الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ويصور السياق القرآني تلك الحالة التي كانت واقعة ; والتي ينزل القرآن من أجلها بهذا التحذير :

                                                                                                                                                                                                                                      فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم، يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة . .

                                                                                                                                                                                                                                      روى ابن جرير ، قال : حدثنا أبو كريب ، حدثنا إدريس ، قال : سمعت أبي ، عن عطية بن سعد . قال : جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله . إن لي موالي من يهود كثير عددهم ; وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولى الله ورسوله . فقال عبد الله بن أبي (رأس النفاق ) : إني رجل أخاف الدوائر . لا أبرأ من ولاية موالي . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن أبي : "يا أبا الحباب . ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة ابن الصامت فهو لك دونه " ! قال : قد قبلت ! فأنزل الله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء . . . [ ص: 913 ] وقال ابن جرير . "حدثنا هناد ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري قال : لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من اليهود : أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر . فقال مالك بن الصيف : أغركم أن أصبتم رهطا من قريش ، لا علم لهم بالقتال ؟ أما لو أصررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا . فقال عبادة بن الصامت : يا رسول الله إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم ، كثيرا سلاحهم ، شديدة شوكتهم . وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، ولا مولى لي إلا الله ورسوله . فقال عبد الله بن أبي : لكني لا أبرأ من ولاية يهود . إني رجل لا بد لي منهم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت ؟ فهو لك دونه ! " فقال : إذن أقبل . .

                                                                                                                                                                                                                                      قال محمد بن إسحاق : فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنو قينقاع . فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة . قال : فحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلوا على حكمه . فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول - حين أمكنه الله منهم - فقال : يا محمد أحسن في موالي - وكانوا حلفاء الخزرج - قال : فأبطأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فقال : يا محمد أحسن في موالي . قال : فأعرض عنه . قال : فأدخل يده في جيب درع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أرسلني " وغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى رأوا لوجهه ظللا . ثم قال : "ويحك ! أرسلني " . قال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي . أربعمائة حاسر ، وثلاثمائة دارع ، قد منعوني من الأحمر والأسود ، تحصدهم في غداة واحدة ؟ إني امرؤ أخشى الدوائر . قال . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "هم لك "
                                                                                                                                                                                                                                      . .

                                                                                                                                                                                                                                      قال محمد بن إسحاق : فحدثني أبي إسحاق بن يسار ، عن عبادة ، عن الوليد بن عبادة بن الصامت ، قال : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم ; ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أحد بني عوف بن الخزرج . له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي فجعلهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم ، وقال : يا رسول الله أبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم ، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين ، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم . ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآية في المائدة : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض إلى قوله: ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون . .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زيادة ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عودة ، عن أسامة بن زيد ، قال : دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن أبي نعوده ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - "قد كنت أنهاك عن حب يهود " فقال عبد الله : فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات . . (وأخرجه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق ) .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذه الأخبار في مجموعها تشير إلى تلك الحالة التي كانت واقعة في المجتمع المسلم ; والمتخلفة عن الأوضاع التي كانت قائمة في المدينة قبل الإسلام ; وكذلك عن التصورات التي لم تكن قد حسمت في قضية العلاقات التي يمكن أن تقوم بين الجماعة المسلمة واليهود والتي لا يمكن أن تقوم . . غير أن الذي يلفت النظر أنها كلها تتحدث عن اليهود ، ولم يجئ ذكر في الوقائع للنصارى . . ولكن النص يجمل اليهود والنصارى . . ذلك أنه [ ص: 914 ] بصدد إقامة تصور دائم وعلاقة دائمة وأوضاع دائمة بين الجماعة المسلمة وسائر الجماعات الأخرى ، سواء من أهل الكتاب أو من المشركين (كما سيجيء في سياق هذا الدرس ) . . ومع اختلاف مواقف اليهود من المسلمين عن مواقف النصارى في جملتها في العهد النبوي ، ومع إشارة القرآن الكريم في موضع آخر من السورة إلى هذا الاختلاف في قوله تعالى : لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى.. إلخ . . مع هذا الاختلاف الذي كان يومذاك ، فإن النص هنا يسوي بين اليهود والنصارى - كما يسوي النص القادم بينهم جميعا وبين الكفار - فيما يختص بقضية المحالفة والولاء . ذلك أن هذه القضية ترتكز على قاعدة أخرى ثابتة . هي : أن ليس للمسلم ولاء ولا حلف إلا مع المسلم ; وليس للمسلم ولاء إلا لله ولرسوله وللجماعة المسلمة . . ويستوي بعد ذلك كل الفرق في هذا الأمر . . مهما اختلفت مواقفهم من المسلمين في بعض الظروف . .

                                                                                                                                                                                                                                      على أن الله - سبحانه - وهو يضع للجماعة المسلمة هذه القاعدة العامة الحازمة الصارمة ، كان علمه يتناول الزمان كله ، لا تلك الفترة الخاصة من حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وملابساتها الموقوتة . . وقد أظهر التاريخ الواقع فيما بعد أن عداء النصارى لهذا الدين وللجماعة المسلمة في معظم بقاع الأرض لم يكن أقل من عداء اليهود . . وإذا نحن استثنينا موقف نصارى العرب ونصارى مصر في حسن استقبال الإسلام ، فإننا نجد الرقعة النصرانية في الغرب ، قد حملت للإسلام في تاريخها كله منذ أن احتكت به من العداوة والضغن ، وشنت عليه من الحرب والكيد ، ما لا يفترق عن حرب اليهود وكيدهم في أي زمان ! حتى الحبشة التي أحسن عاهلها استقبال المهاجرين المسلمين واستقبال الإسلام ، عادت فإذا هي أشد حربا على الإسلام والمسلمين من كل أحد ; لا يجاريها في هذا إلا اليهود . .

                                                                                                                                                                                                                                      وكان الله - سبحانه - يعلم الأمر كله . فوضع للمسلم هذه القاعدة العامة . بغض النظر عن واقع الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها وملابساتها الموقوتة ! وبغض النظر عما يقع مثلها في بعض الأحيان هنا وهناك إلى آخر الزمان .

                                                                                                                                                                                                                                      وما يزال الإسلام والذين يتصفون به - ولو أنهم ليسوا من الإسلام في شيء - يلقون من عنت الحرب المشبوبة عليهم وعلى عقيدتهم من اليهود والنصارى في كل مكان على سطح الأرض ، ما يصدق قول الله تعالى :

                                                                                                                                                                                                                                      بعضهم أولياء بعض . . وما يحتم أن يتدرع المسلمون الواعون بنصيحة ربهم لهم . بل بأمره الجازم ، ونهيه القاطع ; وقضائه الحاسم في المفاصلة الكاملة بين أولياء الله ورسوله ، وكل معسكر آخر لا يرفع راية الله ورسوله . .

                                                                                                                                                                                                                                      إن الإسلام يكلف المسلم أن يقيم علاقاته بالناس جميعا على أساس العقيدة . فالولاء والعداء لا يكونان في تصور المسلم وفي حركته على السواء إلا في العقيدة . . ومن ثم لا يمكن أن يقوم الولاء - وهو التناصر - بين المسلم وغير المسلم ; إذ أنهما لا يمكن أن يتناصرا في مجال العقيدة . . ولا حتى أمام الإلحاد مثلا - كما يتصور بعض السذج منا وبعض من لا يقرؤون القرآن ! - وكيف يتناصران وليس بينهما أساس مشترك يتناصران عليه ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      إن بعض من لا يقرؤون القرآن ، ولا يعرفون حقيقة الإسلام ; وبعض المخدوعين أيضا . . يتصورون أن الدين كله دين ! كما أن الإلحاد كله إلحاد ! وأنه يمكن إذن أن يقف "التدين " بجملته في وجه الإلحاد . لأن الإلحاد ينكر الدين كله ، ويحارب التدين على الإطلاق . .

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن الأمر ليس كذلك في التصور الإسلامي ; ولا في حس المسلم الذي يتذوق الإسلام . ولا يتذوق [ ص: 915 ] الإسلام إلا من يأخذه عقيدة ، وحركة بهذه العقيدة ، لإقامة النظام الإسلامي .

                                                                                                                                                                                                                                      إن الأمر في التصور الإسلامي وفي حس المسلم واضح محدد . . الدين هو الإسلام . . وليس هناك دين غيره يعترف به الإسلام . . لأن الله - سبحانه - يقول هذا . يقول : إن الدين عند الله الإسلام .. ويقول:

                                                                                                                                                                                                                                      ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه .. وبعد رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يعد هناك دين يرضاه الله ويقبله من أحد إلا هذا "الإسلام " . . في صورته التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - وما كان يقبل قبل بعثة محمد من النصارى لم يعد الآن يقبل . كما أن ما كان يقبل من اليهود قبل بعثة عيسى عليه السلام ، لم يعد يقبل منهم بعد بعثته . .

                                                                                                                                                                                                                                      ووجود يهود ونصارى - من أهل الكتاب - بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ليس معناه أن الله يقبل منهم ما هم عليه ; أو يعترف لهم بأنهم على دين إلهي . . لقد كان ذلك قبل بعثة الرسول الأخير . . أما بعد بعثته فلا دين - في التصور الإسلامي وفي حس المسلم - إلا الإسلام . . وهذا ما ينص عليه القرآن نصا غير قابل للتأويل . .

                                                                                                                                                                                                                                      إن الإسلام لا يكرههم على ترك معتقداتهم واعتناق الإسلام . . لأنه "لا إكراه في الدين " ولكن هذا ليس معناه أنه يعترف بما هم عليه "دينا " ويراهم على دين " . .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم فليس هناك جبهة تدين يقف معها الإسلام في وجه الإلحاد ! هناك "دين " هو الإسلام . . وهناك "لا دين " هو غير الإسلام . . ثم يكون هذا اللادين . . عقيدة أصلها سماوي ولكنها محرفة ، أو عقيدة أصلها وثني باقية على وثنيتها . أو إلحادا ينكر الأديان . . تختلف فيما بينها كلها . ولكنها تختلف كلها مع الإسلام . ولا حلف بينها وبين الإسلام ولا ولاء . . .

                                                                                                                                                                                                                                      والمسلم يتعامل مع أهل الكتاب هؤلاء ; وهو مطالب بإحسان معاملتهم - كما سبق - ما لم يؤذوه في الدين ; ويباح له أن يتزوج المحصنات منهن - على خلاف فقهي فيمن تعتقد بألوهية المسيح أو بنوته ، وفيمن تعتقد التثليث أهي كتابية تحل أم مشركة تحرم - وحتى مع الأخذ بمبدأ تحليل النكاح عامة . . فإن حسن المعاملة وجواز النكاح ، ليس معناها الولاء والتناصر في الدين ; وليس معناها اعتراف المسلم بأن دين أهل الكتاب بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - هو دين يقبله الله ; ويستطيع الإسلام أن يقف معه في جبهة واحدة لمقاومة الإلحاد !

                                                                                                                                                                                                                                      إن الإسلام قد جاء ليصحح اعتقادات أهل الكتاب ; كما جاء ليصحح اعتقادات المشركين والوثنيين سواء . ودعاهم إلى الإسلام جميعا ، لأن هذا هو "الدين " الذي لا يقبل الله غيره من الناس جميعا . ولما فهم اليهود أنهم غير مدعوين إلى الإسلام ، وكبر عليهم أن يدعوا إليه ، جابههم القرآن الكريم بأن الله يدعوهم إلى الإسلام ، فإن تولوا عنه فهم كافرون !

                                                                                                                                                                                                                                      والمسلم مكلف أن يدعو أهل الكتاب إلى الإسلام ، كما يدعو الملحدين والوثنيين سواء . وهو غير مأذون في أن يكره أحدا من هؤلاء ولا هؤلاء على الإسلام . لأن العقائد لا تنشأ في الضمائر بالإكراه . فالإكراه في الدين فوق أنه منهي عنه ، هو كذلك لا ثمرة له .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يستقيم أن يعترف المسلم بأن ما عليه أهل الكتاب بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - هو دين يقبله الله . . ثم يدعوهم مع ذلك إلى الإسلام ! . . إنه لا يكون مكلفا بدعوتهم إلى الإسلام إلا على أساس واحد ; هو أنه لا يعترف بأن ما هم عليه دين . وأنه يدعوهم إلى الدين . [ ص: 916 ] وإذا تقررت هذه البديهية ، فإنه لا يكون منطقيا مع عقيدته إذا دخل في ولاء أو تناصر للتمكين للدين في الأرض ، مع من لا يدين بالإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                      إن هذه القضية في الإسلام قضية اعتقادية إيمانية . كما أنها قضية تنظيمية حركية !

                                                                                                                                                                                                                                      من ناحية أنها قضية إيمانية اعتقادية نحسب أن الأمر قد صار واضحا بهذا البيان الذي أسلفناه ، وبالرجوع إلى النصوص القرآنية القاطعة بعدم قيام ولاء بين المسلمين وأهل الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ناحية أنها قضية تنظيمية حركية الأمر واضح كذلك . . فإذا كان سعي المؤمن كله ينبغي أن يتجه إلى إقامة منهج الله في الحياة ; وهو المنهج الذي ينص عليه الإسلام كما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - بكل تفصيلات وجوانب هذا المنهج ، وهي تشمل كل نشاط الإنسان في الحياة . . فكيف يمكن إذن أن يتعاون المسلم في هذا السعي مع من لا يؤمن بالإسلام دينا ومنهجا ونظاما وشريعة ; ومن يتجه في سعيه إلى أهداف أخرى - إن لم تكن معادية للإسلام وأهدافه فهي على الأقل ليست أهداف الإسلام - إذ الإسلام لا يعترف بهدف ولا عمل لا يقوم على أساس العقيدة مهما بدا في ذاته صالحا الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف . .

                                                                                                                                                                                                                                      والإسلام يكلف المسلم أن يخلص سعيه كله للإسلام . . ولا يتصور إمكان انفصال أية جزئية في السعي اليومي في حياة المسلم عن الإسلام . . لا يتصور إمكان هذا إلا من لا يعرف طبيعة الإسلام وطبيعة المنهج الإسلامي . . ولا يتصور أن هناك جوانب في الحياة خارجة عن هذا المنهج يمكن التعاون فيها مع من يعادي الإسلام ، أو لا يرضى من المسلم إلا أن يترك إسلامه ، كما نص الله في كتابه على ما يطلبه اليهود والنصارى من المسلم ليرضوا عنه ! . . إن هناك استحالة اعتقادية كما أن هناك استحالة عملية على السواء . .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كان اعتذار عبد الله بن أبي بن سلول ، وهو من الذين في قلوبهم مرض ، عن مسارعته واجتهاده في الولاء ليهود ، والاستمساك بحلفه معها ، هي قوله : إنني رجل أخشى الدوائر ! إني أخشى أن تدور علينا الدوائر وأن تصيبنا الشدة ، وأن تنزل بنا الضائقة . . وهذه الحجة هي علامة مرض القلب وضعف الإيمان . . فالولي هو الله ; والناصر هو الله ; والاستنصار بغيره ضلالة ، كما أنه عبث لا ثمرة له . . ولكن حجة ابن سلول ، هي حجة كل ابن سلول على مدار الزمان ; وتصوره هو تصور كل منافق مريض القلب ، لا يدرك حقيقة الإيمان . . وكذلك نفر قلب عبادة بن الصامت من ولاء يهود بعد ما بدا منهم ما بدا . لأنه قلب مؤمن فخلع ولاء اليهود وقذف به ، حيث تلقاه وضم عليه صدره وعض عليه بالنواجذ عبد الله بن أبي بن سلول ! إنهما نهجان مختلفان ، ناشئان عن تصورين مختلفين ، وعن شعورين متباينين ، ومثل هذا الاختلاف قائم على مدار الزمان بين قلب مؤمن وقلب لا يعرف الإيمان !

                                                                                                                                                                                                                                      ويهدد القرآن المستنصرين بأعداء دينهم ، المتألبين عليهم ، المنافقين الذين لا يخلصون لله اعتقادهم ولا ولاءهم ولا اعتمادهم . . يهددهم برجاء الفتح أو أمر الله الذي يفصل في الموقف ; أو يكشف المستور من النفاق .

                                                                                                                                                                                                                                      فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده، فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين .

                                                                                                                                                                                                                                      وعندئذ - عند الفتح - سواء كان هو فتح مكة أو كان الفتح بمعنى الفصل أو عند مجيء أمر الله يندم أولئك الذين في قلوبهم مرض ، على المسارعة والاجتهاد في ولاء اليهود والنصارى وعلى النفاق الذي انكشف أمره ، وعندئذ يعجب الذين آمنوا من حال المنافقين ، ويستنكرون ما كانوا فيه من النفاق وما صاروا إليه من الخسران !

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 917 ] ويقول الذين آمنوا: أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم؟ حبطت أعمالهم، فأصبحوا خاسرين! . .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد جاء الله بالفتح يوما ، وتكشفت نوايا ، وحبطت أعمال ، وخسرت فئات . ونحن على وعد من الله قائم بأن يجيء الفتح ، كلما استمسكنا بعروة الله وحده ; وكلما أخلصنا الولاء لله وحده . وكلما وعينا منهج الله ، وأقمنا عليه تصوراتنا وأوضاعنا . وكلما تحركنا في المعركة على هدى الله وتوجيهه . فلم نتخذ لنا وليا إلا الله ورسوله والذين آمنوا . .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية