الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      والآن نأخذ في شيء من استعراض طبيعة الموقف بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم سواء من الناحية الموضوعية الثابتة، أو من ناحية المواقف التاريخية الواقعة... فهذه هي العناصر الرئيسية التي انتهت إلى هذه الأحكام النهائية.

                                                                                                                                                                                                                                      إن طبيعة الموقف بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم يجب البحث عنها أولا: في تقريرات الله - سبحانه - عنها، باعتبار أن هذه هي الحقيقة النهائية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها; وباعتبار أن هذه التقريرات - بسبب كونها ربانية - لا تتعرض لمثل ما تتعرض له الاستنباطات والاستدلالات البشرية من الأخطاء.. وثانيا: في المواقف التاريخية المصدقة لتقريرات الله سبحانه!

                                                                                                                                                                                                                                      إن الله سبحانه يقرر طبيعة موقف أهل الكتاب من المسلمين في عدة مواضع من كتابه الكريم.. وهو تارة يتحدث عنهم - سبحانه - وحدهم، وتارة يتحدث عنهم مع الذين كفروا من المشركين; باعتبار أن هنالك وحدة هدف - تجاه الإسلام والمسلمين - تجمع الذين كفروا من أهل الكتاب والذين كفروا من المشركين. وتارة يتحدث عن مواقف واقعية لهم تكشف عن وحدة الهدف ووحدة التجمع الحركي لمواجهة الإسلام والمسلمين.. والنصوص التي تقرر هذه الحقائق من الوضوح والجزم بحيث لا تحتاج منا إلى تعليق.. وهذه نماذج منها..

                                                                                                                                                                                                                                      ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ... (البقرة: 105).

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1626 ] ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم، من بعد ما تبين لهم الحق ... (البقرة: 109).

                                                                                                                                                                                                                                      ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ... (البقرة: 120).

                                                                                                                                                                                                                                      ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ... (آل عمران: 69).

                                                                                                                                                                                                                                      وقالت طائفة من أهل الكتاب: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ... (آل عمران: 72 - 73).

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ... (آل عمران:

                                                                                                                                                                                                                                      100)...

                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل، والله أعلم بأعدائكم... ... (النساء: 44 - 45).

                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ... (النساء: 51).

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه النماذج وحدها ما يكفي لتقرير حقيقة موقف أهل الكتاب من المسلمين... فهم يودون لو يرجع المسلمون كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق. وهم يحددون موقفهم النهائي من المسلمين بالإصرار على أن يكونوا يهودا أو نصارى، ولا يرضون عنهم ولا يسالمونهم إلا أن يتحقق هذا الهدف، فيترك المسلمون عقيدتهم نهائيا. وهم يشهدون للمشركين الوثنيين بأنهم أهدى سبيلا من المسلمين!... إلخ.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا نحن راجعنا الأهداف النهائية للمشركين تجاه الإسلام والمسلمين كما يقررها الله - سبحانه - في قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ... (البقرة: 217).

                                                                                                                                                                                                                                      ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ... (النساء: 102).

                                                                                                                                                                                                                                      إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ... (الممتحنة: 2).

                                                                                                                                                                                                                                      وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ... (التوبة: 8).

                                                                                                                                                                                                                                      لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ... (التوبة: 10).

                                                                                                                                                                                                                                      إذا نحن راجعنا هذه التقريرات الربانية عن المشركين، وجدنا أن الأهداف النهائية لهم تجاه الإسلام والمسلمين، هي بعينها - وتكاد تكون بألفاظها - هي الأهداف النهائية لأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين كذلك.. مما يجعل طبيعة موقفهم مع الإسلام والمسلمين هي ذاتها طبيعة موقف المشركين.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا نحن لاحظنا أن التقريرات القرآنية الواردة في هؤلاء وهؤلاء ترد في صيغ نهائية، تدل بصياغتها على تقرير طبيعة دائمة، لا على وصف حالة مؤقتة، كقوله تعالى في شأن المشركين:

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ..

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1627 ] وقوله تعالى في شأن أهل الكتاب:

                                                                                                                                                                                                                                      ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      إذا نحن لاحظنا ذلك تبين لنا بغير حاجة إلى أي تأويل للنصوص، أنها تقرر طبيعة أصيلة دائمة للعلاقات; ولا تصف حالة مؤقتة ولا عارضة!

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا نحن ألقينا نظرة سريعة على الواقع التاريخي لهذه العلاقات، متمثلة في مواقف أهل الكتاب - من اليهود والنصارى - من الإسلام وأهله، على مدار التاريخ، تبين لنا تماما ماذا تعنيه تلك النصوص والتقريرات الإلهية الصادقة; وتقرر لدينا أنها كانت تقرر طبيعة مطردة ثابتة، ولم تكن تصف حالة مؤقتة عارضة.

                                                                                                                                                                                                                                      إننا إذا استثنينا حالات فردية - أو حالات جماعات قليلة - من التي تحدث القرآن عنها وحواها الواقع التاريخي بدت فيها الموادة للإسلام والمسلمين; والاقتناع بصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدق هذا الدين. ثم الدخول فيه والانضمام لجماعة المسلمين.. وهي الحالات التي أشرنا إليها فيما تقدم.. فإننا لا نجد وراء هذه الحالات الفردية أو الجماعية القليلة المحدودة، إلا تاريخا من العداء العنيد، والكيد الناصب، والحرب الدائبة، التي لم تفتر على مدار التاريخ..

                                                                                                                                                                                                                                      فأما اليهود فقد تحدثت شتى سور القرآن عن مواقفهم وأفاعيلهم وكيدهم ومكرهم وحربهم; وقد وعى التاريخ من ذلك كله ما لم ينقطع لحظة واحدة منذ اليوم الأول الذي واجههم الإسلام في المدينة حتى اللحظة الحاضرة!

                                                                                                                                                                                                                                      وليست هذه الظلال مجالا لعرض هذا التاريخ الطويل. ولكننا سنشير فقط إلى قليل من كثير من تلك الحرب المسعورة التي شنها اليهود على الإسلام وأهله على مدار التاريخ..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد استقبل اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودينه في المدينة شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولا يعرفون صدقه، ودينا يعرفون أنه الحق..

                                                                                                                                                                                                                                      استقبلوه بالدسائس والأكاذيب والشبهات والفتن يلقونها في الصف المسلم في المدينة بكافة الطرق الملتوية الماكرة التي يتقنها اليهود.. شككوا في رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يعرفونه; واحتضنوا المنافقين وأمدوهم بالشبهات التي ينشرونها في الجو وبالتهم والأكاذيب. وما فعلوه في حادث تحويل القبلة، وما فعلوه في حادث الإفك، وما فعلوه في كل مناسبة، ليس إلا نماذجا من هذا الكيد اللئيم.. وفي مثل هذه الأفاعيل كان يتنزل القرآن الكريم. وسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والحشر والأحزاب والتوبة وغيرها تضمنت من هذا الكثير: ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم - وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا - فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين. بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله - بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده - فباءوا بغضب على غضب، وللكافرين عذاب مهين ... (البقرة: 89 - 90).

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1628 ] ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ... (البقرة: 101).

                                                                                                                                                                                                                                      سيقول السفهاء من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها. قل: لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ... (البقرة: 142).

                                                                                                                                                                                                                                      يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون. يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟ ... (آل عمران: 70 - 71).

                                                                                                                                                                                                                                      وقالت طائفة من أهل الكتاب: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ... (آل عمران: 72).

                                                                                                                                                                                                                                      وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون . (آل عمران: 78).

                                                                                                                                                                                                                                      قل: يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون؟ قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون ... (آل عمران: 98 - 99).

                                                                                                                                                                                                                                      يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء! فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، فقالوا: أرنا الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات... ... (النساء: 153).

                                                                                                                                                                                                                                      يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ... (التوبة: 32).

                                                                                                                                                                                                                                      كذلك شهد التاريخ نقض اليهود لعهودهم مرة بعد مرة وتحرشهم بالمسلمين، مما أدى إلى وقائع بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر. كما شهد تأليب اليهود للمشركين في الأحزاب، مما هو معروف مشهور.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم تابع اليهود كيدهم للإسلام وأهله منذ ذلك التاريخ.. كانوا عناصر أساسية في إثارة الفتنة الكبرى التي قتل فيها الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وانتثر بعدها شمل التجمع الإسلامي إلى حد كبير..

                                                                                                                                                                                                                                      وكانوا رأس الفتنة فيما وقع بعد ذلك بين علي - رضي الله عنه - ومعاوية.. وقادوا حملة الوضع في الحديث والسيرة وروايات التفسير.. وكانوا من الممهدين لحملة التتار على بغداد وتقويض الخلافة الإسلامية..

                                                                                                                                                                                                                                      فأما في التاريخ الحديث فهم وراء كل كارثة حلت بالمسلمين في كل مكان على وجه الأرض; وهم وراء كل محاولة لسحق طلائع البعث الإسلامي; وهم حماة كل وضع من الأوضاع التي تتولى هذه المحاولة في كل أرجاء العالم الإسلامي!

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك شأن اليهود، فأما شأن الفريق الآخر من أهل الكتاب، فهو لا يقل إصرارا على العداوة والحرب من شأن اليهود!

                                                                                                                                                                                                                                      لقد كانت بين الرومان والفرس عداوات عمرها قرون.. ولكن ما إن ظهر الإسلام في الجزيرة; وأحست الكنيسة بخطورة هذا الدين الحق على ما صنعته هي بأيديها وسمته "المسيحية" وهو ركام من الوثنيات القديمة، [ ص: 1629 ] والأضاليل الكنسية، متلبسا ببقايا من كلمات المسيح - عليه السلام - وتاريخه.. حتى رأينا الرومان والفرس ينسون ما بينهم من نزاعات تاريخيه قديمة وعداوات وثارات عميقة، ليواجهوا هذا الدين الجديد.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد أخذ الروم يتجمعون في الشمال هم وعمالهم من الغساسنة لينقضوا على هذا الدين. وذلك بعد أن قتلوا الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عامل بصرى من قبل الروم - وكان المسلمون يؤمنون الرسل ولكن النصارى غدروا برسول النبي صلى الله عليه وسلم وقتلوه - مما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث بجيش الأمراء الشهداء الثلاثة: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة في غزوة "مؤتة" فوجدوا تجمعا للروم تقول الروايات عنه: إنه مائة ألف من الروم ومعه من عملائهم في الشام من القبائل العربية النصرانية مائة ألف أخرى; وكان جيش المسلمين لا يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل. وكان ذلك في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم كانت غزوة تبوك التي يدور عليها معظم هذه السورة (وسيجيء تفصيل القول فيها في موضعه إن شاء الله تعالى). ثم كان جيش أسامة بن زيد الذي أعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبيل وفاته; ثم أنفذه الخليفة الراشد أبو بكر - رضي الله عنه - إلى أطراف الشام; لمواجهة تلك التجمعات الرومانية التي تستهدف القضاء على هذا الدين!

                                                                                                                                                                                                                                      ثم اشتعل مرجل الحقد الصليبي منذ موقعة اليرموك الظافرة، التي أعقبها انطلاق الإسلام لتحرير المستعمرات الإمبراطورية الرومانية في الشام ومصر وشمال إفريقية وجزر البحر الأبيض. ثم بناء القاعدة الإسلامية الوطيدة في الأندلس في النهاية.

                                                                                                                                                                                                                                      إن "الحروب الصليبية" المعروفة بهذا الاسم في التاريخ، لم تكن هي وحدها التي شنتها الكنيسة على الإسلام.. لقد كانت هذه الحروب مبكرة قبل هذا الموعد بكثير.. لقد بدأت في الحقيقة منذ ذلك التاريخ البعيد.. منذ أن نسي الرومان عداواتهم مع الفرس; وأخذ النصارى يعينون الفرس ضد الإسلام في جنوب الجزيرة. ثم بعد ذلك في "مؤتة". ثم فيما تلا موقعة اليرموك الظافرة.. ثم تجلت ضراوتها ووحشيتها في الأندلس عند ما زحفت الصليبية على القاعدة الإسلامية في أوربة، وارتكبت من الوحشية في تعذيب ملايين المسلمين وقتلهم هناك ما لم يعرف التاريخ له نظيرا من قبل.. وكذلك تجلت في الحروب الصليبية في الشرق بمثل هذه البشاعة التي لا تتحرج ولا تتذمم; ولا تراعي في المسلمين إلا ولا ذمة.

                                                                                                                                                                                                                                      ومما جاء في كتاب "حضارة العرب" لجوستاف لوبون - وهو فرنسي مسيحي - :

                                                                                                                                                                                                                                      "كان أول ما بدأ به ريكاردوس الإنجليزي أنه قتل أمام معسكر المسلمين ثلاثة آلاف أسير سلموا أنفسهم إليه، بعد أن قطع على نفسه العهد بحقن دمائهم. ثم أطلق لنفسه العنان باقتراف القتل والسلب، مما أثار صلاح الدين الأيوبي النبيل، الذي رحم نصارى القدس، فلم يمسهم بأذى، والذي أمد فيليب وقلب الأسد بالمرطبات والأدوية والأزواد أثناء مرضهما".

                                                                                                                                                                                                                                      كذلك كتب كاتب مسيحي آخر (اسمه يورجا) يقول: [ ص: 1630 ] "ابتدأ الصليبيون سيرهم على بيت المقدس بأسوأ طالع، فكان فريق من الحجاج يسفكون الدماء في القصور التي استولوا عليها. وقد أسرفوا في القسوة فكانوا يبقرون البطون، ويبحثون عن الدنانير في الأمعاء! أما صلاح الدين، فلما استرد بيت المقدس بذل الأمان للصليبيين، ووفى لهم بجميع عهوده، وجاد المسلمون على أعدائهم ووطئوهم مهاد رأفتهم حتى أن الملك العادل، شقيق السلطان، أطلق ألف رقيق من الأسرى، ومن على جميع الأرمن، وأذن للبطريرك بحمل الصليب وزينة الكنيسة، وأبيح للأميرات والملكة بزيارة أزواجهن".

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يتسع المجال في الظلال لاستعراض ذلك الخط الطويل للحروب الصليبية - على مدار التاريخ - ولكن يكفي أن نقول: إن هذه الحرب لم تضع أوزارها قط من جانب الصليبية. ويكفي أن نذكر ماذا حدث في زنجبار حديثا. حيث أبيد المسلمون فيها عن بكرة أبيهم، فقتل منهم اثنا عشر ألفا وألقي الأربعة الآلاف الباقون في البحر منفيين من الجزيرة! ويكفي أن نذكر ماذا وقع في قبرص، حيث منع الطعام والماء عن الجهات التي يقطنها بقايا المسلمين هناك ليموتوا جوعا وعطشا فوق ما سلط عليهم من التقتيل والتذبيح والتشريد! ويكفي أن نذكر ما تزاوله الحبشة في أريترية وفي قلب الحبشة، وما تزاوله كينيا مع المائة ألف مسلم الذين ينتمون إلى أصل صومالي، ويريدون أن ينضموا إلى قومهم المسلمين في الصومال! ويكفي أن نعلم ماذا تحاوله الصليبية في السودان الجنوبي!

                                                                                                                                                                                                                                      ويكفي لتصوير نظرة الصليبيين إلى الإسلام أن ننقل فقرة من كتاب لمؤلف أوربي صدر سنة 1944 يقول فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      "لقد كنا نخوف بشعوب مختلفة. ولكننا بعد اختبار لم نجد مبررا لمثل هذا الخوف.. لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي، والخطر الأصفر، وبالخطر البلشفي. إلا أن هذا التخويف كله لم يتفق كما تخيلناه. إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد! ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا. أما الشعوب الصفراء فهنالك دول ديمقراطية كبرى تقاومها. ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قوته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته.. إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي".

                                                                                                                                                                                                                                      ولا نستطيع أن نمضي أبعد من ذلك في استعراض تاريخ تلك الحرب العاتية التي أعلنتها الصليبية على الإسلام وما تزال.. وقد تحدثنا من قبل مرارا في أجزاء الظلال السابقة - بمناسبة النصوص القرآنية الكثيرة - عن طبيعة هذه المعركة، الطويلة، ومسائلها وأشكالها. فحسبنا هذه الإشارات السريعة هنا بالإحالة على بعض المراجع الأخرى القريبة.

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا نرى من هذا الاستعراض السريع - بالإضافة إلى ما قلناه من قبل عن طبيعة الإعلان الإسلامي العام [ ص: 1631 ] بتحرير الإنسان، وتحفز الجاهلية في الأرض كلها لسحق الحركة التي تحمل هذا الإعلان العام وتنطلق به في الأرض كلها - أن هذه الأحكام الأخيرة الواردة في هذه السورة، هي المقتضى الطبيعي لهذه الحقائق كلها مجتمعة; وأنها ليست أحكاما محددة بزمان، ولا مقيدة بحالة. وإن كان هذا في الوقت ذاته لا ينسخ الأحكام المرحلية السابقة النسخ الشرعي الذي يمنع العمل بها في الظروف والملابسات التي تشابه الظروف والملابسات التي تنزلت فيها. فهناك دائما طبيعة المنهج الإسلامي الحركية، التي تواجه الواقع البشري مواجهة واقعية، بوسائل متجددة، في المراحل المتعددة.

                                                                                                                                                                                                                                      وحقيقة أن هذه الأحكام النهائية الواردة في هذه السورة كانت تواجه حالة بعينها في الجزيرة; وكانت تمهيدا تشريعيا للحركة المتمثلة في غزوة تبوك، لمواجهة تجمع الروم على أطراف الجزيرة مع عمالهم للانقضاض على الإسلام وأهله - وهي الغزوة التي يقوم عليها محور السورة - ولكن وضع أهل الكتاب تجاه الإسلام وأهله لم يكن وليد مرحلة تاريخية معينة. إنما كان وليد حقيقة دائمة مستقرة; كما أن حربهم للإسلام والمسلمين لم تكن وليدة فترة تاريخية معينة. فهي ما تزال معلنة ولن تزال.. إلا أن يرتد المسلمون عن دينهم تماما!.. وهي معلنة بضراوة وإصرار وعناد، بشتى الوسائل على مدار التاريخ! ومن ثم فهذه الأحكام الواردة في هذه السورة أحكام أصيلة وشاملة وغير موقوتة بزمان ولا مقيدة بمكان.. ولكن العمل بالأحكام إنما يتم في إطار المنهج الحركي الإسلامي، الذي يجب أن يتم الفقه به، قبل أن يتحدث المتحدثون عن الأحكام في ذاتها. وقبل أن يحمل واقع ذراري المسلمين - الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - وضعفهم وانكسارهم على دين الله القوي المتين!

                                                                                                                                                                                                                                      إن الأحكام الفقهية في الإسلام كانت - وستظل دائما - وليدة الحركة وفق المنهج الإسلامي. والنصوص لا يمكن فهمها إلا باستصحاب هذه الحقيقة.. وفرق بعيد بين النظرة إلى النصوص كأنها قوالب في فراغ; والنصوص في صورتها الحركية وفق المنهج الإسلامي. ولا بد من هذا القيد: "الحركة وفق المنهج الإسلامي" فليست هي الحركة المطلقة خارج المنهج; بحيث نعتبر "الواقع البشري" هو الأصل أيا كانت الحركة التي أنشأته، ولكن "الواقع البشري" يصبح عنصرا أساسيا في فقه الأحكام إذا كان قد أنشأه المنهج الإسلامي ذاته.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي ظل هذه القاعدة تسهل رؤية تلك الأحكام النهائية في العلاقات بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم; وهي تتحرك الحركة الحية; في مجالها الواقعي; وفق ذلك المنهج الحركي الواقعي الإيجابي الشامل.

                                                                                                                                                                                                                                      وحسبنا هذا التمهيد المجمل لنواجه في ظله النصوص القرآنية الواردة في هذا المقطع:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية