[ ص: 3987 ] (108)
nindex.php?page=treesubj&link=28889سورة الكوثر مكية
وآياتها ثلاث
بسم الله الرحمن الرحيم
nindex.php?page=treesubj&link=30387_30614_32358_32861_3975_31056_29079nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر (1)
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=2فصل لربك وانحر (2)
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=3إن شانئك هو الأبتر (3)
هذه السورة خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كسورة الضحى، وسورة الشرح. يسري عنه ربه فيها، ويعده بالخير، ويوعد أعداءه بالبتر، ويوجهه إلى طريق الشكر.
ومن ثم فهي تمثل صورة من حياة الدعوة، وحياة الداعية في أول العهد بمكة. صورة من الكيد والأذى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوة الله التي يبشر بها وصورة من رعاية الله المباشرة لعبده وللقلة المؤمنة معه ومن تثبيت الله وتطمينه وجميل وعده لنبيه ومرهوب وعيده لشانئه.
كذلك تمثل حقيقة الهدى والخير والإيمان. وحقيقة الضلال والشر والكفران.. الأولى كثرة وفيض وامتداد. والثانية قلة وانحسار وانبتار. وإن ظن الغافلون غير هذا وذاك..
ورد أن سفهاء
قريش ممن كانوا يتابعون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعوته بالكيد والمكر وإظهار السخرية والاستهزاء. ليصرفوا جمهرة الناس عن الاستماع للحق الذي جاءهم به من عند الله، من أمثال
العاص ابن وائل، وعقبة بن أبي معيط، وأبي لهب، وأبي جهل، وغيرهم، كانوا يقولون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه أبتر. يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده. وقال أحدهم: دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره!
وكان هذا اللون من الكيد اللئيم الصغير يجد له في البيئة العربية التي تتكاثر بالأبناء صدى ووقعا. وتجد هذه الوخزة الهابطة من يهش لها من أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشانئيه، ولعلها أوجعت قلبه الشريف ومسته بالغم أيضا.
ومن ثم نزلت هذه السورة تمسح على قلبه - صلى الله عليه وسلم - بالروح والندى، وتقرر حقيقة الخير الباقي الممتد الذي اختاره له ربه; وحقيقة الانقطاع والبتر المقدر لأعدائه.
[ ص: 3988 ] nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر .. والكوثر صيغة من الكثرة.. وهو مطلق غير محدود. يشير إلى عكس المعنى الذي أطلقه هؤلاء السفهاء.. إنا أعطيناك ما هو كثير فائض غزير. غير ممنوع ولا مبتور.. فإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه فهو واجده حيثما نظر أو تصور.
هو واجده في النبوة. في هذا الاتصال بالحق الكبير، والوجود الكبير. الوجود الذي لا وجود غيره ولا شيء في الحقيقة سواه. وماذا فقد من وجد الله؟
وهو واجده في هذا القرآن الذي نزل عليه. وسورة واحدة منه كوثر لا نهاية لكثرته، وينبوع ثر لا نهاية لفيضه وغزارته!
وهو واجده في الملإ الأعلى الذي يصلي عليه، ويصلي على من يصلي عليه في الأرض، حيث يقترن اسمه باسم الله في الأرض والسماء.
وهو واجده في سنته الممتدة على مدار القرون، في أرجاء الأرض. وفي الملايين بعد الملايين السائرة على أثره، وملايين الملايين من الألسنة والشفاه الهاتفة باسمه، وملايين الملايين من القلوب المحبة لسيرته وذكراه إلى يوم القيامة.
وهو واجده في الخير الكثير الذي فاض على البشرية في جميع أجيالها بسببه وعن طريقه. سواء من عرفوا هذا الخير فآمنوا به، ومن لم يعرفوه ولكنه فاض عليهم فيما فاض!
وهو واجده في مظاهر شتى، محاولة إحصائها ضرب من تقليلها وتصغيرها!
إنه الكوثر، الذي لا نهاية لفيضه، ولا إحصاء لعوارفه، ولا حد لمدلوله. ومن ثم تركه النص بلا تحديد، يشمل كل ما يكثر من الخير ويزيد..
وقد وردت روايات من طرق كثيرة أن الكوثر نهر في الجنة أوتيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أجاب بأن هذا النهر هو من بين الخير الكثير الذي أوتيه الرسول. فهو كوثر من الكوثر! وهذا هو الأنسب في هذا السياق وفي هذه الملابسات.
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=2فصل لربك وانحر .
بعد توكيد هذا العطاء الكثير الفائض الكثرة، على غير ما أرجف المرجفون وقال الكائدون، وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى شكر النعمة بحقها الأول. حق الإخلاص والتجرد لله في العبادة وفي الاتجاه.. في الصلاة وفي ذبح النسك خالصا لله:
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=2فصل لربك وانحر .. غير ملق بالا إلى شرك المشركين، وغير مشارك لهم في عبادتهم أو في ذكر غير اسم الله على ذبائحهم.
وفي تكرار الإشارة إلى ذكر اسم الله وحده على الذبائح، وتحريم ما أهل به لغير الله، وما لم يذكر اسم الله عليه.. ما يشي بعناية هذا الدين بتخليص الحياة كلها من عقابيل الشرك وآثاره. لا تخليص التصور والضمير وحدهما. فهو دين الوحدة بكل معنى من معانيها، وكل ظل من ظلالها; كما أنه دين التوحيد الخالص المجرد الواضح. ومن ثم فهو يتتبع الشرك في كل مظاهره، وفي كل مكامنه; ويطارده مطاردة عنيفة دقيقة سواء استكن في الضمير، أم ظهر في العبادة، أم تسرب إلى تقاليد الحياة فالحياة وحدة ما ظهر منها وما بطن، والإسلام يأخذها كلا لا يتجزأ، ويخلصها من شوائب الشرك جميعا، ويتجه بها إلى الله خالصة واضحة
[ ص: 3989 ] ناصعة، كما نرى في مسألة الذبائح وفي غيرها من شعائر العبادة أو تقاليد الحياة..
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=3إن شانئك هو الأبتر ..
في الآية الأولى قرر أنه ليس أبتر بل هو صاحب الكوثر. وفي هذه الآية يرد الكيد على كائديه، ويؤكد - سبحانه - أن الأبتر ليس هو
محمد ، إنما هم شانئوه وكارهوه.
ولقد صدق فيهم وعيد الله. فقد انقطع ذكرهم وانطوى. بينما امتد ذكر
محمد وعلا. ونحن نشهد اليوم مصداق هذا القول الكريم، في صورة باهرة واسعة المدى كما لم يشهده سامعوه الأولون!
إن الإيمان والحق والخير لا يمكن أن يكون أبتر. فهو ممتد الفروع عميق الجذور. وإنما الكفر والباطل والشر هو الأبتر مهما ترعرع وزها وتجبر..
إن مقاييس الله غير مقاييس البشر. ولكن البشر ينخدعون ويغترون فيحسبون مقاييسهم هي التي تقرر حقائق الأمور! وأمامنا هذا المثل الناطق الخالد.. فأين الذين كانوا يقولون عن
محمد - صلى الله عليه وسلم - قولتهم اللئيمة، وينالون بها من قلوب الجماهير، ويحسبون حينئذ أنهم قد قضوا على
محمد وقطعوا عليه الطريق؟ أين هم؟ وأين ذكراهم، وأين آثارهم؟ إلى جوار الكوثر من كل شيء، ذلك الذي أوتيه من كانوا يقولون عنه: الأبتر؟!
إن الدعوة إلى الله والحق والخير لا يمكن أن تكون بتراء ولا أن يكون صاحبها أبتر، وكيف وهي موصولة بالله الحي الباقي الأزلي الخالد؟ إنما يبتر الكفر والباطل والشر ويبتر أهله، مهما بدا في لحظة من اللحظات أنه طويل الأجل ممتد الجذور..
وصدق الله العظيم. وكذب الكائدون الماكرون..
[ ص: 3987 ] (108)
nindex.php?page=treesubj&link=28889سُورَةُ الْكَوْثَرِ مَكِّيَّةٌ
وَآيَاتُهَا ثَلَاثٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
nindex.php?page=treesubj&link=30387_30614_32358_32861_3975_31056_29079nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=2فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=3إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3)
هَذِهِ السُّورَةُ خَالِصَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَسُورَةِ الضُّحَى، وَسُورَةِ الشَّرْحِ. يُسَرِّي عَنْهُ رَبُّهُ فِيهَا، وَيَعِدُهُ بِالْخَيْرِ، وَيُوعِدُ أَعْدَاءَهُ بِالْبَتْرِ، وَيُوَجِّهُهُ إِلَى طَرِيقِ الشُّكْرِ.
وَمِنْ ثَمَّ فَهِيَ تُمَثِّلُ صُورَةً مِنْ حَيَاةِ الدَّعْوَةِ، وَحَيَاةِ الدَّاعِيَةِ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِمَكَّةَ. صُورَةً مِنَ الْكَيْدِ وَالْأَذَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعْوَةِ اللَّهِ الَّتِي يُبَشِّرُ بِهَا وَصُورَةً مِنْ رِعَايَةِ اللَّهِ الْمُبَاشِرَةِ لِعَبْدِهِ وَلِلْقِلَّةِ الْمُؤْمِنَةِ مَعَهُ وَمِنْ تَثْبِيتِ اللَّهِ وَتَطْمِينِهِ وَجَمِيلِ وَعْدِهِ لِنَبِيِّهِ وَمَرْهُوبِ وَعِيدِهِ لِشَانِئِهِ.
كَذَلِكَ تُمَثِّلُ حَقِيقَةَ الْهُدَى وَالْخَيْرِ وَالْإِيمَانِ. وَحَقِيقَةَ الضَّلَالِ وَالشَّرِّ وَالْكُفْرَانِ.. الْأُولَى كَثْرَةٌ وَفَيْضٌ وَامْتِدَادٌ. وَالثَّانِيَةُ قِلَّةٌ وَانْحِسَارٌ وَانْبِتَارٌ. وَإِنْ ظَنَّ الْغَافِلُونَ غَيْرَ هَذَا وَذَاكَ..
وَرَدَ أَنَّ سُفَهَاءَ
قُرَيْشٍ مِمَّنْ كَانُوا يُتَابِعُونَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعَوْتَهُ بِالْكَيْدِ وَالْمَكْرِ وَإِظْهَارِ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ. لِيَصْرِفُوا جَمْهَرَةَ النَّاسِ عَنِ الِاسْتِمَاعِ لِلْحَقِّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، مِنْ أَمْثَالِ
الْعَاصِ ابْنِ وَائِلٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَأَبِي لَهَبِ، وَأَبِي جَهْلٍ، وَغَيْرِهِمْ، كَانُوا يَقُولُونَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّهُ أَبْتَرُ. يُشِيرُونَ بِهَذَا إِلَى مَوْتِ الذُّكُورِ مِنْ أَوْلَادِهِ. وَقَالَ أَحَدُهُمْ: دَعُوهُ فَإِنَّهُ سَيَمُوتُ بِلَا عَقِبٍ وَيَنْتَهِي أَمْرُهُ!
وَكَانَ هَذَا اللَّوْنُ مِنَ الْكَيْدِ اللَّئِيمِ الصَّغِيرِ يَجِدُ لَهُ فِي الْبِيئَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي تَتَكَاثَرُ بِالْأَبْنَاءِ صَدًى وَوَقْعًا. وَتَجِدُ هَذِهِ الْوَخْزَةُ الْهَابِطَةُ مَنْ يَهِشُّ لَهَا مِنْ أَعْدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَانِئِيهِ، وَلَعَلَّهَا أَوْجَعَتْ قَلْبَهُ الشَّرِيفَ وَمَسَّتْهُ بِالْغَمِّ أَيْضًا.
وَمِنْ ثَمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ تَمَسَحُ عَلَى قَلْبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرُّوحِ وَالنَّدَى، وَتُقَرِّرُ حَقِيقَةَ الْخَيْرِ الْبَاقِي الْمُمْتَدِّ الَّذِي اخْتَارَهُ لَهُ رَبُّهُ; وَحَقِيقَةَ الِانْقِطَاعِ وَالْبَتْرِ الْمُقَدَّرِ لِأَعْدَائِهِ.
[ ص: 3988 ] nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ .. وَالْكَوْثَرُ صِيغَةٌ مِنَ الْكَثْرَةِ.. وَهُوَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ. يُشِيرُ إِلَى عَكْسِ الْمَعْنَى الَّذِي أَطْلَقَهُ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءُ.. إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ مَا هُوَ كَثِيرٌ فَائِضٌ غَزِيرٌ. غَيْرُ مَمْنُوعٍ وَلَا مَبْتُورٍ.. فَإِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَتَتَبَّعَ هَذَا الْكَوْثَرَ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ فَهُوَ وَاجِدُهُ حَيْثُمَا نَظَرَ أَوْ تَصَوَّرَ.
هُوَ وَاجِدُهُ فِي النُّبُوَّةِ. فِي هَذَا الِاتِّصَالِ بِالْحَقِّ الْكَبِيرِ، وَالْوُجُودِ الْكَبِيرِ. الْوُجُودِ الَّذِي لَا وُجُودَ غَيْرُهُ وَلَا شَيْءَ فِي الْحَقِيقَةِ سِوَاهُ. وَمَاذَا فَقَدَ مَنْ وَجَدَ اللَّهَ؟
وَهُوَ وَاجِدُهُ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ. وَسُورَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُ كَوْثَرٌ لَا نِهَايَةَ لِكَثْرَتِهِ، وَيَنْبُوعٌ ثَرٌّ لَا نِهَايَةَ لِفَيْضِهِ وَغَزَارَتِهِ!
وَهُوَ وَاجِدُهُ فِي الْمَلَإِ الْأَعْلَى الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي عَلَى مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ فِي الْأَرْضِ، حَيْثُ يَقْتَرِنُ اسْمُهُ بِاسْمِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.
وَهُوَ وَاجِدُهُ فِي سُنَّتِهِ الْمُمْتَدَّةِ عَلَى مَدَارِ الْقُرُونِ، فِي أَرْجَاءِ الْأَرْضِ. وَفِي الْمَلَايِينِ بَعْدَ الْمَلَايِينِ السَّائِرَةِ عَلَى أَثَرِهِ، وَمَلَايِينِ الْمَلَايِينِ مِنَ الْأَلْسِنَةِ وَالشِّفَاهِ الْهَاتِفَةِ بِاسْمِهِ، وَمَلَايِينِ الْمَلَايِينِ مِنَ الْقُلُوبِ الْمُحِبَّةِ لِسِيرَتِهِ وَذِكْرَاهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَهُوَ وَاجِدُهُ فِي الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي فَاضَ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ فِي جَمِيعِ أَجْيَالِهَا بِسَبَبِهِ وَعَنْ طَرِيقِهِ. سَوَاءٌ مِنْ عَرَفُوا هَذَا الْخَيْرَ فَآمَنُوا بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفُوهُ وَلَكِنَّهُ فَاضَ عَلَيْهِمْ فِيمَا فَاضَ!
وَهُوَ وَاجِدُهُ فِي مَظَاهِرَ شَتَّى، مُحَاوَلَةُ إِحْصَائِهَا ضَرْبٌ مِنْ تَقْلِيلِهَا وَتَصْغِيرِهَا!
إِنَّهُ الْكَوْثَرُ، الَّذِي لَا نِهَايَةَ لِفَيْضِهِ، وَلَا إِحْصَاءَ لِعَوَارِفِهِ، وَلَا حَدَّ لِمَدْلُولِهِ. وَمِنْ ثَمَّ تَرَكَهُ النَّصُّ بِلَا تَحْدِيدٍ، يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَكْثُرُ مِنَ الْخَيْرِ وَيَزِيدُ..
وَقَدْ وَرَدَتْ رِوَايَاتٌ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ الْكَوْثَرَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ أُوتِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنَ عَبَّاسٍ أَجَابَ بِأَنَّ هَذَا النَّهْرَ هُوَ مِنْ بَيْنِ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي أُوتِيَهُ الرَّسُولُ. فَهُوَ كَوْثَرٌ مِنَ الْكَوْثَرِ! وَهَذَا هُوَ الْأَنْسَبُ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَفِي هَذِهِ الْمُلَابَسَاتِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=2فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ .
بَعْدَ تَوْكِيدِ هَذَا الْعَطَاءِ الْكَثِيرِ الْفَائِضِ الْكَثْرَةِ، عَلَى غَيْرِ مَا أَرْجَفَ الْمُرْجِفُونَ وَقَالَ الْكَائِدُونَ، وَجَّهَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ بِحَقِّهَا الْأَوَّلِ. حَقِّ الْإِخْلَاصِ وَالتَّجَرُّدِ لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ وَفِي الِاتِّجَاهِ.. فِي الصَّلَاةِ وَفِي ذَبْحِ النُّسُكِ خَالِصًا لِلَّهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=2فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ .. غَيْرَ مُلْقٍ بَالًا إِلَى شِرْكِ الْمُشْرِكِينَ، وَغَيْرَ مُشَارِكٍ لَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ أَوْ فِي ذِكْرِ غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ.
وَفِي تَكْرَارِ الْإِشَارَةِ إِلَى ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ وَحْدَهُ عَلَى الذَّبَائِحِ، وَتَحْرِيمِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَمَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.. مَا يَشِي بِعِنَايَةِ هَذَا الدِّينِ بِتَخْلِيصِ الْحَيَاةِ كُلِّهَا مِنْ عَقَابِيلِ الشِّرْكِ وَآثَارِهِ. لَا تَخْلِيصِ التَّصَوُّرِ وَالضَّمِيرِ وَحْدَهُمَا. فَهُوَ دِينُ الْوَحْدَةِ بِكُلِّ مَعْنًى مِنْ مَعَانِيهَا، وَكُلِّ ظِلٍّ مِنْ ظِلَالِهَا; كَمَا أَنَّهُ دِينُ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الْمُجَرَّدِ الْوَاضِحِ. وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ يَتَتَبَّعُ الشِّرْكَ فِي كُلِّ مَظَاهِرِهِ، وَفِي كُلِّ مَكَامِنِهِ; وَيُطَارِدُهُ مُطَارَدَةً عَنِيفَةً دَقِيقَةً سَوَاءٌ اسْتَكَنَّ فِي الضَّمِيرِ، أَمْ ظَهَرَ فِي الْعِبَادَةِ، أَمْ تَسَرَّبَ إِلَى تَقَالِيدِ الْحَيَاةِ فَالْحَيَاةُ وَحْدَةٌ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَالْإِسْلَامُ يَأْخُذُهَا كُلًّا لَا يَتَجَزَّأُ، وَيُخَلِّصُهَا مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ جَمِيعًا، وَيَتَّجِهُ بِهَا إِلَى اللَّهِ خَالِصَةً وَاضِحَةً
[ ص: 3989 ] نَاصِعَةً، كَمَا نَرَى فِي مَسْأَلَةِ الذَّبَائِحِ وَفِي غَيْرِهَا مِنْ شَعَائِرِ الْعِبَادَةِ أَوْ تَقَالِيدِ الْحَيَاةِ..
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=3إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ..
فِي الْآيَةِ الْأُولَى قَرَّرَ أَنَّهُ لَيْسَ أَبْتَرَ بَلْ هُوَ صَاحِبُ الْكَوْثَرِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ يَرُدُّ الْكَيْدَ عَلَى كَائِدِيهِ، وَيُؤَكِّدُ - سُبْحَانَهُ - أَنَّ الْأَبْتَرَ لَيْسَ هُوَ
مُحَمَّدٌ ، إِنَّمَا هُمْ شَانِئُوهُ وَكَارِهُوهُ.
وَلَقَدْ صَدَقَ فِيهِمْ وَعِيدُ اللَّهِ. فَقَدِ انْقَطَعَ ذِكْرُهُمْ وَانْطَوَى. بَيْنَمَا امْتَدَّ ذِكْرُ
مُحَمَّدٍ وَعَلَا. وَنَحْنُ نَشْهَدُ الْيَوْمَ مِصْدَاقَ هَذَا الْقَوْلِ الْكَرِيمِ، فِي صُورَةٍ بَاهِرَةٍ وَاسِعَةِ الْمَدَى كَمَا لَمْ يَشْهَدْهُ سَامِعُوهُ الْأَوَّلُونَ!
إِنَّ الْإِيمَانَ وَالْحَقَّ وَالْخَيْرَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَبْتَرَ. فَهُوَ مُمْتَدُّ الْفُرُوعِ عَمِيقُ الْجُذُورِ. وَإِنَّمَا الْكُفْرُ وَالْبَاطِلُ وَالشَّرُّ هُوَ الْأَبْتَرُ مَهْمَا تَرَعْرَعَ وَزَهَا وَتَجَبَّرَ..
إِنَّ مَقَايِيسَ اللَّهِ غَيْرُ مَقَايِيسِ الْبَشَرِ. وَلَكِنَّ الْبَشَرَ يَنْخَدِعُونَ وَيَغْتَرُّونَ فَيَحْسَبُونَ مَقَايِيسَهُمْ هِيَ الَّتِي تُقَرِّرُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ! وَأَمَامَنَا هَذَا الْمَثَلُ النَّاطِقُ الْخَالِدُ.. فَأَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ عَنْ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَتَهُمُ اللَّئِيمَةَ، وَيَنَالُونَ بِهَا مِنْ قُلُوبِ الْجَمَاهِيرِ، وَيَحْسَبُونَ حِينَئِذٍ أَنَّهُمْ قَدْ قَضَوْا عَلَى
مُحَمَّدٍ وَقَطَعُوا عَلَيْهِ الطَّرِيقَ؟ أَيْنَ هُمْ؟ وَأَيْنَ ذِكْرَاهُمْ، وَأَيْنَ آثَارُهُمْ؟ إِلَى جِوَارِ الْكَوْثَرِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، ذَلِكَ الَّذِي أُوتِيَهُ مَنْ كَانُوا يَقُولُونَ عَنْهُ: الْأَبْتَرُ؟!
إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ وَالْحَقِّ وَالْخَيْرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بَتْرَاءَ وَلَا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا أَبْتَرَ، وَكَيْفَ وَهِيَ مَوْصُولَةٌ بِاللَّهِ الْحَيِّ الْبَاقِي الْأَزَلِيِّ الْخَالِدِ؟ إِنَّمَا يُبْتَرُ الْكُفْرُ وَالْبَاطِلُ وَالشَّرُّ وَيُبْتَرُ أَهْلُهُ، مَهْمَا بَدَا فِي لَحْظَةٍ مِنَ اللَّحَظَاتِ أَنَّهُ طَوِيلُ الْأَجَلِ مُمْتَدُّ الْجُذُورِ..
وَصَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ. وَكَذَبَ الْكَائِدُونَ الْمَاكِرُونَ..