الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم نعود إلى سياق القصة القرآني.. حيث يرفع الستار عن مشهد رابع جديد.. إنه مشهد التآمر والتناجي بالإثم والتحريض. بعد الهزيمة والخذلان في معركة الإيمان والطغيان. مشهد الملإ من قوم فرعون يكبر عليهم أن يذهب موسى ناجيا والذين آمنوا معه - وما آمن له إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم. كما جاء في موضع آخر من القرآن - فإذا الملأ يتناجون بالشر والإثم، وهم يهيجون فرعون على موسى ومن معه ويخوفونه عاقبة التهاون في أمرهم من ضياع الهيبة والسلطان باستشراء العقيدة الجديدة، في ربوبية الله للعالمين. فإذا هو هائج مائج، مهدد متوعد، مستعز بالقوة الغاشمة التي بين يديه، وبالسلطان المادي الذي يرتكن إليه! وقال الملأ من قوم فرعون: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك؟ قال: سنقتل أبناءهم، ونستحيي نساءهم، وإنا فوقهم قاهرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن فرعون لم يكن يدعي الألوهية بمعنى أنه هو خالق هذا الكون ومدبره أو أن له سلطانا في عالم الأسباب الكونية. إنما كان يدعي الألوهية على شعبه المستذل! بمعنى أنه هو حاكم هذا الشعب بشريعته وقانونه وأنه بإرادته وأمره تمضي الشؤون وتقضى الأمور. وهذا ما يدعيه كل حاكم يحكم بشريعته وقانونه، وتمضي الشؤون وتقضى الأمور بإرادته وأمره - وهذه هي الربوبية بمعناها اللغوي والواقعي - كذلك لم يكن الناس فيمصر يعبدون فرعون بمعنى تقديم الشعائر التعبدية له - فقد كانت لهم آلهتهم وكان لفرعون آلهته التي يعبدها كذلك، كما هو ظاهر من قول الملإ له: " ويذرك وآلهتك " وكما يثبت المعروف من تاريخ مصر الفرعونية. إنما هم كانوا يعبدونه بمعنى أنهم خاضعون لما يريده بهم، لا يعصون له أمرا، ولا ينقضون له شرعا.. وهذا هو المعنى اللغوي والواقعي والاصطلاحي للعبادة.. فأيما ناس تلقوا التشريع من بشر وأطاعوه فقد عبدوه، وذلك هو تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى عن اليهود والنصارى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ... الآية " عندما سمعها منه عدي بن حاتم - وكان نصرانيا جاء ليسلم - فقال:

                                                                                                                                                                                                                                      يا رسول الله ما عبدوهم. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم "
                                                                                                                                                                                                                                      ... (أخرجه الترمذي) . [ ص: 1354 ] أما قول فرعون لقومه: ما علمت لكم من إله غيري .. فيفسره قوله الذي حكاه القرآن عنه: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي، أفلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين. ولا يكاد يبين؟ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين؟ .. وظاهر أنه كان يوازن بين ما هو فيه من ملك ومن أسورة الذهب التي يحلى بها الملوك، وبين ما فيه موسى من تجرد من السلطان والزينة!.

                                                                                                                                                                                                                                      وما قصد بقوله: ما علمت لكم من إله غيري إلا أنه هو الحاكم المسيطر الذي يسيرهم كما يشاء والذي يتبعون كلمته بلا معارض! والحاكمية على هذا النحو ألوهية كما يفيد المدلول اللغوي! وهي في الواقع ألوهية. فالإله هو الذي يشرع للناس وينفذ حكمه فيهم! سواء قالها أم لم يقلها ! وعلى ضوء هذا البيان نملك أن نفهم مدلول قول ملإ فرعون:

                                                                                                                                                                                                                                      أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، ويذرك وآلهتك؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      فالإفساد في الأرض - من وجهة نظرهم - هو الدعوة إلى ربوبية الله وحده حيث يترتب عليها تلقائيا بطلان شرعية حكم فرعون ونظامه كله. إذ إن هذا النظام قائم على أساس حاكمية فرعون بأمره - أو بتعبير مرادف على أساس ربوبية فرعون لقومه - وإذن فهو - بزعمهم - الإفساد في الأرض، بقلب نظام الحكم، وتغيير الأوضاع القائمة على ربوبية البشر للبشر، وإنشاء وضع آخر مخالف تماما لهذه الأوضاع، الربوبية فيه لله لا للبشر. ومن ثم قرنوا الإفساد في الأرض بترك موسى وقومه لفرعون ولآلهته التي يعبدها هو وقومه..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كان فرعون إنما يستمد هيبته وسلطانه من الديانة التي تعبد فيها هذه الآلهة.. بزعم أنه الابن الحبيب لهذه الآلهة! وهي بنوة ليست حسية! فلقد كان الناس يعرفون جيدا أن الفرعون مولود من أب وأم بشريين.

                                                                                                                                                                                                                                      إنما كانت بنوة رمزية يستمد منها سلطانه وحاكميته. فإذا عبد موسى وقومه رب العالمين، وتركوا هذه الآلهة التي يعبدها المصريون، فمعنى هذا هو تحطيم الأساس الذي يستمد منه فرعون سلطانه الروحي على شعبه المستخف الذي إنما يطيعه لأنه هو كذلك فاسق عن دين الله الصحيح.. وذلك كما يقول الله سبحانه: فاستخف قومه فأطاعوه.. إنهم كانوا قوما فاسقين فهذا هو التفسير الصحيح للتاريخ.. وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعوه، لو لم يكونوا فاسقين عن دين الله.. فالمؤمن بالله لا يستخفه الطاغوت، ولا يمكن أن يطيع له أمرا، وهو يعلم أن هذا الأمر ليس من شرع الله.. ومن هنا كان يجيء التهديد لنظام حكم فرعون كله بدعوة موسى - عليه السلام - إلى " رب العالمين " وإيمان السحرة بهذا الدين، وإيمان طائفة من قوم موسى كذلك وعبادتهم لرب العالمين.. ومن هنا يجيء التهديد لكل وضع يقوم على ربوبية البشر للبشر من الدعوة إلى ربوبية الله وحده.. أو من شهادة أن لا إله إلا الله.. حين تؤخذ بمدلولها الجدي الذي كان الناس يدخلون به في الإسلام. لا بمدلولها الباهت الهزيل الذي صار لها في هذه الأيام! ومن هنا كذلك استثارت هذه الكلمات فرعون، وأشعرته بالخطر الحقيقي على نظامه كله فانطلق يعلن عزمه الوحشي البشع:

                                                                                                                                                                                                                                      قال: سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون :

                                                                                                                                                                                                                                      وكان بنو إسرائيل قد عانوا من قبل - في إبان مولد موسى - مثل هذا التنكيل الوحشي من فرعون وملئه كما يقول الله تعالى في سورة القصص: إن فرعون علا في الأرض، وجعل أهلها شيعا، يستضعف طائفة [ ص: 1355 ] منهم، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه الطغيان في كل مكان وفي كل زمان. لا فرق بين وسائله اليوم ووسائله قبل عشرات القرون والأعوام..!

                                                                                                                                                                                                                                      ويدع السياق فرعون وملأه يتآمرون، ويسدل الستار على مشهد التآمر والوعيد، ليرفعه على مشهد خامس من مشاهد القصة ندرك منه أن فرعون قد مضى ينفذ الوعيد.. إنه مشهد النبي موسى - عليه السلام - مع قومه، يحدثهم بقلب النبي ولغته، ومعرفته بحقيقة ربه وبسنته وقدره، فيوصيهم باحتمال الفتنة، والصبر على البلية، والاستعانة بالله عليها. ويعرفهم بحقيقة الواقع الكوني. فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده. والعاقبة لمن يتقون الله ولا يخشون أحدا سواه.. فإذا شكوا إليه أن هذا العذاب الذي يحل بهم قد حل بهم من قبل أن يأتيهم، وهو يحل بهم كذلك بعد ما جاءهم، حيث لا تبدو له نهاية، ولا يلوح له آخر! أعلن لهم رجاءه في ربه أن يهلك عدوهم، ويستخلفهم في الأرض ليبتليهم في أمانة الخلافة:

                                                                                                                                                                                                                                      قال موسى لقومه: استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين. قالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا. قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم، ويستخلفكم في الأرض، فينظر كيف تعملون .

                                                                                                                                                                                                                                      إنها رؤية " النبي " لحقيقة الألوهية وإشراقها في قلبه. ولحقيقة الواقع الكوني والقوى التي تعمل فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولحقيقة السنة الإلهية وما يرجوه منها الصابرون..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى رب العالمين إلا ملاذ واحد، وهو الملاذ الحصين الأمين، وإلا ولي واحد وهو الولي القوي المتين. وعليهم أن يصبروا حتى يأذن الولي بالنصرة في الوقت الذي يقدره بحكمته وعلمه.

                                                                                                                                                                                                                                      وألا يعجلوا، فهم لا يطلعون الغيب، ولا يعلمون الخير..

                                                                                                                                                                                                                                      وإن الأرض لله. وما فرعون وقومه إلا نزلاء فيها. والله يورثها من يشاء من عباده - وفق سنته وحكمته - فلا ينظر الداعون إلى رب العالمين، إلى شيء من ظواهر الأمور التي تخيل للناظرين أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها.. فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم منها! وإن العاقبة للمتقين.. طال الزمن أم قصر.. فلا يخالج قلوب الداعين إلى رب العالمين قلق على المصير.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يخايل لهم تقلب الذين كفروا في البلاد، فيحسبونهم باقين..

                                                                                                                                                                                                                                      إنها رؤية " النبي " لحقائق الوجود الكبير..

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن إسرائيل هي إسرائيل! قالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا :

                                                                                                                                                                                                                                      إنها كلمات ذات ظل! وإنها لتشي بما وراءها من تبرم! أوذينا قبل مجيئك وما تغير شيء بمجيئك. وطال هذا الأذى حتى ما تبدو له نهاية! ويمضي النبي الكريم على نهجه. يذكرهم بالله، ويعلق رجاءهم به، ويلوح لهم بالأمل في هلاك عدوهم. واستخلافهم في الأرض. مع التحذير من فتنة الاستخلاف. قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم، ويستخلفكم في الأرض، فينظر كيف تعملون .

                                                                                                                                                                                                                                      إنه ينظر بقلب النبي فيرى سنة الله، تجري وفق وعده، للصابرين، وللجاحدين! ويرى من خلال سنة الله [ ص: 1356 ] هلاك الطاغوت وأهله، واستخلاف الصابرين المستعينين بالله وحده. فيدفع قومه دفعا إلى الطريق لتجري بهم سنة الله إلى ما يريد.. وهو يعلمهم - منذ البدء - أن استخلاف الله لهم إنما هو ابتلاء لهم. ليس أنهم أبناء الله وأحباؤه - كما زعموا - فلا يعذبهم بذنوبهم! وليس جزافا بلا غاية. وليس خلودا بلا توقيت. إنه استخلاف للامتحان: فينظر كيف تعملون .. وهو سبحانه يعلم ماذا سيكون قبل أن يكون. ولكنها سنة الله وعدله ألا يحاسب البشر حتى يقع منهم في العيان، ما هو مكشوف من الغيب لعلمه القديم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية