ السَّلَامِ الْمُرَفْرِفِ عَلَى الْوُجُودِ وَعَلَى الْأَرْوَاحِ السَّارِيَةِ فِي هَذَا الْوُجُودِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=5سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ .
وَاللَّيْلَةُ الَّتِي تَتَحَدَّثُ عَنْهَا السُّورَةُ هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي جَاءَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الدُّخَانِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=3إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=4فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=5أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=6رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهَا لَيْلَةٌ مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ، كَمَا وَرَدَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ
.. أَيِ الَّتِي بَدَأَ فِيهَا نُزُولُ الْقُرْآنِ عَلَى قَلْبِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُبَلِّغَهُ إِلَى النَّاسِ. وَفِي رِوَايَةِ
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ أَوَّلَ الْوَحْيِ بِمَطْلَعِ سُورَةِ الْعَلَقِ كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَنَّثُ فِي غَارِ حِرَاءَ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ آثَارٌ كَثِيرَةٌ. بَعْضُهَا يُعَيِّنُ اللَّيْلَةَ السَّابِعَةَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ. وَبَعْضُهَا يُعَيِّنُ اللَّيْلَةَ
[ ص: 3945 ] الْوَاحِدَةَ وَالْعِشْرِينَ. وَبَعْضُهَا يُعَيِّنُهَا لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي الْعَشْرِ الْأَخِيرَةِ. وَبَعْضُهَا يُطْلِقُهَا فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ. فَهِيَ لَيْلَةٌ مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي أَرْجَحِ الْآثَارِ.
وَاسْمُهَا: " لَيْلَةِ الْقَدْرِ " .. قَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ التَّقْدِيرَ وَالتَّدْبِيرَ. وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ الْقِيمَةَ وَالْمَقَامَ. وَكِلَاهُمَا يَتَّفِقُ مَعَ ذَلِكَ الْحَدَثِ الْكَوْنِيِّ الْعَظِيمِ. حَدَثِ الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ.. وَلَيْسَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَلَا أَقْوَمُ فِي أَحْدَاثِ هَذَا الْوُجُودِ. وَلَيْسَ أَدَلُّ مِنْهُ كَذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ فِي حَيَاةِ الْعَبِيدِ. وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. وَالْعَدَدُ لَا يُفِيدُ التَّحْدِيدَ. فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مِنَ الْقُرْآنِ. إِنَّمَا هُوَ يُفِيدُ التَّكْثِيرَ. وَاللَّيْلَةُ خَيْرٌ مِنْ آلَافِ الشُّهُورِ فِي حَيَاةِ الْبَشَرِ. فَكَمْ مِنْ آلَافِ الشُّهُورِ وَآلَافِ السِّنِينَ قَدِ انْقَضَتْ دُونَ أَنْ تَتْرُكَ فِي الْحَيَاةِ بَعْضَ مَا تَرَكَتْهُ هَذِهِ اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ السَّعِيدَةُ مِنْ آثَارٍ وَتَحَوُّلَاتٍ.
وَاللَّيْلَةُ مِنَ الْعَظَمَةِ بِحَيْثُ تَفُوقُ حَقِيقَتُهَا حُدُودَ الْإِدْرَاكِ الْبَشَرِيِّ:
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=2وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ وَذَلِكَ بِدُونِ حَاجَةٍ إِلَى التَّعَلُّقِ بِالْأَسَاطِيرِ الَّتِي شَاعَتْ حَوْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ فِي أَوْهَامِ الْعَامَّةِ. فَهِيَ لَيْلَةٌ عَظِيمَةٌ بِاخْتِيَارِ اللَّهِ لَهَا لِبَدْءِ تَنْزِيلِ هَذَا الْقُرْآنِ. وَإِفَاضَةُ هَذَا النُّورِ عَلَى الْوُجُودِ كُلِّهِ، وَإِسْبَاغُ السَّلَامِ الَّذِي فَاضَ مِنْ رُوحِ اللَّهِ عَلَى الضَّمِيرِ الْبَشَرِيِّ وَالْحَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَبِمَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ عَقِيدَةٍ وَتَصَوُّرٍ وَشَرِيعَةٍ وَآدَابٍ تُشِيعُ السَّلَامَ فِي الْأَرْضِ وَالضَّمِيرِ . وَتَنْزِيلِ الْمَلَائِكَةِ
وَجِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَاصَّةً، بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، وَمَعَهُمْ هَذَا الْقُرْآنُ - بِاعْتِبَارِ جِنْسِهِ الَّذِي نَزَلَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ - وَانْتِشَارِهِمْ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي هَذَا الْمَهْرَجَانِ الْكَوْنِيِّ، الَّذِي تُصَوِّرُهُ كَلِمَاتُ السُّورَةِ تَصْوِيرًا عَجِيبًا..
وَحِينَ نَنْظُرُ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ الْأَجْيَالِ الْمُتَطَاوِلَةِ إِلَى تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْمَجِيدَةِ السَّعِيدَةِ، وَنَتَصَوَّرُ ذَلِكَ الْمَهْرَجَانَ الْعَجِيبَ الَّذِي شَهِدَتْهُ الْأَرْضُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَنَتَدَبَّرُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ الَّذِي تَمَّ فِيهَا، وَنَتَمَلَّى آثَارَهُ الْمُتَطَاوِلَةَ فِي مَرَاحِلِ الزَّمَانِ، وَفِي وَاقِعِ الْأَرْضِ، وَفِي تَصَوُّرَاتِ الْقُلُوبِ وَالْعُقُولِ.. فَإِنَّنَا نَرَى أَمْرًا عَظِيمًا حَقًّا. وَنُدْرِكُ طَرَفًا مِنْ مَغْزَى هَذِهِ الْإِشَارَةِ الْقُرْآنِيَّةِ إِلَى تِلْكَ اللَّيْلَةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=2وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ ..
لَقَدْ فَرَّقَ فِيهَا مِنْ كُلِّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. وَقَدْ وُضِعَتْ فِيهَا مِنْ قِيَمٍ وَأُسُسٍ وَمَوَازِينَ. وَقَدْ قُرِّرَتْ فِيهَا مِنْ أَقْدَارٍ أَكْبَرَ مِنْ أَقْدَارِ الْأَفْرَادِ. أَقْدَارُ أُمَمٍ وَدُوَلٍ وَشُعُوبٍ. بَلْ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ.. أَقْدَارُ حَقَائِقَ وَأَوْضَاعٍ وَقُلُوبٍ!
وَلَقَدْ تَغْفُلُ الْبَشَرِيَّةُ - لِجَهَالَتِهَا وَنَكَدِ طَالِعِهَا - عَنْ قَدْرِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَعَنْ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الْحَدَثِ، وَعَظَمَةِ هَذَا الْأَمْرِ. وَهِيَ مُنْذُ أَنْ جَهِلَتْ هَذَا وَأَغْفَلَتْهُ فَقَدَتْ أَسْعَدَ وَأَجْمَلَ آلَاءِ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَخَسِرَتِ السَّعَادَةَ وَالسَّلَامَ الْحَقِيقِيَّ - سَلَامَ الضَّمِيرِ وَسَلَامَ الْبَيْتِ وَسَلَامَ الْمُجْتَمَعِ - الَّذِي وَهَبَهَا إِيَّاهُ الْإِسْلَامُ. وَلَمْ يُعَوِّضْهَا عَمَّا فَقَدَتْ مَا فُتِحَ عَلَيْهَا مِنْ أَبْوَابِ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْمَادَّةِ وَالْحَضَارَةِ وَالْعِمَارَةِ. فَهِيَ شَقِيَّةٌ، شَقِيَّةٌ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ فَيْضِ الْإِنْتَاجِ وَتَوَافُرِ وَسَائِلِ الْمَعَاشِ!
لَقَدِ انْطَفَأَ النُّورُ الْجَمِيلُ الَّذِي أَشْرَقَ فِي رُوحِهَا مَرَّةً، وَانْطَمَسَتِ الْفَرْحَةُ الْوَضِيئَةُ الَّتِي رَفَّتْ بِهَا وَانْطَلَقَتْ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى. وَغَابَ السَّلَامُ الَّذِي فَاضَ عَلَى الْأَرْوَاحِ وَالْقُلُوبِ. فَلَمْ يُعَوِّضْهَا شَيْءٌ عَنْ فَرْحَةِ الرُّوحِ وَنُورِ السَّمَاءِ
[ ص: 3946 ] وَطَلَاقَةِ الرَّفْرَفَةِ إِلَى عِلِّيِّينَ..
وَنَحْنُ - الْمُؤْمِنِينَ - مَأْمُورُونَ أَنْ لَا نَنْسَى وَلَا نُغْفِلَ هَذِهِ الذِّكْرَى; وَقَدْ جَعَلَ لَنَا نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبِيلًا هَيِّنًا لَيِّنًا لِاسْتِحْيَاءِ هَذِهِ الذِّكْرَى فِي أَرْوَاحِنَا لِتَظَلَّ مَوْصُولَةً بِهَا أَبَدًا، مَوْصُولَةً كَذَلِكَ بِالْحَدَثِ الْكَوْنِيِّ الَّذِي كَانَ فِيهَا. وَذَلِكَ فِيمَا حَثَّنَا عَلَيْهِ مِنْ قِيَامِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِنْ كُلِّ عَامٍ، وَمِنْ تَحَرِّيهَا وَالتَّطَلُّعِ إِلَيْهَا فِي اللَّيَالِي الْعَشْرِ الْأَخِيرَةِ مِنْ رَمَضَانَ.. فِي الصَّحِيحَيْنِ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=651878 "تَحَرُّوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ".. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ كَذَلِكَ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=651768 "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"..
وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ شَكْلِيَّاتٍ ظَاهِرِيَّةً. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقِيَامِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَنْ يَكُونَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=911107 "إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا".. وَذَلِكَ لِيَكُونَ هَذَا الْقِيَامُ اسْتِحْيَاءً لِلْمَعَانِي الْكَبِيرَةِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ اللَّيْلَةُ "إِيمَانًا " وَلِيَكُونَ تَجَرُّدًا لِلَّهِ وَخُلُوصًا "وَاحْتِسَابًا".. وَمِنْ ثَمَّ تَنْبِضُ فِي الْقَلْبِ حَقِيقَةٌ مُعَيَّنَةٌ بِهَذَا الْقِيَامِ. تَرْتَبِطُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ.
وَالْمَنْهَجُ الْإِسْلَامِيُّ فِي التَّرْبِيَةِ يَرْبُطُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَحَقَائِقِ الْعَقِيدَةِ فِي الضَّمِيرِ، وَيَجْعَلُ الْعِبَادَةَ وَسِيلَةً لِاسْتِحْيَاءِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ وَإِيضَاحِهَا وَتَثْبِيتِهَا فِي صُورَةٍ حَيَّةٍ تَتَخَلَّلُ الْمَشَاعِرَ وَلَا تَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ التَّفْكِيرِ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْمَنْهَجَ وَحْدَهُ هُوَ أَصْلَحُ الْمَنَاهِجِ لِإِحْيَاءِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ وَمَنْحِهَا الْحَرَكَةَ فِي عَالَمِ الضَّمِيرِ وَعَالَمِ السُّلُوكِ. وَأَنَّ الْإِدْرَاكَ النَّظَرِيَّ وَحْدَهُ لِهَذِهِ الْحَقَائِقِ بِدُونِ مُسَانَدَةِ الْعِبَادَةِ، وَعَنْ غَيْرِ طَرِيقِهَا، لَا يُقِرُّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ، وَلَا يُحَرِّكُهَا حَرَكَةً دَافِعَةً فِي حَيَاةِ الْفَرْدِ وَلَا فِي حَيَاةِ الْجَمَاعَةِ..
وَهَذَا الرَّبْطُ بَيْنَ ذِكْرَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَبَيْنَ الْقِيَامِ فِيهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، هُوَ طَرَفٌ مِنْ هَذَا الْمَنْهَجِ الْإِسْلَامِيِّ النَّاجِحِ الْقَوِيمِ.