وتجيء الرسالة الأخيرة لتقرر وجه الحق في هذه القضية ; ولتقول كلمة الفصل ; ويجيء الرسول الأخير ليبين لأهل الكتاب حقيقة العقيدة الصحيحة   : 
. . لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم   .. لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة   . . 
(كما سيجيء في السورة ) . 
ويثير فيهم منطق العقل والفطرة والواقع : 
قل: فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم، وأمه، ومن في الأرض جميعا؟   . 
فيفرق تفرقة مطلقة بين ذات الله سبحانه وطبيعته ومشيئته وسلطانه ، وبين ذات عيسى   - عليه السلام - وذات أمه ، وكل ذات أخرى ، في نصاعة قاطعة حاسمة . فذات الله - سبحانه - واحدة . ومشيئته طليقة ، وسلطانه متفرد ، ولا يملك أحد شيئا في رد مشيئته أو دفع سلطانه إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم  وأمه ومن في الأرض جميعا . . 
وهو - سبحانه - مالك كل شيء ، وخالق كل شيء ، والخالق غير المخلوق . وكل شيء مخلوق : 
ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما، يخلق ما يشاء، والله على كل شيء قدير   . . 
وكذلك تتجلى نصاعة العقيدة الإسلامية ، ووضوحها وبساطتها . . وتزيد جلاء أمام ذلك الركام من الانحرافات والتصورات والأساطير والوثنيات المتلبسة بعقائد فريق من أهل الكتاب وتبرز الخاصية الأولى للعقيدة الإسلامية في تقرير حقيقة الألوهية ، وحقيقة العبودية ، والفصل التام الحاسم بين الحقيقتين بلا غبش ولا شبهة ولا غموض . . 
واليهود والنصارى يقولون : إنهم أبناء الله وأحباؤه : 
وقالت اليهود والنصارى: نحن أبناء الله وأحباؤه   . . 
فزعموا لله - سبحانه - أبوة ، على تصور من التصورات ، إلا تكن أبوة الجسد فهي أبوة الروح . وهي أيا كانت تلقي ظلا على عقيدة التوحيد ; وعلى الفصل الحاسم بين الألوهية والعبودية . هذا الفصل الذي لا يستقيم التصور ، ولا تستقيم الحياة ، إلا بتقريره . كي تتوحد الجهة التي يتوجه إليها العباد كلهم بالعبودية ; وتتوحد الجهة التي تشرع للناس ; وتضع لهم القيم والموازين والشرائع والقوانين ، والنظم والأوضاع ، دون أن تتداخل الاختصاصات ، بتداخل الصفات والخصائص ، وتداخل الألوهية والعبودية . . فالمسألة ليست مسألة انحراف عقيدي فحسب ، إنما هي كذلك فساد الحياة كلها بناء على هذا الانحراف ! 
واليهود والنصارى بادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، كانوا يقولون - تبعا لهذا - إن الله لن يعذبهم بذنوبهم ! وإنهم لن يدخلوا النار - إذا دخلوا - إلا أياما معدودات . ومعنى هذا أن عدل الله لا يجري مجراه ! وأنه  [ ص: 867 ]  - سبحانه - يحابي فريقا من عباده ، فيدعهم يفسدون في الأرض ثم لا يعذبهم عذاب المفسدين الآخرين ! فأي فساد في الحياة يمكن أن ينشأ عن مثل هذا التصور ؟ وأي اضطراب في الحياة يمكن أن ينشئه مثل هذا الانحراف ؟ 
وهنا يضرب الإسلام ضربته الحاسمة على هذا الفساد في التصور ، وكل ما يمكن أن ينشئه من الفساد في الحياة ، ويقرر عدل الله الذي لا يحابي ; كما يقرر بطلان ذلك الادعاء : 
قل: فلم يعذبكم بذنوبكم؟ بل أنتم بشر ممن خلق، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء   . . 
بذلك يقرر الحقيقة الحاسمة في عقيدة الإيمان . يقرر بطلان ادعاء البنوة ; فهم بشر ممن خلق . ويقرر عدل الله وقيام المغفرة والعذاب عنده على أصلها الواحد . على مشيئته التي تقرر الغفران بأسبابه وتقرر العذاب بأسبابه . لا بسبب بنوة أو صلة شخصية ! 
ثم يكرر أن الله هو المالك لكل شيء ، وأن مصير كل شيء إليه : 
ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير   . . 
والمالك غير المملوك . تتفرد ذاته - سبحانه - وتتفرد مشيئته ، ويصير إليه الجميع . . 
وينهي هذا البيان ، بتكرار النداء الموجه إلى أهل الكتاب ، يقطع به حجتهم ومعذرتهم ويقفهم أمام "المصير " وجها لوجه ، بلا غبش ولا عذر ، ولا غموض : 
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل.. أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير.. فقد جاءكم بشير ونذير. والله على كل شيء قدير   . . 
وبهذه المواجهة الحاسمة ، لا تعود لأهل الكتاب جميعا حجة من الحجج . . لا تعود لهم حجة في أن هذا الرسول الأمي لم يرسل إليهم . فالله - سبحانه - يقول : 
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا   . . 
ولا تعود لهم حجة في أنهم لم ينبهوا ولم يبشروا ولم ينذروا في مدى طويل ; يقع فيه النسيان ويقع فيه الانحراف . . فقد جاءهم - الآن - بشير ونذير . . 
ثم يذكرهم أن الله لا يعجزه شيء . . لا يعجزه أن يرسل رسولا من الأميين . ولا يعجزه كذلك أن يأخذ أهل الكتاب بما يكسبون : 
والله على كل شيء قدير   . . 
وتنتهي هذه الجولة مع أهل الكتاب ; فتكشف انحرافاتهم عن دين الله الصحيح الذي جاءتهم به رسلهم من قبل . وتقرر حقيقة الاعتقاد الذي يرضاه الله من المؤمنين . وتبطل حجتهم في موقفهم من النبي الأمي ; وتأخذ عليهم الطريق في الاعتذار يوم الدين . . 
وبهذا كله تدعوهم إلى الهدى من ناحية ; وتضعف تأثير كيدهم في الصف المسلم من ناحية أخرى . وتنير الطريق للجماعة المسلمة ولطلاب الهدى جميعا . . إلى الصراط المستقيم . . 
				
						
						
